أخالُ أنّني حدثتكم عن ( أبو علي البعشيقي ) ذات مرّة ، وربما لم يزل اسمه عالقاً قي أذهانكم .
ولكن حدث أن التقيت به عرضاً ، مرّة أخرى ، وكان يعمل في شارع صغير ، خلف أبنية المجمع الحكومي ، قابضاً على ذراع مجرفته كالعادة ، ومنهمكاً في عمله ، من غير أن يعير أدنى وعي لما يدور من حوله . غطّى العرق جبينه . وما برح يملأ عربة بناء حديدية ، من مخلّفات منزلٍ جرى ترميمه حديثاً ، كان ينقلها إلى أرض خلاء قريبة ، ليكبّها هنالك .
« الجماعة ، وأشار برأسه نحو المنزل الذي يعمل فيه ، سوف يحيون هذه الليلة حفلة عرس ، وعلي أن أرفع جميع مخلّفات البناء هذه عن رصيف منزلهم » .
« كل هذه ؟ » .
أطلقت دهشتي في وجهه ، وأنا أحدّق إلى كدسين كبيرين ، من أنقاض ، ومخالّفات بناء ، بالغة التنوّع ، وقد توزّعا على يمين باب المنزل وشماله .
« نعم » .
« وخلال هذا اليوم ؟ » .
« سيكون أمرها هيّناً على الرغم من مشقّة العمل » .
« كان الله في عونك » .
عندما أمعنت النظر في تلك الأنقاض ، قدّرت أنّ ثلاثة رجال عاملين ، أو حتى خمسة منهم ، ينبغي أن يعملوا بهمة ، كي ينجحوا في رفع مثل هذا القدر من الأحجار ، والرمل ، والحصى ، وشظايا الحديد والخشب … ولكنّ وجود ( البعشيقي ) كان كافياَ لإتمام العمل على خير حال ،
لمثل هذه المشاق خلق الله ( البعشيقي ) ، وأمدّه بالقوة ، والوحدة .
كان مالك ذلك المنزل رجلاً حديث النعمة ، بالغ الحرص . وكان يسعى بطموح لا ينضب نحو الثراء . تسلّل من الريف ليستقر في المدينة . وسرعان ما نجح بدهائه ، وصيت ثرائه ، أن يتغلغل في عروق المدينة ونسيجها . ابتاع له منزلاً رحباً في هذا الشارع ، ومضى إلى ترميمه ، وتزيينه بعناية ، وجعل له واجهة بارزة ، فخمة . فأحجار الديكور الرمادية الدكناء أضفت على تلك الواجهة ميزتي الصلابة والضخامة معاً .
ربما كان أفضل ما أتى به الرجل من أعمال ، إنّه أبقى على حديقة المنزل العامرة ، من غير أن يعبث بها ، بل إنّه أخذ يدعمها بخضروات الغذاء ، بكل ما أوتي من أحاسيس الفلّاحين .
كان ( أبو صالح ) ، وهذا هو اسمه ، رجلاً ذا بنية متينة ، وذقن عريض ، ويلوح وجهه يابساً ، أصمّاً ؛ يشمّر ، في كل الأوقات كوفية ناصعة البياض حول هامته ، يرفرف طرفاها مثل جناحين .
كان استخدامه ( البعشيقي ) للعمل في منزله نابعاً عن دراية ، وخبرة فيها الكثير من ألوان الحرص ، ومعرفة ماكرة بمن من العمّال يمكنه أن يستعين ، من دون أن يضطرّ إلى دفع أجر عالِ ! .
رجل نادر ، هذا ما توصفه به نساء الشارع .، وجميع من كنّ على معرفة به .
كان الشارع مفعماً بالسكينة . يكاد لا يُسمع بين جانبيه سوى صرير المجرفة وهي تحتكّ ببلاط الرصيف .
جرياً على عادته ، طفق ( العشيقي ) يعمل بصمت ، ومثابرة .
درج الناس أن يرتّبوا حفلاً مناسباً لعريسهم قبل ليلة من موعد زفافه .. حفلاً يتخلّله الغناء والطرب ، وربّما جرى تقديم الشراب المسكّر أيضاً . ولا يخلو الحفل من إعداد عشاء مناسب لذوي العريس . واتفق الناس على تسمية هذا النوع من الاحتفالات باسم ( ليلة الحنّاء ) .
