الكنتسوجي ، فن الشفاء ـ محمود يعقوب

الكنتسوجي ، فن الشفاء 

ـ محمود يعقوب

 

( منذ قرون ، يوجد في اليابان فن يُدعى كونتسوجي ، وفيه يتم إصلاح الأواني والأطباق المكسورة وغيرها ، باستخدام الذهب أو الفضة السائلين بعد خلطهما مع مواد أخرى . يعبّر هذا الفن بصورة رمزية عن أن الانكسارات والصعاب في حياة الإنسان هي التي تُبرز جماله الداخلي وتضيف له قيمة أكبر ، مثلما يضيف الذهب القيمة لشيء مكسور ) .

  

   الكنتسوجي ، وتُعرف في اليابان أيضاً باسم جين جي ، وتعني الإصلاح بالذهب . وهي تقنية ترمي لإصلاح الخزف والفخار المحطّم وإعادته إلى الاستعمال ثانية بشكل قوي وجميل . حيث تعمد هذه التقنية إلى استخدام أنواع من الطلاء مثل ” الورنيش الخام ، والورنيش الأسود ، وطلاء البنزرا ، وما إلى ذلك ” ، وخلط الورنيش مع مسحوق الذهب ، أو مسحوق الفضة ، أو مسحوق البلاتين ، لإصلاح الفخار التالف ؛ وجعله يولد من جديد قويّاً وأنيقاً ، وقد اكتسب طابع الاستدامة ، وتوشّح بلمسات جميلة ، وهذا ما يجعل هذه التقنية تحظى بموضع تقدير من الجمهور .

   نشأت فكرة الإصلاح ، كنتسوجي ، في اليابان ، وهي البلد الأكثر شيوعاً في استخدامها ؛ في القرن الخامس عشر ، حينما حطّم أحد الشوغانات الكبار ، وهو الشوغون أشيكاغا يوشيماسا ، وعاء شاي عتيق ونفيس ، كان الشوغون يعتزّ به كثيراً ؛ فاضطر أن يعيده إلى مكان إنتاجه في الصين ، بغية إصلاحه . ومع ذلك ، عندما أعيد وعاء الشاي إلى مكتبه ، عقب إصلاحه ، لم يكن راضياً عن طريقة إصلاحه ، التي تمّت بصورة بدائية ، بعيدة عن الذوق والفن .فقد تمّ تثبيت شظايا وعاء الشاي بسلك معدني بعد إعمال ثقوب صغيرة فيها ، وهو ما لم يكن جميلاً . وقال البعض ممن شاهده أن وعاء الشاي سيسرب الماء لا محال . لذلك طلب الشوغون أشيكاغا من الحرفيين اليابانيين ابتكار طريقة مناسبة لإصلاحة ، بما يتلائم مع قيمة الوعاء وأهميته . ولم يخبْ هؤلاء الحرفيين المهرة آماله ، إذ سرعان ما نجحوا بابتكار طريقة لربط قطع الخزف مع بعضها البعض بالاعتماد على الورنيش ومسحوق الذهب ، وبمساعدة بعض المواد الأخرى ، بحيث لم تعد الشقوق ذات مظهر قبيح ، وإنّما عادت على شكل خطوط ذهبية أضفت على الوعاء شكلاً جمالياً جديداً . إن هذه الطريقة لا تطيل عمر الأطباق فحسب ولكنها تغيّر مظهرها ، وتجعل أصحابها يشعرون وكأنهم حصلوا على شيء جديد . أضفْ إلى ذلك أنه يوفّر تكلفة شراء مثل هذه التحف الباهظة الأثمان . إذن ، إذا حطّمت وعاءاً أو مزهرية ، ذات إرث تاريخي ، أو لها قيمة عاطفية ، فسوف لن تدّخر جهداً لمحاولة إصلاحه ، بحيث تكون مواضع الكسور غير مرئية ، بل ومثبّتة بإحكام وجمالية  ؛ وبالتالي يصبح الكسر والإصلاح جزءاً من تاريخ القطعة .

