( حاملة الرسالة )
قصة قصيرة ـ محمود يعقوب
في لجّة باحة المحكمة ، تعقّبت خطى صديقي ، وهو يشقّ طريقه إلى غرفة كاتب العدل ؛ وبينما كنا نتزاحم بالمناكب مع الجموع الغفيرة ، في أحد الأروقة ، التفت صوبي ، ليثير انتباهي ، قائلاً : ـ انظر ، هو ذا ( أكرم ) كاتب العدل ، ذاك الذي يهمّ في الدخول إلى مكتبه . وحالما وقع نظري عليه ، صحت من سويداء قلبي منبهراً : ـ يا إلهي ، هذا أجمل مرتشٍ على وجه الأرض ! . في ذلك الحين كنت أساعد صديقي هذا لأجل أن يستكمل الخطوات اللازمة لإنجاز كفالة نقدية ، بمبلغ كبير ، ولم يتبقَ سوى تصديق كاتب العدل لها .
إثر دخوله إلى المكتب ، قبعنا ننتظر دورنا بين جمع من الناس . كان بعض ممن يدلفون إلى مكتبه ، يغادرونه بوقت وجيز ، بينما يطول مكوث البعض الآخر كثيراً . وعقب مضي ساعة من الوقت سمحوا لنا بالدخول ، وأوصد الباب دوننا . في داخل المكتب ، تنسمت لفوري عبق عطر ليموني ناضج ؛ من تلك العطور المليئة بالثقة والكبرياء . وقد جثم الهدوء في هذا الركن جثوماً راسخاً ، فلم نعد نسمع أية نأمة من ذلك الصخب العارم ، الذي كنا نعوم في بحره ، ونحن نعبر أروقة المحكمة .
ـ صباح الخير أستاذ .. نطق صديقي هذه العبارة بصوت مسكين ، وهو يدفع بأوراقه على سطح المكتب . لم يردّ كاتب العدل ! . رفعت نظري سريعاً ، وحدّقت في وجهه ، وأدركت أنه من النوع الذي لا يردّ الجواب أبداً . وكان صمته جميلاً ، وآية ًفي الأناقة . بدت نظراته باردة ، تسيل قطرة قطرة ؛ تارة يحدّق في حزمة الأضابير التي تمكث جانباً على سطح المكتب ، وتارة يرمي بصره إلى الساعة الجدارية ، وتارة أخرى يتأمل أظافر يده ؛ حتّى تناول أوراق صاحبي ، بعد ذلك ، وراح يقلّبها بهدوء ورويّة . وأخيراً شرع يضع إمضاءه عليها ، ويختمها تباعاً . وعندما أتمّ ذلك ، رماها أمامه ، وأشاح ببصره جانباً .. ـ شكراً أستاذ .. أمسك صديقي بأوراقه ، وهو ينبر هذه العبارة بطراوة بهيجة ، ولكن على الرغم من ذلك ، لاح صوته مسكيناً . لم يردّ كاتب العدل أيضاً .
أخذت ألوم صديقي ، حين صرنا خارج المحكمة ، مخاطباً إياه : ـ لمَ قلت له شكراً .. مثله لا يستحق كلمة شكر . ـ لا تكن أحمقَ ، الكفالة هذه تتضمن مبلغاً كبيراً من المال ، وقد صدّقها الرجل ، رسميّاً ، في غاية السهولة . كاد الخوف يقتلني وأنا أضع الأوراق بين يديه ، لأنني أعلم أن مبلغاً كبيراً من المال ، مثل هذا ، لا يصادق عليه إلّا برشوة فادحة . وقطعنا الدرب إلى منزلينا ، ونحن نتذاكر الأقاويل ، ونستحضر الحكايات الكثيرة ، بكل صدقها وكذبها ، والتي تداولها الناس عن جشعه في ارتشاء الآخرين . وكان أغرب ما حدّثني به صديقي تلك الحكاية الطريفة التي تُروى عنه ، حينما أخبرني قائلا ً : ـ هل تصدّق أم لا ؟ .. إنهم يقولون أن ملك الموت زاره ليلاً ، يروم الانقضاض عليه ، وكان يغطّ في نومه ، ولكنه ينام بنصف عين ، كعادة الثعالب . سرعان ما هبّ من نومه فزعاً ، وجلس في سريره ، يفرك عينيه ، ويحدّق بملك الموت ، وقد غرق في الرعب والفزع ، وأخذ يسأل : ـ ما الذي تريده منّي ؟ .. ـ حان أمرك ، وأريدك أن تسلّمني روحك . شرّع كاتب العدل عينيه على وسعهما في رهبة وجزع ، ونظر إلى ملك الموت نظرة عميقة ، متفحّصة ، كمن لا يصدّق ما يجري حوله ، وقال له ، وهو يفرك إبهامه بإصبع السبابة ، بتلك الإشارة النقدية الواضحة التي نتداولها كثيراً ، وردّ عليه بشيء من الجرأة ، قائلاً : ـ سلّم أنت أولاً ، وأنا أسلّم لك . ثمّ اعتدل في جلسته ، واستطرد قائلاً : ـ ولكن ليس الآن ، لم يزل الوقت أمامنا طويلاً . ارتدّ ملك الموت إلى الخلف خطوة ، من هول الصدمة ؛ تلك كانت أول مرّة يتعرّض فيها إلى الارتشاء من البشر .