بدأت استعدادات عائلة ( أبو صالح ) منذ الصباح الباكر ، فيما كانت مجرفة ( البعشيقي ) تحكّ رصيف المنزل مجلجلة .
عند ساعات الضحى ، بدأ باب المنزل يُفتح من آن لآخر ، فتندلق عبره رائحة الطعام الذي يفور في القدور في باحة المنزل ، تهبّ تلك الروائح على وجه ( البعشيقي ) دافئة ، وتفغمه بطعم اللحوم الشهيّة ، وتثير في نفسه مشاعر الجوع . مثل هذه الروائح كانت تهزّ حماسه في العمل ، وتحرّك مرحه ، وتجعل صرير عربته يبدّد سكون الشارع .
عند الساعة الثانية عشر ، عاد ( أبو صالح ) من محل عمله ، وشرع يتفحص ما أنجزه ( البعشيقي ) من عمل ، حتى تلك الساعة ، وقد لمعت عيناه دهشة وسروراً ، وهو يرى معظم تلك المخلّفات قد أزيحت عن باب منزله . فصاح بصوت يغلبه المرح :
« الله يساعدك يا ( أبو علي ) » .
« وساعدك الله يا ( أبو صالح ) » .
« ابذلْ ما في وسعك لأجل أن تفرغ من العمل مبكّراً » .
« والله ، أنا أعمل بأقصى ما في طاقتي منذ أوّل الصباح ، ولكنّ أكوام الحصى والحجارة كبيرة ، كما ترى عيناك ، ونقلها ليس بالأمر الهيّن » .
في إشارته هذه ، كان ( البعشيقي ) يرمي إلى زيادة في أجره لدى هذا الرجل .
« لا شيء صعب وأنت سالم ، همْ نفسك على العمل يا رجل » .
وقف ( أبو صالح ) عند باب منزله ، وشرّع أحد مصراعيه ، وهتف يسأل شابّاً ، كان منهمكاً بأعمال الطبخ :
« هل الغداء جاهز؟ » .
سأل ذلك ، وهو ينظر من زاوية عينيه إلى ( البعشيقي ) . إنّ رجلاً ريفياً مثله يعرف جيداً على أي وتر من الأوتار يمكن أن ينقر .
تُرِكت الباب مشرّعة ، وكان بوسع ( البعشيقي ) أن يرى شبّاناً في مقتبل العمر يتخاطفون من هنا وهناك . كانت مشاعر الفرح تسبغ الخفة على سلوكهم .
كانوا جميعاً يرفلون بثياب حريرية ، من كل الألوان ، تعلو شفاههم الابتسامات المشرقة ، والكثير من الكلمات الجارحة .
ما لبث أن خرج ( أبو صالح ) إلى فناء المنزل ، مرتدياً ثوباً أبيض اللون ، مفتوح الأزرار ، وهو يرفع أذيال ثوبه بكلتا يديه ، وقد تدلّى سرواله التحتي ، الفضفاض ، أسفل ركبتيه ، ووقف يتفحّص قدور الطبخ ، واحداً ، واحداً .
طفحت جملة أحاسيس سوداء في دخيلة ( البعشيقي ) ، وغلب التجهم على وجهه ، وهو يتأمل الرجل . وقال محدّثاً نفسه :
« إنّ رجلاً أفنى شبابه ، يخدم في الجيش برتبة رئيس عرفاء ، ثم تحزّم ، فيما بعد ، للحياة بمائة حزام ، ليس ثمّة أمل فيه بتاتاً » .
ثم حدّق في ذقنه الحديدي وعاد ليقول :
« لا أثق بأنه سيزيد من أجري فلساً واحداً » .
فترت يداه ، وسرى برد خفيف في مفاصلهما وهو يفكّر بتلك الطريقة ، بينما أحسّ بتراخ في قدميه .
كان لفيف من الصبيان والشبّان يعملون في المنزل ، بصخب وضوضاء ، يُسمع لهم دويّاً وهم يعدّون الطعام ، وينظّفون ، ويسحبون الأثاث من مكان لآخر . بدأوا منذ الصباح ، ولكن لا يلوح في الأفق أنّهم سوف يفرغون من عملهم هذا في أي وقت من الأوقات ! .
