يثق العطّارون بمهاراتهم على إصلاح ما أفسده الدهر . تلك الثقة التي مبعثها أمران لا ثالث لهما : الأمر الأول إيمانهم الروحاني العميق بأن لكل داء دواء . والثاني مردّه لسحر أعشابهم وعقاقيرهم ، وقوّتها النابعة من قوة الطبيعة .
فكّر ( سالم ) مليّاً في هذا الأمر ، حين همّ بزيارة أحد معارفه من العطّارين . مع العطّار يمكن أن تكون في ارتياح أكثر ؛ ومعه لا ينتاب المرء الإحساس الثقيل بالحرج ، الذي يمكن أن يداهمه في عيادة الطبيب .
عندما وقع ( سالم ) بين براثن الشيخوخة ، لم يخطر في باله ، أو بال أحد ممن كانوا يشاركونه العيش أن تحدث له أشياء غريبة ، يعجز عن فهم كنهها ، وغالباً ما يُشعره الحديث عنها بالحرج والاستحياء . ويضطر في كثير من الأحيان كبت أمرها ويحجم عن التصريح بها ؛ غير أن ذلك الكبت والإحجام سرعان ما يورثه القلق والتوتر في أعماق ذاته .
في فناء بيت الرجل ثمة مرحاض ، على قدر من النظافة وراحة الاستخدام ، ويطلّ مباشرة على حديقة الدار ، وعندما يجلس المرء مقرفصاً فيه ، تواجهه ، إلى الأعلى قليلاً من رأسه كوة صغيرة ، تطلّ على رقعة صغيرة من السماء .
كان ( سالم ) يميل إلى أن يمكث هناك وقتاً أطول في جلوسه ، ونظره متعلّقاً برقعة السماء ، متأمّلاً ، كانت الأفكار تنثال على مخيلته أثناء قرفصته ، وكأن ذلك المكان حديقة تأملاته ؛ وفي الحق كان كذلك . اعتاد على خلوته الطويلة تلك ، حيث يشعر بالارتياح والاسترخاء ، وتحلّ على جسده السكينة بكل لطفها . وباتت مصدراً من مصادر راحة وصفاء أفكاره ، وخلالها كانت قدراته التخيلية تنشط وتتنامى أكثر مّما لو كان جالساً في غرفته ، أو أي مكان آخر . كانت الأفكار تتدفّق منهمرة ، وكان ينتشي جراءها . إن تلك الأفكار لا تبدو متنافرة مع غرابة المكان ؛ سيّان كان الأمر حتى لو أنه بين الأشجار أو عند نبع جارٍ ؛ ولا عجب في القول أن المكان يبدو وديعاً ومنسجماً جداً مع تلك الكوة التي تعانق رقعة من السماء . في هذا المكان يبدو كأنه منفصلاً عن واقعه ، وينعم ببهاء منظر السماء ودفئها ، وأحياناً تطول جلسته فيلوح المكان ناعساً .
في هذا الشتاء ، بدت زياراته إلى المرحاض غير طبيعية ، صار يتردّد عليها ، لا سيّما أثناء الليل بصورة بثت القلق في نفسه . في هدأة إحدى هذه الليالي ، بينما كان جالساً في المرحاض ، أخذ يسمع ، على حين غرّة ، صوتاً ناشزاً ، حينما تدفّق بوله ضارباً بقوة وهو يشخب بصوت عالٍ . أرهف سمعه ، وأخذ ينصت له . راح يسمعه وكأنه شريط ماء يتصبّب من مرتفع . كان الصوت شديد الجفاف ، يشبه خشخشة كوم من الورق الجاف ينهرس تحت الأقدام .
لم يكن قد سمع نفسه يتبوّل هكذا من قبل ؛ أو ربما فعل ذلك ، ولكنه لم يكن متنبهاً كنتيجة لاستغراقه في تخيلاته وأفكاره . وفي واقع الأمر ، شعر شعوراً حيّاً ، في مستهل الأمر ، بأن ثمة شخص آخر يتبوّل إلى جانبه ، فتنحنح وخاطب المجهول قائلاً : ” اللعنة على الشيطان “. بدا حائراً وقد تسرّب الشك إلى نفسه . ثم شرع ينظر أسفله ليرى البخار الشفيف يتصاعد حتّى ركبتيه بكل عفونته ، فرفع رأسه عالياً ، في الحال ، وتجهمت ملامحه ، وانتابه شيء من الابتئاس .
كان الصوت ممتلئاً ، حادّاً ، ونافذاً ، يخترق الأذن ويتغلغل إلى الأعماق . وكان خارجاً عن المألوف ، ومع أنه لم يسبّب له الضوضاء ، إلّا أنه كان أكثر إثارة من الضوضاء نفسها . ولوهلة ، شعر بأن لون الصوت أصفر باهت ، وأنه يترك في الأعماق إحساسا حامضياً بوهن الشيخوخة .
جعله الصوت يشعر بالعزلة ، وشيء من الوحشة ، وتحطّمت الطمأنينة والسكون الذين يحلّان في بدنه أثناء خلوته .
لم تطل جلسته ، كما اعتاد آنفاً ، إذ هبّ واقفاً ، وخرج إلى حديقة الدار ، وهناك وقف مرتعشاً في هواء الليل البارد ، الرقيق ، وقد ألقى برأسه قليلاً إلى الوراء ، وأرسل نظرات واجمة إلى السماء .
” ربما حدث ذلك عن طريق الخطأ ” .
” كلا ، ليس ثمة خطأ في الأمر ” .
تنفّس بعمق ، وهو يشعر بالضيق ، وعاد ليخاطب نفسه: ” فجأة تدفّق الصوت الغريب ، وأطاح بعزلتي وأفكاري ، وأفسد علي ّ لحظات من الهدوء الروحي .. ليس الصوت وقتذاك ما أثار دهشتي ، وإنّما البخار الذي تصاعد كهبة من السعير وأصابني بمزيد من الارتباك ” .
وبدأ شعور غاضب يتسلّل إلى داخله ، ومشى وئيداً على طول الممشى الضيق الذي يلتف حول حديقة الدار ، في الوقت الذي هاجمته الكثير من الوساوس والشكوك ، حتّى تصلّب تعبير حرد على ملامحه ، فما كان منه أن قفل عائداً إلى غرفته .
كان لم يزل تحت وطأة جملة من الأفكار الفظة . جلس عند حافة السرير وهو يمسّد طرفي شاربه الأشيب بإبهامه وسبابته .
” ليس هنالك أي معنى لاندلاع هذا الصوت النافر ، المستهجن . مثل هذا الصوت يمكن أن يحدث مع حصان أو بقرة ، ولكن ليس مع آدمي ” .
كان هذا الشيء البسيط ، بل التافه ، أغرب من أن يحصل معه ، وهو بالتأكيد يحصل مع الكثيرين غيره ، من دون أن يعيره أحد انتباهه ، وينشغل به ، ولكن بالنسبة له انهار استرخاءه المعتاد بعد تلك المحاولة ، ذهب ( سالم ) إلى المرحاض مرّات ومرّات ، ولم يتغير الأمر ، فأغرقته الحيرة ، وأصرّ في سريرته على أن يرى هذا الأمر ضرباً من الجنوح ، ولبث يفسّره على نحوٍ عليل . وكان من النوع الذي لا يتقبّل تكرار هذه الأشياء بصمت ، فسرعان ما ثارت ثائرته ، وتردّدت في رأسه أسئلة غريبة ، وصار يعاني من أجل كبح مشاعره ، من دون طائل ، إذ كانت تلك المشاعر تنزّ من أعماقه فجأة وتغرقه في الحال . لم يعد بوسعه التغافل عن ذلك ، وترك الأمور على عواهنها ، فقد راح يفرط في أحاسيسه إلى أبعد مدى .
على الرغم من أن الذهاب إلى دورة المياه لم يعد أمر سيء بعد ، إلّا أنه أفقده لذّة الخلوة ، والانسياب الحلو مع الخواطر ، وأخرجه من الدعة والارتياح الذي كان ينعم به ؛ حتّى صار الجلوس فوق مقعد المرحاض كالجلوس فوق موقد نار ؛ ومع ذلك لم يفقد رباطة جأشه .
إن ما يبحث عنه كان صفاء الذهن .. الصفاء الذي يحلم كل إنسان أن يمسك بتلاليبه بأية وسيلة ، هذا الذي ضاع من بين يديه على حين غرّة .
حينما يراقب رقعة السماء الصغيرة ، ولا يرى أثراً للنجوم ، يدرك بأن الجو أمسى أكثر برودة ، وهذا ما يجعله يريق بولاً فائضاً ، ويشخب بصوت أكثر خشخشة من باقي الأيام . ويأخذ بالتسائل :
” لربما ستتفاقم هذه المشكلة في الصيف القادم ، فأنا أميل إلى شرب الكثير من السوائل في الصيف ” .
ومع مرور الأيام بات يحسّ بمزيد من الضغط والتوتر ؛ فلم يلبث حتّى قادته توجساته إلى أحّد العطّارين من أبناء عمومته .
حينما تحدّث ( سالم ) عن ما ألم به ، نظر العطّار في عينيه ، كعادة العطّارين دائماً ، عندما يحدّقون في عيون زبائنهم بتلك الثقة العمياء ، وقال :
« إن وقع حديثك حزين ، وأنت تقوله على هذا النحو . أجزم بأنك لست بحاجة إلى أي دواء ، لأنك خالٍ من كل داء » .
ثم ابتسم العطّار ابتسامة واهية ، تصوّر ( سالم ) أنها موخوطة بشيء من السخرية ، وراح يقول :
« لا تقلق ، كل ما في الأمر أن مضختك تعمل في منتهى النشاط » .
رجع ( سالم ) من العطّار بالمزيد من خيبة الأمل ، وبدا نادماً على تلك الزيارة ، وأحسّ بتسرعه ، وجعل يحدّث نفسه قائلاَ : ” الآخرون يتصوّرون ، حين أعرض مشكلتي عليهم ، بأن الأمر يتعلّق في الضخ فقط ، ولا يعلمون كيف أن هذا الضخ أقضّ مضجعي ؛ وأنّى لي أن أشرح لهم ذلك ، هل يُعقل أن أقف وأخبر أحدهم بأن جلساتي الوديعة الرائعة في المرحاض قد فسدت ؟ وماذا يمكن أن يحسبوني عندما يسمعون ذلك سوى معتوه يتلذّذ بالجلوس طويلاً في الأماكن القذرة ؟ » .
وهكذا ظلّ ( سالم ) مستنفر الأحاسيس ، ومشوّش الذهن . وعلى أثر ذلك أمسى ينظر إلى نفسه كما لو أنه دمية ، أو علبة ليّنة تُفرِغ سوائلها ، باندفاع وقوة ، حالما يُضغط عليها . وما أن يجلس مقرفصاً في دورة المياه ، تسري إلى جسده ، في الحال ، برودة لاذعة ، تصحبها تلك الرائحة الفاغمة التي تنبعث من أسفله ؛ ونظراته الكئيبة التي تحمل الكثير من المعاني لا تصعد إلى رقعة السماء ، عبر النافذة الصغيرة . وبين آن وآخر ، يلقي نظرة على بوله ينقبض لها صدره انقباضاً شديداً ، وهو يحسّ بأنه لا يستطيع أن يتفادى ذلك ، وأن ما يفعله ليس لائقاً .
وبدلاً من السيجارة الواحدة ، التي كان يدخّنها أثناء جلسته الطويلة في دورة المياه ، آنفاً ، صار يحمل برفقته علبة السجائر ، ويشرع بالتدخين المتلاحق ، ليثير من حوله غمامة من الدخان ، وهو يتنحنح ، ويبصق في إثر ذلك . وينهض بعد ذلك ، مخلّفاً ثلاثة أو أربعة أعقاب سجائر ، مرمية في إحدى زوايا المرحاض ، بمنظرها الموحش ، البغيض .