◘◘◘
في مساء ، من مساءات شهر تشرين الثاني الباردة ، زرت أحد أحياء المدينة ، لعيادة شاب من أقاربي . وهناك توقّفت عند مدخل أحد الأزقة ، وقد شدّني ما يفعله جمع من الصبيان ؛ الذين بدأوا يُشِبون النيران في كوم كبير من النفايات . سرعان ما تصاعدت ألسنة النيران عالياً ، وغمر الجو من حولنا غمامة كثيفة من الدخان المتعفن . ما استوقفني ، أكثر من غيره ، أن تلك النيران كانت خطراً محدّقاً بسلامة الأطفال ، الذين راحوا يحيطون بها من غير اكتراث .، وهم يتصايحون ويهزجون .
بدأ المارة يتوقفون في عرض الطريق ، برهة من الوقت ، وهم يراقبون اندلاع النار المخيف ، وأطلّ العديد من الجيران ، وهم يحاولون ردع أبناءهم من اللعب بالنار . في خضم زوبعة النار ، لمحت نافذة تُشرّع في الطابق الأعلى لأحد البيوت التي أواجهها في محل وقوفي ؛ وخطف عبرها طيف فتاة تجرّ الستارة إلى أحد جانبيّ النافذة . ثم ما لبث أن أطلّ وجه فتاة أدهشها تصاعد اللهب ، وجفلت في الحال ، وهي ترى الدخان قد غطّى السماء من حولها . وقفت خلف النافذة تراقب بقلق بادٍ ، من غير أن تدير النظر إلى أي شيء آخر . لمحتها في الحال ، ونظرت إليها نظرة سريعة ؛ لم تكن فتاة وحسب ، كانت كتلة من ذهب الإبريز الخالص ، توهّج على ضوء النار . أوجعتني النظرة ، ودمعت عيناي من الحرقة . وهتفت في سرّي متسائلاً ” كيف استطاع المنزل أن يخبئ مثل هذا الجمال الفاضح ؟ ” . ارتعش قلبي لرؤيتها ، واهتزّ كياني برمته ، لم أرَ مثل هذا الجمال طوال حياتي ؛ رحت أحدّق فيها مأخوذاً بسحرها ، لم يكن جمالها من هذا العالم . ومن غير أن أعي تقدّمت خطوات أخرى لأتيح لنفسي أن أروي غليلي من النظر إليها ، وفي غفلة من أمري صرخت بالفتيان مشجّعاً : ـ هيا .. اضرموا النيران يا فتيان ! . ولا شكّ أنها سمعت صراخي الأحمق ، فالتفت نحوي وقد ارتسمت ابتسامة مضيئة على وجهها ، فما كان لي إلّا الابتسام في وجهها كطفل . وحين التقت عيوننا هوينا معاً في العشق .
ظلّت رموشي ترفرف باضطراب . شبّت النيران ، وتصاعد الدخان عالياً ، بينما وقفت أحترق بنيراني ، وكان الدخان الذي التف حول نافذتها بعضاً من دخاني . وحرّكت شجرتا العشق ذوائبهما مع نسمات المساء . وتجمّدت لحظتنا تلك على حافة الحريق . من غير أن أعلم تحرّكت أنامل كفي اليمين ، وأشرت لها إشارة التحية ، جفلت الفتاة في فزع وخجل ، وتراجعت عن النافذة خطوة ، وأدارت وجهها جانباً ، فتيسّر لي أن أرى زلفها الكثيف المصبوغ بلون الحنّاء ، وكان يُريدني . و قبل أن تغيب عن بصري رفعت يدها في سرعة خاطفة تردّ التحية بمثلها . ـ هل هذا هو العشق ؟ . لم أغادر مكاني . كان وجيب قلبي يعلو بين ضلوعي وقد تملّكتني الحيرة . كنت أشهق الهواء وأطلقه بحرارة . لم تزل النافذة مفتوحة ، ولكن طيف الفتاة توارى . بعد دقائق ، تمالكت روعي ، ومضيت إلى بيت قريبي مضطرباً .. مضيت وأنا عاشق من أعلى هامتي حتّى أخمص قدمي ، بينما سَخُنَت أحشائي ، وصار ماء العشق يتصبّب من تحت أبطيّ . ولكن في الأيام التالية صرت أتدفّق إليها كالماء الخفي . وأمسينا نلتقي في بيت قريبي بين وقت وآخر .
في لقائنا الثالث ، على ما أذكر ، رجوتها أن تحدّثني عن عائلتها . فأجابتني في الحال ، وهي تبتسم بفخر : ـ والدي الأستاذ أكرم ، كاتب عدل المحكمة ، هل سبق لك رؤيته ؟ . كانت إجابتها دموية ، أحسسّت بالنصل مغروزاً في جنبي . في ذات الوقت صرخت جميع أعضائي صرخة واحدة ” يا لسوء الحظ ! ” . لقد رمتني الفتاة في خيبة الأمل ، وجعلتني أهتزّ سريعاً ، ورحت أتلعثم في حديثي . ـ ما بي أراك وهنت ، وتبدّلت معانيك ؟ .. ـ لا شيء ، كلا ، لا شيء ، فقط أنني اليوم متعب . ـ إذن لتذهب وترتاح ، عدْ إلينا غداً .. ـ سأكون هنا في الغد .
تقلّبت في فراشي طوال تلك الليلة ، حائراً متفكّراً ، هل أمضي في هوى الفتاة التي سلبت لبي ، أم أتريث لأدرك حقيقة ما يجري من حولي ؟ .. بغتة ظهرت صورة والدها في أفقنا وزعزعت كل شيء . ولكنني ، عند نقطة التردّد والارتباك هذه ، توقّفت . وغبت عن زيارتها لأيام متتالية . كانت سبعة أيام لا غير ، سبعة أيام على قصرها ، راحت أثناءها صورة الأستاذ أكرم المفزعة تغيم رويداً رويداً ، وتغشاها قطرات ماء متلاحقة . لم تعد تلك الصورة تخيفني . وطوال هذه الأيام السبعة ، كان حب الفتاة يملأ جوارحي ، وأحسست بأنني عاجز عن التراجع عن حبها . وأثناء ذلك بتّ لا أرى في صورة والدها ذلك الهمجي ، المتوحش ، الذي يمتص الناس بجشعه وتهالكه على المال ؛ فقد أخذت تلك السوءة تضمحل في ذهني . وقادتني أفكاري إلى تذكّر ما ذهب إليه أصحاب العقول القدماء ، الذين ادعوا أن قوة الحب تسدل الستار سريعاً على كل السوءات ، وتبعد العيون عن مرأى الجانب المظلم الذي يواجه من يحب .
لم يمهلني اشتياقي إلى الفتاة أية فرصة ، فسعيت أقنع والدتي بالذهاب إلى أسرة الفتاة لتطلب يدها على جناح السرعة . وجرى كل شيء بسلاسة ، كأن الأمر قد رُتّبَ ترتيباً مسبقاً ؛ غير أن والدة الفتاة اشترطت مهراً باهظاً ، كان من الصعوبة بمكان أن أتدبره . فكّرت بشأنه بضعة أيام ، حتّى هبّ صديقي ليعلن عن رغبته في مدّ يد العون لي .
عشت ، مع الفتاة أياماً تنبض بالبهجة ، وتفيض بالأحلام ، وكنا نلتقي بين يوم وآخر؛ حتّى لفتت انتباهي ذات يوم ، وهي تقول : ـ يُريد والدي مقابلتك ، مساء الجمعة القادمة . كانت تخبرني ذلك وهي في غاية الاغتباط ، فقد كان حب والدها ينبض في فؤاد حبنا .
عندما حان موعدي مع الأستاذ أكرم ، سعيت بحرص إلى مقابلته ، ورحت إليه جذلاً . في ذلك المساء بدت الريح مضطربة ، كانت تهبّ على دفعات ، ناثرة الغبار على كل شيء . وحين أقبلت على باب منزلهم وجدته مكفهرّاً بلونه الإرجواني الغامق ، ولم يترك لي سوى فسحة شحيحة للمرور عبره ؛ كان حديده بارداً ولم يقلْ لي مرحباً . جئت في الوقت المحدّد تماماً ، حيث كان الرجل يجلس في غاية الهدوء بانتظاري . ـ السلام عليكم .. لم يردّ كاتب العدل . كان صمته جارحاً ، وخلا وجهه من أي تعبير . انشغل في تصفّح بضعة أوراق ، وما فتئ يرقّشها ببعض الكلمات من حبره الأخضر . جلست قبالته بوجل ، وقد أخذ هدوئي يهرب مني حالاً ، وأمسيت مشوّش الأفكار . جلبوا لي قدحاً من الشاي . ولكنني كنت منصرفاً إلى التحديق بالرجل . مضت دقائق ، قبل أن يرفع عينيه عن الأوراق ، ويأمرني قائلاً : ـ اشربْ شايك .. رفعت القدح بخجل ، ونهلت منه رشفة واحدة ، ثم أعدته إلى مكانه . ورحت أتأمل جبينه . كان هذا الجبين ضيقاً ، وممتعضاً ، ويغيم سريعاً . ـ هل اتفقتم على المهر بشكل نهائي ؟ . ـ نعم يا أستاذ .. ـ جيد .. كان يتحدّث ، وهو يمرّر القلم فوق الورق بأسلوب مثالي ساحر . ـ بقيت بعض الأمور المهمة ، أريد منك أن تسمعها .. ـ أنا أسمعك يا أستاذ .. وضع القلم في غمده ، ثم رتّب أوراقه بين يديه ، ونظر مباشرة نحوي ، هذه المرّة نظر إليّ باهتمام ، وخاطبني بهدوء : ـ أنت مقبل على الزواج من ابنتي ، ولكن هناك أمور ومتطلبات كثيرة ، عليك الالتفات إليها وإنجازها قبيل الزواج . وراح يعدّد ، ويذكر لي أموراً فادحة وعظيمة الكلفة ، بل إن ما طلبه مني يفوق مهر الزواج بثلاث مرّات على الأقل ؛ ولم يتورّع عن طلب المال أيضاً . أراد الرجل أن يسلخني في الخفاء ، بل إنه كان يرتشيني في واقع الأمر . كنت أستمع إليه برعب شديد ، وقد تهشّمت كل مشاعري وأحاسيسي في لحظات خاطفة . حاولت أن أهرب من بين يديه ، نهضت مسرعاً ، متذرّعاً ببعض الأشغال ، وأخبرته قائلاً : ـ سأعرض الأمر على أمي وأبي ، وأعود غداً لأخبرك . ـ كلا … ونضح الامتعاض فوق جبينه ، ـ تعال في مساء الجمعة القادمة . حتّى مواعيده كانت جامدة .
عندما صرت خارج المنزل ، شعرت بالتحرّر من كل قيد . كانت الرياح عاصفة ، وسحب الغبار تعمي الأبصار ، فأخذت أسعى إلى منزلي بخطى واسعة . عدّت حزيناً ، لا أقوى على قول حرف واحد . وجلست في غرفتي وحيداً ، وفي أعماقي تجيش الأفكار وتتصارع الكلمات . أصابني الرجل بالقرف ، واجتث جذور الحب من فؤادي ، وجعلني أكره كل شيء . لم أذق طعم النوم في تلك الليلة ، تنازعتني شتّى الهواجس ، وأحسست أنني في ورطة حقيقية . وقبيل طلوع الصباح ، جمعت أحلامي ، وأطبقت قبضة يدي حولها ، وعصرتها بكل ما أوتيت من قوة ، وألقيت بها أسفل السرير ، قبل أن أخلد إلى النوم قليلاً .
في صباح اليوم الثاني ، رويت لأمي كل ما حصل معي ، فتجهمت ، وهلّت دموعها . رجوتها أن تذهب إلى أم الفتاة وتخبرها بعدم رغبتي في الزواج من ابنتها . لكن أمي رفضت رفضاً قاطعاً وخاطبتني في لوم وتقريع قائلة : ـ لم يمض على الخطوبة سوى بضعة أيام ، وتريدني أذهب لفسخها ، ألا تخجل من هذا الفعل ، ما الذي سوف يقولونه عنا ؟ . ـ حسناً .. حسناً يا أماه لا تغضبي ! . ومضيت عند المساء إلى أبي ، وأخبرته كل شيء ، وتوسّلت به أن يمضي إلى أسرة الفتاة لينهي الأمر معهم ، فثارت ثورته ، وراح يصرخ في وجهي قائلاً : ـ أيها الأحمق ، سرعان ما تقع في شرّ أعمالك وترجو الآخرين أن يشاركونك حماقتك ، اذهبْ وتدارك الأمر بنفسك . ـ حسناً .. حسناً يا أبي لا تغضب ! . لم يتبقَ لي غير أن أقصد صديقي ، وأقنعه بالذهاب معي لمقبلة الأستاذ أكرم ، وإنهاء أمر الخطوبة معه . لكن صديقي بالغ في انفعاله وهو ينهرني بقوله : ـ ما هذا الغباء .. تريدنا أن نقول هذه الأشياء أمام ثعلب ماكر ؟ .. والله سوف يسارع لزجنا بالسجن بمختلف التهم .. ـ حسناً .. حسناً يا صديقي لا تغضب ! .
بات لزاماً عليّ أن أضطلع بهذه المهمة بمفردي . وطوال ما تبقى لي من وقت يسبق مساء الجمعة ، استغرقت في البحث عن فكرة معقولة ، أنجو فيها من براثن هذا الرجل . كنت حرّاً ، ولا أريد أن أرهن نفسي عنده . أخذت أجلس وحيداً ، وقد نحيت العشق جانباً بعد أن ثبت إلى رشدي ، وصار الاشمئزاز الذي ينبع في داخلي اشمئزازاً مطلقاً . كانت الأفكار تأتي وتذهب ، وأنا جاثم في قعر ورطتي . وسرعان ما حلّ موعد لقائنا ، وأنا لم أمسك بتلاليب أية فكرة يمكنها أن تنجيني ، وتنقذني ممّا أنا فيه . كان مساء الجمعة بارداً ، ارتديت سترتي ، وهممت إلى ملاقاة الرجل ؛ وساعتها كنت قوياً ، لم أضعف ، حزمت أمري أن لا أشقى بشواظ هذا الحب الذي وُلِدَ محروقاً بنيران الصدفة . كان جالساً في غرفة الاستقبال ، ينتظرني ، وقد غمر نفسه بروب شتائي جذّاب ، وقد دسّ يديه في جيوبه . ولفوري ، وقفت حياله وجهاً لوجه ، وأخذت أعتذر له بشتّى العبارات ، غير أنه قاطعني مستفهماً : ـ عن أي شيء جئت تعتذر ؟ .. ـ أعتذر عن الزواج .. في الواقع أنني لست كفئاً لابنتكم ، وقد أقحمت نفسي في موضع صعب المرتقى . في حقيقة الأمر أن إمكاناتي ضعيفة ، ولا يمكنها أن تحقّق ما تصبو إليه يا أستاذ . وقد عاينت أمري طوال هذه الأيام التي غبت فيها فلم أعثر على ما يشجعني على المضي في هذا الزواج .. حاول الرجل مقاطعتي ، ولكنني رفعت راحة يدي ، في إشارة لطلب أن ينصت لي ، ورحت استرسل في كلامي قائلاً : ـ أنا أعتذر غاية الاعتذار لما سبّبته لكم من حرج وإزعاج ، كما شغلتكم بعض الوقت ، ولأجل أن أكفّر عمّا بدر مني أرجو تقبّل هذه الهدية المتواضعة .. وغمدت يدي المرتعشة في أعماق سترتي ، وأخرجت رزمة كبيرة من الأوراق النقدية ، ووضعتها بين يديه في انفعال واضح ، وبكثير من الزهو أيضاً . نظر الرجل في وجهي ، نظرة جامدة وباردة ، وقد أطبق شفتيه ، ثم قلّب الرزمة وهو يتفحّصها بعناية ، قبل أن يعود ليدسّها في أحد جيوب الروب ، وهو يهزّ رأسه ، ويقول : ـ حسناً .. يمكنك أن تذهب الآن .
◘◘◘
إن ذكرى الأيام الماضية أوصدت الباب في وجه عواطفي أكثر وأكثر .. لم يعد بوسعي أن أمدّ بصري إلى وجه حسناء جميلة ، كما فعلت آنفاً ، مهما اشتعلت النيران من حولي . وحلفت بقيس الحب وليلاه أن لا أقربه ثانية . واليوم ، ولأجل أن أضعكم في الصورة الصحيحة ، لا يسعني سوى القول أن الرشوة التي وضعتها بين يدي الأستاذ أكرم ، في نهاية مغامرتي ، كانت أعظم جمالاً وهيبة ًمن رشوة ملك الموت .