   يستخدم كونتسوجي أنواع خاصة من الراتنجات النباتية ( الصمغ ) ، وأشهرها النوع المعروف باسم ” الأوروشي ” ، وهو يُستخرج من جذوع أنواع معينة من الأشجار ، جرى استخدامه كغراء ومعجون ودهان منذ آلاف السنين في اليابان . وفي تقنية كنتسوجي ، يتم خلطه مع مسحوق الذهب أو الفضة أو البلاتين ، وفي بعض الحالات يكتفون بخلطه مع الفضة فقط ، بينما يتم تمويه الشق الخارجي بالذهب . وهذا الراتنج مادة لاصقة مثالية للبيئة الرطبة في اليابان ، لأنه يجف ، أو يتصلّب بامتصاص الرطوبة من الهواء ؛ الطلاء نفسه مادة شديدة التحمّل ، وهي شديدة اللصق .

   شيء آخر مثير للاهتمام ، هو أن عملية كنتسوجي ، يستغرق فيها الراتنجات وقتاُ طويلاً حتى يجف ( أسابيع أو حتى أشهر ) ، وهذا يعني أن عملية ” الشفاء ” يمكن أن تستغرق وقتاً طويلاً ، وتتطلب صبراً وأناة . يستغرق الإصلاح البسيط شهراً ، من البداية إلى النهاية ، بينما تتطلّب أعمال الترميم الأكثر تعقيداً شهرين .

أصبح هواة الكونتسوجي مغرمين حقّاً بهذا الفن الرفيع ، لدرجة أن البعض اتهم بتحطيم الفخار عمداً حتى يمكن اصلاحه بدرزات الذهب ، واسباغ المزيد من الجمال الفني عليه .

   تُروى قصة أحد فلاسفة ( وابي سابي ) في اليابان ، وهو سين نوريكيو( ١٥٢٢ ـ ١٥٩٩ ) ، في رحلة قام بها عبر جنوب اليابان . تمّت دعوته ذات مرّة إلى مأدبة عشاء من قبل مضيف ، اعتقد أنه سيبهر ضيفه بمرأى جرّة جميلة كان يمتلكها ؛ وهي وعاء شاي عتيق وغالي الثمن ، كان صاحبه قد اشتراه من الصين . لكن يبدو أن الفيلسوف نوريكيو لم يهتم بملاحظة الجرّة ، وبدلاً من ذلك أمضى وقته في الدردشة والاستمتاع بفرع شجرة يتمايل في النسيم . وفي حالة من اليأس ، وبمجرد أن غادر نوريكيو ، حطّم المضيّف الجرّة ، وانسحب إلى غرفته غاضباً ومحبطاُ .

لكن الضيوف الآخرين سارعوا إلى جمع شظايا الجرّة ، وعهدوا بها إلى أحد حرفيي الكونتسوجي الماهرين ، الذي أعاد الحياة إليها مرّة أخرى . وعندما عاد الفيلسوف نوريكيو للزيارة ثانية ، التفت إلى الجرّة التي تم إصلاحها ، وصرخ مبتسماً :

” الآن إنها رائعة ! ” .

   انتقل هذا الفن الحرفي الياباني إلى دول أخرى في شرق آسيا ، مثل الصين وفيتنام وكوريا .

وفي العصر الحديث شاع أمره في أوربا وأمريكا . ولم يعد كونتسوجي يقتصر على ترميم الخزف والفخار والسيراميك التاريخي والثمين ، وإنما بات يُستغل في ترميم أمور كثيرة ، لا سيما تلك التي تمتاز بطابع فني فريد .

 

                                                         ***

لماذا يعتبر هذا الفن مهم لنا كبشر ؟ .