قبيل الظهر ، راحوا يطلّون على ( البعشيقي ) ، مستنجدين به في رفع بعض الأثاث الثقيلة ونقلها ، وهذا ما كان يثير غضبه ، واستيائه ، إلّا أنّه كان يسارع إلى كظم مشاعره حالما يتشمّم رائحة اللحم والمرق .
حينما أزف موعد الغداء ، خرج ( أبو صالح ) وألقى نظرة عبر الشارع ، شاهد الجهد العظيم الذي أتى به ( البعشيقي ) لغاية ذلك الوقت ، ولكن لم تزل هنالك أكوام من مخلّفات البناء ، وتستدعي جهداً أعظم ، ووقتاً أكثر ، وفقاً لتوقّعاته . عاد أدراجه إلى داخل المنزل ، وخاطب أولاده قائلاً :
« ثمة عمل شاق لم يزل ينتظر هذا الرجل ، هيئوا له غداءً دسماً ، حتى ينطلق لإتمام عمله » .
وبعد ما يقرب من نصف ساعة ، ندهوا عليه ، وأجلسوه في الحديقة ، وقد وضعوا بين يديه صينية عامرة باللحم والمرق ، وهذا ما كان ينتظره بفارغ الصبر .
« كلْ ولا تتردّد يا أبو علي ، وإذا احتجت إلى المزيد ، اخبرْ ولدي بذلك » .
قال له ( أبو صالح ) ذلك ، وهو يتركه لينفرد بغدائه في الحديقة .
شرع يتناول غداءه ، وهو يتأمل الضفادع التي ملأت أركان الحديقة ، بأعدادها العجيبة .
طوال فترة الظهر والعصر ، تفانى ( البعشيقي ) في رفع ما تبقّى من الأنقاض ، وهو يبذل أقصى ما في وسعه ليفرغ من عمله ، على الرغم من انبعاث مشاعر الندم في دخيلته ، لتورّطه في عمل شاق ومجهد كهذا .
توالى عمله حتى ثوران الشفق ، الذي شرع يسبغ حمرته الباردة على أعالي أغصان الشجر ، في حدائق البيوت المجاورة . كان ( البعشيقي ) قد نقل إلى الأرض الخلاء أكواماً من الحجارة ، والتراب ، والحصى .. أكواماً تجعل الناظر إليها سيذهل إذ يرى عاملاً بمفرده فعل كل ذلك ! .
عمل الرجل من غير أن تفترّ عزيمته ، عمل تجسّدت فيه أروع مشاهد الإخلاص ـ هكذا هو دأب ( البعشيقي ) دائماً ـ وكان في انكبابه على عمله يثير الانتباه والتعاطف أيضاً .
أوشك النهار على الانصرام ، ولم تزل ثمة بقايا من تلك المخلفات لمّا تُرفع بعد . أسرع البعشيقي في عمله ، وقد أدرك أن الوقت يضيق أمام عينيه .
بدأ المعارف ، والأصدقاء يتوافدون على بيت العريس مبكّراً . وفي إحدى المرّات التي كان ( البعشيقي ) يهم أثناءها بدفع عربته المليئة بالتراب ، تنسًم فجأة رائحة الخمر ، وقد ركضت إليه متلهفة من بين ثنايا حديقة المنزل . توقّف الرجل في الحال ، ورفع صدره عالياً ، واستاف تلك الرائحة بعمق ، واشتياق ، جعلت الغسق يرقص بين عينيه .
ما لبث أن استشاط لهفة ، مثل طير ضاميء ، وراح يرفرف وهو يعمل ، وينظر يميناً وشمالاً في حيرة من أمره .
كان مصراعي باب المنزل مفتوحين ، نظر ( البعشيقي ) عبر الممر ، لم يكن هناك أحد ، فتجرّأ ودلف إلى باحة الدار ، وهو ينظر حواليه متفحّصاً ، كمن يهتمّ بعمل ما . رأى كرسيّاً ملقى في الممر ، فحمله فوراً ، وراح يصفّه إلى جوار الكراسي المركونة قرب باب المنزل الداخلي ؛ وهو يختلس النظر إلى كل ركن أمام عينيه . رأى آنية لم تزل فيها بقايا طعام ، حملها أيضاً ووضعها قرب باب المطبخ ، المطل على حديقة المنزل . أخذ الرجل يشغل نفسه بأعمال لم يكلّفه بها أحد بالمرّة ! .
كانت الجلبة تستعر في أعماق الدار . لم يسع إلى الخروج بغية إتمام عمله في الشارع، بل كان مصرّاً على معرفة مكان الخمر ، الذي تسرّبت رائحته العنيدة في باحة الدار .
لم يصعب عليه ذلك ، تمكّن في نهاية الأمر من اكتشاف موضعه . كان الخمر في مخزن صغير ، يطل على الحديقة مباشرة ، إلى جوار المطبخ ، وقد أسدلت ستارة سميكة على بابه المفتوح .
حالما تأكّد من ذلك ، هرع نحو مكنسة ، وقع نظره عليها في الجهة المقابلة له من جدار البيت فأسرع يحملها ويكنس بها باحة المنزل ، وهو يحوم حول المخزن الصغير .
خرج أحد الشبّان ، وانطلق يكيل له المديح والثناء ، إذ شاهده يتفانى في تنظيف الدار ، ويذكّره بجهوده المخلصة ، ويقول له :
« أتعبناك كثيراً معنا هذا اليوم ، نشكر إخلاصك يا عم » .
ولكن ما أن غاب هذا الشاب في أعماق المنزل حتى انقض ( البعشيقي ) على المخزن ، في منتهى السرعة ، والخفّة . رفع الستارة ، ودقّق في المكان الصغير ، المعتم ، بنظرة شاملة . كان هنالك نضد حديدي ، اصطفت فوقه مجموعة من قناني الخمر ، وكانت جميعها من نوع واحد . أخذ يعدّ تلك القناني بسبابته ، وما لبث أن ابتسم ، وقال في سريرته : إنّها ثمانية توائم حديثة الولادة .
كانت إحدى تلك القناني مفتوحة ، وقد سكب منها نصف كأس ، مازال على حاله لم يمسسه أحد ، تمعّن فيه وقال :
« هذا هو سرّ الرائحة ، التي غمرت الأجواء ».
رفع الكأس ، مثلما يرفع الطفل رضّاعة ، وتشمّمه بطرف أنفه ، ثم نظر إلى القنينة ، وهزّ رأسه مستطيباً المذاق . وبحركة خاطفة صبّ الشراب في جوفه . لم يكن ثمة وقت ليضيع سدى ؛ تناول القنينة الأم وأطبق عليها بشفتين يابستين ، تكادان تتفطران من حر الظمأ ! .
كان كل شيء ساكناً من حوله ، ولا يُسمع سوى قرقرة الشراب وهو ينزل إلى جوفه حثيثاً .
هكذا أطفأ نيران شوقه .
حالما أجهز على قنينة الخمر ، خرج مسرعاً إلى الشارع ، وأمسك بمجرفته فوراً .
في سرعة هوجاء ، سكب زجاجة الخمر بأكملها في جوفه ، وخرج ليعمل ، مخلّفاً رائحة طاغية ، هاجت معربدة ، من المخزن ، وباحة الدار ، ومضت حتى رصيف الشارع .
أمسك بمجرفته ، وشرع يكمل عمله الذي شارف على الانتهاء . وما كادت تمرّ ساعة من الوقت حتى أنجز الرجل عمله بالتمام .
أخذت نسائم المساء النديّة تحرّك الانتعاش والسكر في جسده ، بينما احمرت مقلتاه قليلاً وبدت ملامحه خفيفة ، وطروبة .
كان منظراً مسائياً خالصاً ، نادراً ما يحدث ، منظر عامل يقف فوق أرض أزاح عنها أكداساً من مخلّفات البناء ، وقد احتسى قنينة خمر بأكملها ، إلى حدّ أنساه ذلك الخمر تعب ما يربو على عشر ساعات من العمل المتواصل ! .
أسرع لدخول المنزل ، في جرأة ، ثانية ، وأتى بخرطوم المياه ، وشرع يغسل الرصيف من كل أثر للتراب .
يبدو أنّ أحد أولاد ( الحاج صالح ) قد تنبّه لاختفاء الشراب من إحدى القناني ، وشكّ في أمرها سريعاً ، وتباحث بشأنها مع بعض الشبّان الآخرين ، من غير أن يهتدي إلى سرّ ذلك . ولكنّ أحد الصبيان لفت أنظارهم إلى أنّه شاهد ( البعشيقي ) يكنس عند باب المخزن . ولأجل أن يتأكّد ابن ( الحاج صالح ) من الأمر بنفسه ، هرع إلى ( البعشيقي ) ، وباشر بمحادثته في الحال ، ليكتشف أنّه هو وليس غيره ، من أتى على قنينة الخمر . كانت الرائحة تفوح من فمه فاضحة ، وقد ارتسمت ملامح النشوة على وجهه المكدود .
عاد الشاب ليخبر الجميع بفعلة ( البعشيقي ) ، بل إنّه لم يتورع عن إخبار والده أيضاً .
ما إن انتهى ( البعشيقي ) من غسل الرصيف ، طوى خرطوم الماء بعناية ، ودلف إلى باحة المنزل ، ووضعه في مكانه . وكان ابن ( الحاج صالح ) واقفاً هناك ، محترساً ، ومتخوّفاً من إغارته على الخمر ثانية . قال له ( البعشيقي ) :
« أرجو أن تنده على أبيك ، لقد أنهيت عملي تماماً » .
غاب الشاب هنيهة في أعماق المنزل ، ثم خرج وطيف ابتسامة غريبة ، يرفّ على شفتيه ، وأخذ ( البعشيقي ) جانباً ، وهو يقول له :
« تعال ، تفضّل استرح هنا قليلاً » .
وجاءه بكرسي ، ووضعه على جانب من الحديقة ، وأجلس ( البعشيقي ) ، ثم دلف إلى المخزن الصغير ، وخرج يحمل كأساً كبيراً ، مليئاً بالخمر ، أدناه منه ، وهو يقول له :
« هاك ، تفضل اشرب ، لترتاح من عناء يومك هذا » .
أمسك ( البعشيقي ) بالكأس ، وارتشف منه بضعة رشفات متمهّلة ، ثم طلب من الشاب ، في منتهى الأدب ، قائلاً :
« حبّذا لو تأتيني بسيجارة أيّها الطيب » .
وأسرع الشاب ليجلب له سيجارة . وشرع ( البعشيقي ) يسحب أنفاساً هادئة ، بمزاج رائق ، وهو يرتشف متمهّلاً الرشفة تلو الأخرى . وحينما انتهى من الكأس ، ناوله إلى ذلك الشاب وهو يقول له :
« إنّ عمّك لا يرتوي من كأس واحدة ، إكمل معروفك ، وجودك علي ، وآتني بكأس ثانية » .
لم يتردّد الشاب في إسباغ كرمه عليه ، جاءه بكأس ثانية ، ثم غاب في داخل البيت ، وخرج وهو يحمل كيساً فارغاً ، ووقف إلى جوار الرجل ، حتى إذا ما انتهى من احتساء الكأس ، أسرع ليضع الكيس بين يديه ، وهو يقول له بنبرة شابها المكر والدهاء :
« والدي يقول لك ، نرجوك أن تنهي عملك بذكرى طيبة ، وتجمع هذه الضفادع التي تغزو حديقتنا ، وتزعج الجميع أشدّ الإزعاج ، وتضعها في هذا الكيس ، وتلقي بها في النهر ، أثناء مغادرتك » .
وكان النهر على مقربة منهم .
ضحك ( البعشيقي ) من أعماق قلبه ، وقال :
« كان الأجدى أن تأمروا أحد الصبيان ليتولّى شأنها » .
« طلبنا من الجميع ذلك ، ولكنّهم رفضوا ، إنّهم يتردّدون ، ولا يقدمون على هذا العمل ، فهم يخشون منها ، وتشمئز نفوسهم من منظرها » .
كان ( البعشيقي ) يحدّق في دغل الحديقة ، بينما أردف الشاب يقول :
« إنّ الجميع يعتقدون أنّ الإمساك بالضفادع يصيب أيديهم بالثآليل ، هل هذا صحيح حقّاً ؟ » .
« كلا ، سبق أن أمسكنا بها بكثرة ، من دون أن تصيبنا بأذى » .
كان الدغل يغطي أرض الحديقة بغزارة ، نظر ( البعشيقي ) إليه وقال :
« ليس من السهل الإمساك بها بين هذا الدغل الكثيف » .
وبدأت أصوات الطبول تهزّ أركان البيت .
« حاول أن تمسك بها ، لا يُخفى عليك كم من الإزعاج ستسبّبه لنا » .
قال ذلك ، وأسرع الشاب لينظم إلى الحفل الذي بدأ لتوّه .
أخذ الخمر يدير برأس ( البعشيقي ) ، عندما تناول الكيس ، وذهب إلى وسط الحديقة .. لم يخطر في باله أن هذا العمل كان أشقّ عليه من عمل النهار ؛ سيّما وإنّ عينيه زاغتا ، وخدرت نظراته ، وتهدّل جفناه . كان يمسك الضفدع في غاية الصعوبة ، وحين يفتح الكيس ليودع الضفدع في داخله ، ينظر إلى كفّه فيجدها فارغة ، وقد تملّص الضفدع منها من غير أن يعي هو بذلك ! .
في تلك اللحظات ، وقع اضطراب شديد في الدغل ، وتقافزت الضفادع في كل اتجاه ، خائفة ، وهاربة ، وسرعان ما توارت عن الأنظار . ولكنّه شرع يتعقبها ، ويطاردها بين الدغل الكثيف ، وقد عجز عن الإمساك بها . فخرج من الحديقة ، ووقف جانباً ، وهو يهتزّ هزّات رقيقة من أثر السكر . ثم تناول المكنسة ، المركونة عند أحد الجدران ، وأخذ يثير الدغل ، ومكامن الضفادع بها ،
وبعد دقائق عادت الضفادع إلى الظهور ثانية ، وقفت جميعها تنظر إلى الأضواء الملوّنة ، التي سطعت في جميع أركان المنزل ، بدهشة ، وصمت ، وما فتئت تلك الأضواء البهيجة تثير فضولها و تنعكس في عيونها الجميلة . وبدت له الضفادع في منتهى الجمال بعيونها البريئة ، الواسعة تلك .
كانت تقف وكأنّها طيور خضر تجثم في أوكانها . ولكنّه سرعان ما حطّم البهجة في قلوبها جميعاً ، عندما أمسك بواحد منها .
ظلّ يزحف زهاء ساعتين من الوقت في أركان الحديقة ، حتى نجح في ملء ربع الكيس ، بضفادع خضراء اللون ، سمينة ، غمرت الكيس نقيقاً ، وعجيجاً . كانت المصابيح تشعّ بطرب ، وأصوات الموسيقى والطبول تشقّ الصمت المخيم على ذلك الشارع .
كان التعب الشديد ، والسكرة قد هدّت جسده ، وأوشك على الانهيار .
وقف في وسط الحديقة في هيأة يرثى لها ، وكان يترنّح في وقفته تلك ، وهو لم يزل يبحث بعينيه عن المزيد من الضفادع ، التي كانت تختفي لتظهر فجأة في مكان آخر ، ثم ما تلبث أن تختفي تماماً عن عينيه . وبينما كان يجيل بنظراته حواليه ، أبصر ضفدعة كبيرة ، وهي تحمل على ظهرها ضفدعاً كبيراً أيضاً . كانت تقف خضراء ، عارية ، منتصبة باتزان تام على قوائمها الأربع ، وتحمل ذلك الضفدع المتنزي بسعادة وحبور ، من غير أن تتزعزع من موضعها . ضحك ( البعشيقي ) بكل جوارحه ، ضحكة مجلجلة ، وهتف في نشوة :
« هذه هي الأنثى الحقّة ، وهذا هو الذكر المدلّل ، يا للعرس الجميل ، لا تنزل عن ظهرها أيها العريس حتى طلوع الفجر ! » .
كان أحد الشبّان قد وقف ينصت بذهول إلى جنون ( البعشيقي ) وهذيانه ، وسارع ليخبر أصحابه بما سمعه .
راحت المشاعر الرقيقة تنبض في أعماق ( البعشيقي ) . ولاح له عالم الضفادع حلواً ، وصادقاً أكثر من عالمنا .
وقف بين خطوط النور المرمية على أرض الممر ، في باحة المنزل ، وهو يترنّح ، ويحمل بين يديه كيس الضفادع ، الذي كان ثقيلاً .
ما لبث أن صاح على أحد الشبّان قائلاً :
« اذهبْ واخبرْ ( أبو صالح ) بأنّني انتهيت من أعمالي ، وأريد أجري » .
هزّ الشاب رأسه ، وهو يعقد ما بين حاجبيه ، ووقف يحدّق بغرابة في الكيس الذي يحمله ( البعشيقي ) ، وقال :
« دقيقة واحدة وسوف أخبره » .
وتمتم ( البعشيقي ) يقول بصوت خافت :
« لقد اختفى هذا الرجل منذ الظهر ، توارى ولم يظهر ثانية ليتفقّد العمل » .
بعد شيء يسير من الوقت ، عاد الشاب إلى الظهور ، يتبعه ابن ( الحاج صالح ) ، وكان هذا الابن بديناً ، برأس ضخم ، وشعر حلقه كما يحلق الرعيان ، وراح يضع على ذقنه نتفة من الشعر . أقبل على ( البعشيقي ) وقال له :
« ما الذي تريده من والدي يا عم ؟ » .
« انتهيت من عملي ، وأريد أجري » .
« أكلت الكثير من الطعام يا عم ، وشربت قنينة ونصف من الخمر ، فهل من المعقول أن تطالبنا بأجر فوق كل ذلك ؟ » .
« ما الذي أسمعه منك ؟ أنا اتفقت مع والدك على مقدار الأجر ، اذهبْ وآتني به » .
كان هذا الشاب يشبه والده في الكثير من الملامح ، غير أنّ وجهه كان بارداً ، وتعلوه نظرة مكر فاضحة ، وله طريقة فظّة ، متسلّطة في الحديث .
« إنّ والدي غير موجود الآن ، وأنا هنا بديلاً عنه . أكلت من الطعام ، وشربت من الخمر ما قيمته أضعاف أجرتك ، وفوق ذلك تطالبنا بأجر ، هل تريد حلق رؤوسنا يا عم ؟ » .
في هذه اللحظة ، تدخّل الشاب الآخر وقال :
« هيا لا تلهنا عن أعمالنا ، خذْ الضفادع وانصرفْ » .
وقاد ( البعشيقي ) من يده ، وأخرجه إلى الشارع ، وصفق الباب الحديدي دونه ! .
لم يكن الرجل يحبذ الأخذ والرد في الكلام ، وقف حيال الباب المغلق خائب الأمل ، خالي الوفاض ، وقال بصوت مرتفع :
« حسناً ، سأعود لأرى الحاج في وقت لاحق » .
وقف الرجل وهو يحمل الكيس ، وكان ثقيلاً ، ويموج بين يديه . بادر إلى طرحه أرضاً ، وراح يصلح كوفيته جيداً . وجد نفسه محاصراً بالنسائم الخريفية ، التي أخذت تغذ هبوبها عند المساء . وبدأ يشتد عليه دوار السكر .
أخذت الضفادع تنقنق ، في داخل الكيس ، بأصوات تشبه الأجراس . نظر إلى الكيس ، وأنشأ يقول ، كما لو أنّه يحدّث شخصاً آخر :
« يا للعجب ، إنّها ترفض أن تغادر الحديقة . ما أجملها ، وما أسعدها وهي تستمتع ببهجة العرس وأهازيجه ! » .
ثم تذكّر تلك الضفدعة الكبيرة ، التي تحمل عريسها على ظهرها ، وتقف في أعماق الدغل في منتهى الغبطة والسرور ، فرفع رأسه عالياً ، وراح يخاطب أهل الدار ، بنبرات مترنّحة ، قائلاً :
« حرام عليكم .. والله حرام عليكم ، وحرام علي أيضاً ، أن نحرمها من فرحة الأعراس » .
ثم نظر إلى الكيس وخاطب الضفادع :
« لا يصح رميك بعيداً كأنك نفايات أيضاً ، أي ضمير يرتضي تبديد شملكن الرائع ، لا أعرف كيف يتضايق هؤلاء من ورود خضر تزهر في الحديقة ؟ » .
ثم جثا على الأرض ، وشرع يتفحص الكيس بيدين مرتعشتين .
كان مشهدهً غريباً بالنسبة لكل من مرق فريباً منه ، عبر الشارع ، وهو عجوز متعب ، يجلس وبين يديه كيس امتلأ بأشياء مبهمة ، كانت تنتفض ، وتتصايح بصيحات تنم عن الرعب ، والاستغاثة . وقد بدا الكيس كتلة غامضة .
تعجّل بجموح ، ورغبة سكران ، عودتها إلى أعشاشها ، ومساكنها سريعاً . وفجأة بدأ يفك الرباط الذي أحكم به فوهة الكيس . ثم دسّ يده في الكيس وأخرج ضفدعاً كبيراً ، وكان الضفدع أخضر تماماً ، ونظر إليه مليّاً . ثم ما لبث أن راح يخاطبه في لطف :
« هل أنت مصبوغ بالحبر الأخضر يا فتى ؟ ما أجمل لونك هذا ، بل ما أجمل الحياة بلون الضفادع » .
ونظر عميقاً في الكيس ، وهزّ رأسه ، وراح يقول :
« لمَ لا يخلق الله الناس بمثل هذا اللون البديع ؟ » .
كان الضفدع الذي ما زال جاثماً في كف ( البعشيقي ) ينظر في غاية الهدوء في وجهه ، حتى خال الرجل أنّه خائفاً منه . فسارع ليقول له :
« لا تنظر هكذا في وجهي ، لست ثعباناً يريد التهامك » .
وكان قد بلغ تأثّره مبلغه .
أطلق الضفدع نحو الفتحة السفلى من الباب الحديدي ، ولكنّ الضفدع وقف متحيّراً وهو يتطلّع صوب الباب ، فصاح به ( البعشيقي ) وهو يشير بسبابته :
« امشِ من هنا ، اذهبْ إلى بيتك وتمتّع بالأعراس » .
وسرعان ما ولج الضفدع عبر فتحة الباب .
عاد ثانية ليحدّق في جوف الكيس ، وكانت الضفادع تبادله النظرات بعيونها الواسعة ، كانت نظراتها لا تدانيها أيّة نظرات أخرى في جمالها وبراءتها ! . مدّ يده ، وطفق يستلها واحداً ، واحداً ، ويطلقها عبر فتحة الباب ، وهو يحرّك يديه شمالاً ويميناً ، حاثّاً إيّاها على دخول المنزل ، كأنّه راعي أغنام يدلّ قطيعه على الطريق .
في الخمسين من عمره ، لاح وسيماً ، يعشق العمل ، والتعب اللذيذ ، كان مثل ساحر يطلق من جعبته ضفادع خضر ، وهو غارق في ضحكات رقيقة النغمة .
عندما خفّ ثقل الكيس بين يديه ، نهض وأمسك به من الأسفل وقلبه على الأرض في تمهّل ، فتساقط ما تبقّى فيه من الضفادع . ووقف يضرب الأرض بقدميه يحضّها على اتخاذ طريقها إلى حديقة المنزل . وعند ركن من الباب شاهد ضفدعاً كبيراً منفرداً يقف ، ملتفتاً ناحيته ، متلمظاً ، كأنّه ينوي قول شيء ، غير أنّ ( البعشيقي ) قاطعه في الحال ، وهو يشير نحو الباب ، ويقول له :
«اسكتْ ولا تقل أي شيء ، اذهبْ الآن لترقص » .
كان الصخب داوياً في أعماق البيت ، والطبول تراقص المساء ، وقد أشعره هذا الصخب بالنعاس .
طوى الكيس بين يديه ، وأدار ظهره إلى الباب ..
بقليل من الكلمات ، وكثير من الأحاسيس ، أتمّ عمله ، ثم اتخذ طريقه عبر المساء .