   في لحظات الانكسار ، وخيبات الأمل ، قد نحوّل أذهاننا إلى مفهوم مستمد من الفلسفة اليابانية ، وعلى وجه الخصوص من نهج الزن البوذي إلى الخزف . على مر القرون ، طوّر معلموا الزن حجة مفادها أن الأواني والأكواب والأوعية التي تعرّضت للتلف لا ينبغي ، ببساطة اهمالها أو التخلص منها ، يجب إصلاحها بعناية فائقة .

هذه العملية ترمز إلى المصاالحة مع عيوب وحوادث الزمن .

   سواء كان المرء يعاني من الهجر ، أو الفقدان ، أو الخسارة ، أو أي نوع  من المآسي الشخصية ، فإن هذه الممارسة لإصلاح الأشياء المكسورة قد تساعد في شفاء ما ينكسر فيه . إن الكنتسوجي مبني على فكرة أنه عند احتضان العيوب يمكن إنشاء قطعة فنية أقوى وأكثر جمالاً . وهكذا بالنسبة للإنسان .

   إن استخدام كنتسوجي كإستعارة لشفاء أنفسنا يُعلمنا درساً مهماً : في بعض الأحيان ، في عملية إصلاح الأشياء التي تحطّمت فينا وما تتركه من ندوب عميقة وكسور. يمكن لهذه الفكرة أن تخلق شيئاً فريداً ، وأكثر جمالية ومرونة ؛ يكشف كنتسوجي عن كيفية الشفاء ، ويظهر لك أنك أفضل مع تشقّقاتك الذهبية . يمكن أن يكون الكنتسوجي وسيلة لإعادة صياغة المصاعب ، وتذكير نفسك بأنك لست ضحية لظروفك ، ويمكنه مساعدتك على الخروج من الجانب الآخر الأقوى .

   تقول الباحثة كانديس كوماي في كتابها :

Kintsugi wellness

” إنك لن تدرك إمكاناتك الكاملة حتى تمر بأوقات عصيبة ” . وهي ترى أن ” الجميع يمرون بأوقات عصيبة ، وليس بالضرورة أن يعيشوا حياة مثالية ” . إن احتضان الأجزاء الجيدة والسيئة في أنفسنا يمنحها القوة ، واحتضان النقص يعني أننا نحتفل بنقاط قوتنا .

   والباحثة كوماي تعتقد أن الكونتسوجي يشجعنا على الاستفادة من قوتنا الداخلية ، والتركيز على إمكاناتنا .

وتقول كوماي : ” إذا كان بإمكاننا ممارسة القوة من الداخل ، فهذا أقوى من أي شيء سلبي ” .

   إذن ، الكونتسوجي فن وفلسفة في نفس الوقت ، وهي جزء من روح فلسفة ( الوابي سابي ) اليابانية ، والتي هي عبارة عن أيديولوجية قديمة ترمي إلى العثور على الجمال في العيوب .

   في هذا العصر الذي يعبد الشباب والجديد والكمال ، يحتفظ فن الكونتسوجي بحكمة خاصة ـ تنطبق على حياتنا كما تنطبق على فنجان الشاي المكسور ـ يجب أن يمنحنا الاهتمام والحب اللذين يتم انفاقهما على الأواني المحطمة الثقة في احترام ما هو تالف ومخرّب ، وضعبف ، وغير كامل ، بدءاً من أنفسنا وما حولنا .

 

 

المصادر :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1: Kintsugi – Art of Repair , traditionalkyoto.com .

2 : Kelly Richman – Abdou ,  Kintsugi: The Centuries-Old Art of Repairing Broken Pottery with Gold , mymodernmet.com September 5, 2019

3 :Andrea Mantovani , KINTSUGI AND THE ART OF REPAIR: life is what makes us , medium.com , Sep 19 . 2019 .

4 : Kintsugi , heschooloflife.com .

 5 : Kintsugi , Wikipedia , the free encyclopedia

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *