الليلة الأخيرة في مقبرة حسن بصري .

الليلة الأخيرة في مقبرة

حسن بصري*

 قصة قصيرة ـــــــــ محمود يعقوب

  

إنهم يعرفونه .. جيل الثمانينات من الموتى يعرفونه جيداً ؛ فهو دفّانهم وحفّار قبورهم .

ألفوه جميعاً بساعديه الشديدين ، المُتربين ، وقد علا أحدهما وشم أزرق لعقرب كبير شاهراً ذنبه .

وتحسّسوا جرأته المقدامة ، واندفاعه الجسور ، ونظراته البكماء  ، ووجهه الذي  لا يذكّر المرء إلّا بوجه امرأة أرملة .

   في يوم ثائر ـ حامي الوطيس ، من أيام الحرب ، عاد ( حسن ) من ميادين القتال ؛ رمى بأطماره العسكرية بعيداً عنه مصمّماً على الانسحاب من المعارك لوحده ، بعزم لا يريم . لاح قلقاً ومتململاً ، دواخله  تجيش ثائرة  ، وهو عاكفاً على الصمت ، لا يحبّذ أن يتحدّث معه أحد .  ارتدى ثوباً رماديّاً سابغاً فوق قامته القصيرة ، وقد بان وجهه أملحاً وكئيباً في هذا الثوب . ثمّ التقط حقيبة قماشية ، لا لون لها ، ودسّ فيها بعض حاجاته ، وقصد الطريق الذي يقوده إلى مقبرة ( حسن بصري ) ، ليتوارى في أحد أركانها محتجباً فيها عن الأنظار ! .

   مشى ناحية المقبرة وهو يرمي بناظريه بعيداً .. بعيداً تحسبه يتطلّع في عالم آخر .. مشى مشية جندي حقيقي لا جندي هارب من الحرب .. مشية من لا يأبه من شيء أو يخاف من عاقبة . كان صعب المراس ويائساً . أثارت سخطه مشاهد الموت الزؤام الذي ابتلع أصدقائه واحداً واحداً . وجعل يحسّ بالفراغ الموحش ، المضبّب بأدخنة الدمار واليأس ، الذي تطوف فيه الخيالات والأشباح النائحة ، بأحاسيس قاسية وجارفة .

   في تلك الأيام الطويلة  التي أضاعها في الحرب ، كثيراً ما كان يجلس متأمّلاً في مآسيها ، وهو يحاول أن يجد تفسيراً شافياً لتلك المحرقة المستعرة ، التي امتدّت ألسنتها إلى الناس وكأنهم من أفضل أنواع الحطب على سطح الأرض وأبخسه ثمناً ! . منذ أن تعالى غضب الحرب ، واضطرمت نيرانها ، في الأيام الأولى لاندلاعها ، شجبها بغضب ، وكان أصدقاؤه يرفضونها جميعاً ، ويلعنون من أشعل فتيلها غاية اللعن .

   استقرّ ( حسن ) في المقبرة وحيداً . اتّخذ من غرفة صغيرة ، معتمة ، غبراء ، جاثية في ركن مهمل من أركانها ، ملاذاً آمناً له . وكانت تلك الغرفة مستودعاً لبعض مستلزمات المقبرة ، وتبدو للعيان مثل ضريح من الأضرحة المبنيّة من الآجر الشاحب ، الحزين .  أمست تلك الغرفة مخبأه ، ومحلّ عمله . ولم تمض سوى القليل من الأيام حتى أحبّ بحق أجواء السلام والرحمة التي تطبق في أرجاء المقبرة . وتراءت له مثل حديقة صخرية .

   كان واثقاً من أن لا أحد يجرؤ أو يفكّر في مداهمته والوصول إليه أ ولعلّه كان صادقاً في ثقته تلك . في الغرفة المحاطة بالأموات والصمت الأبدي الرهيب يأوي آمناً منقطعاً عن العالم بأسره ، في ذلك الوقت العصيب الذي تتوافد فيه النعوش من ساحات القتال تباعاً .

وخلال بضع شهور صار الناس ينظرون إليه على أنه ذو قلب ميت .. يعاشر الموتى ويلوذ بينهم بلا خفقة جفن ، أو رجفة قلب .

   اغترب سنين عديدة بين الموتى ، ثابر خلالها على الدفن بدم بارد ، متضمخ بالكحول . ليست به حاجة لسماع الأخبار ، وتقصّي أحوال أصحابه ومعارفه ، فقد كانت الجثث التي يتسلّمها كل يوم ويواريها في التراب أصدق أنباء من أي حديث آخر . لم يكن سعيداً وهو يقرأ كل يوم أسماء من عرفهم على شواهد القبور أمامه . كان يجد أن أغلبهم منحوا حياتهم قرباناً للعبة الحرب التي يلعبها أشخاص لا يبالون لحرمة الحياة وقيمة البشر . هناك ظلّ ( حسن ) يعمل ، ويلوذ في آمان ، بعيداً عن العالم الصاخب وجعجعة الحروب . وفي أوّل الليل كان يتسلّل إلى مكان قريب ، ليجلب المشروب الذي كان يعاقره .

   في إحدى الليالي ، فاجأ أهله عائداً من المقبرة . ولج المنزل مكفهرّاً ، وقد عظم سواد ملامحه المتعبّسة ، وبان وجهه مثل حصاة كبيرة داكنة ، في الوقت الذي شرعت عيناه عن آخرها ، وزادت حدّة نظراته ، كعُقاب انسلّ من فلوات .لبث صامتاً في وجوم ، صمتاً محيّراً ، حتى أطلق العنان للسانه ، وهو يجيب والده الذي سأله بارتباك قائلا ً :

« ما الذي أتى بك ، وأنت تعلم أن من حولنا مئات الوشاة من أزلام الحكومة الذين يمكنهم تشمّم رائحتك  والإخبار عنك ؟ » .

« لا أبالي ، ما يمكن أن يحدث فليحدث ، ليلة أمس ، هي آخر ليلة ولن أعود إلى المقبرة ثانية » .

قال ذلك ، وصمت صمتاً موحياً بالصدق والألم .

أثارت عبارته حفيظة أهله ودهشتهم . التفوا من حوله سريعاً ، وانهالوا عليه بأسئلتهم الحائرة .

كرّر قوله مرّة ثانية ، وأكّد أنه لن يعود إلى المقبرة ثانية . بدت عيناه قلقتان ، ترمشان بانكسار ، وما لبث أن نكسهما إلى الأرض ، وتغضّن جبينه على نحوٍ مكلوم .

سألته والدته في خشية وتحسّب :

« هل تدرك ما تعنيه حقّاً ؟ » ..

« نعم ، أنا أفهم ما أقوله .. ليتكم كنتم هناك ليلة البارحة ، لترون بأعينكم ما جرى لي » .

قال ذلك وهو يبسط ساعديه ، كأنّما يستشهد بهما ، ويريد منهما أن ينطقا . وفي حركة ساعديه كان العقرب المتحفّز يثير الأنظار بلونه السُمّي الأزرق المخضر .

لم يحر أي منهم جواباً ، صمتوا وهم ينتظرونه أن يفسّر لهم ما حدث معه .

وقبل أن يذكر أي شيء زفر ، وحدّق في وجوههم ، وهو يقول :

« يبدو أن أخلاق الموتى تغيّرت كثيراً هذه الأيام » .

ونظر كل منهم في وجه الآخر في منتهى الغموض .

ولكنه أخذ يروي في نبرة متألّمة :

« عصر أمس ، دفنت قتيلين من قتلى الحرب ، والواقع أنني لم أدفنهما كما ينبغي لي أن أفعل ، مثلما اعتدت أن أدفن الآخرين ؛ ففي ساعة ضجر وملل أهملتهما ، وأسأت دفنهما .. دفنتهما بأنفاسي المخمورة ، وعرقي الذي تصبّب مثل قطرات خمر فوق تراب لحديهما .

   الواقع أنني في كل ليلة ، حالما يأزف موعد شرابي ، أشقّ طريقي بين القبور ، التي تملأ أرض المقبرة ، وأختار لي مكاناً قصيّاً ، مستتراً ، ومنطوياً على نفسي ، لا يمكن للعين أن تنفذ إليه بسهولة . هناك أجلس في العراء الصامت ، في ذلك المكان الكئيب ، حيث يغطّ الأموات في نومهم .

   ليلة أمس سعيت إلى فسحة مظلمة ، صغيرة بين بعض القبور ، وجلست مطمئناً لأبدأ شربي كعادتي . كان قبرا أولئك القتيلين قريبين إلي ، ما أن باشرت أصبّ الخمر في القدح حتّى خرج هذان الميتان ليباغتاني في جلستي المستكينة .. هرعا نحوي بأكفانهما الخشنة ، الناصعة البياض ، والتي راحت تقرقع فوق أجسادهما الناحلة ، الطويلة . كانت عيونهما غائرة ، وتقدح شرراً ، لا تطرف ، مخيفة ، لا يجرؤ أحد على التحديق فيها . أحاطا بي كالتوأمين الناقمين . في مستهل الأمر تساءلا لمَ أسأت دفنهما ، وكيف سوّلت لي نفسي بجلب الخمر والجلوس قرب رمسيهما الطاهرين ، وكيف تسوّل لي نفسي بارتشاف الكؤوس في غاية التهتّك والاستهتار ؟ وسقط في يدي أن أعثر على أيّما جواب لهما . وقفت بينهما متضائلاً ، بشعور رجل مثقل بالخطايا . ورحت أعتذر لهما بحرارة وصدق ، وأنا أحني لهما رأسي من حين لآخر تواضعاً واحتراماً . غير أن كل منهما بدا عصبي المزاج ، كانا موتورين ، وخاطباني بترفّع ، وهما يرفعان أنفيهما بخيلاء ، وقد امتعضت من منظرهما ذلك ..

   لم يسترسلا  في الحديث معي ، فسرعان ما شرعا يكيلان لي الضرب والرفس ، وغرسا أظافرهما في كل مكان من جسدي ، وانهالا عليّ بالسباب المقذع ، الموجع ، الذي لا ينسجم مع أخلاق الموت أبداً . وكنت أصرخ في وجهيهما ، أذكرهما بأنهما ميتان وعليهما مراعاة آداب المقبرة والموت . إن أي ميت آخر يرقد في المقبرة ، يمكن أن يسمع ذلك اللعن والسباب ، سيجعلني أعاني من الإحساس بعار الفضيحة ، والشعور بحرج التنصّل عن شرف المهنة .

   عاصا بين يديّ مثل الجراء ، واستغلقت على أسماعي أكثر أقوالهما ، وصَعُبَ علي فهمها . حاولت إسكاتهما بمزيج من مشاعر الغيظ والرأفة . توسّلت إليهما بأن يسامحاني على أي حال ، وأفرطت في الاعتذار لهما ، وأعلنت عن أسفي . تعهدت لهما بأن أدفنهما مجدّداً بإكرام كأن لم يُدفن ميت مثلهما . وأقسمت أغلظ الأيمان أن أغمر قبريهما بالطيب والبخور . ولكن كل ما كنت أقوله كان يذهب أدراج الرياح ، حتّى عيل صبري ، وفقدت زمام أمري ، ورحت أصرخ في وجهيهما مهدّداً ، قائلاً لهما ” هيا اخلدا إلى الراحة والنوم ، وإلّا سأقذف بجسديكما إلى أزقّة المدينة ” ! .

   في ضوء السماء الهزيل تشاجرا معي . هشّما زجاجة خمري على أحد القبور ، وضيّعا كأسي في الظلام ، وركلا طبقي المملوء بالباقلاء ، التي تفوح من فوق حبّاتها رائحة النعناع ، وديفت كلها التراب ، وكان بمقدوري أن أسمع حسرات النعناع في الليل المترقب الكئيب .

   كان يلوح لي وكأنني أتشاجر مع طفلين ، كلما أبعدت واحداً تشبّث الآخر بخناقي . كان جسداهما باردين ، يقشعر بدني من لمسهما . كنت أجرّهما في غاية السهولة ، يأتون بين يديّ كالعهن المنفوش ، وما أن مللت كثيراً منهما ، وضقت ذرعاً بهما ، في تلك اللحظات التي لم أشأ إيذاءهما فيها ، تحرّرت من بين أياديهما ، ركضت صوب غرفتي ، وأحضرت رفشي ، أخذت أنبش قبريهما ، وأنا أذود عن نفسي من ضربهما المبرح المتوالي . ما أن انتهيت من حفر القبرين مجدّداً ، حتّى أمسكت بأحدهما وطرحته في لحده ، وهلت فوقه الرمل بسرعة خاطفة ، من دون أن أتيح له فرصة النهوض ثانية . وهكذا فعلت مع الميت الآخر . أية جرأة هذه التي تخلّق بها هذان الميتان ؟ إنها جرأة لا تليق بالموتى ؛ كان ظهورهما على ذلك النحو جعلهما يبدوان مثل أولئك الشبّان المراهقين الذين يتلاكمون ويتشاتمون أمام دور السينما بعد انتهاء العرض .

   إن دفن الإنسان مرّتين أمر فظيع ، ينبغي أن لا يقدم عليه المرء إلّا بعد أن يملأ جوفه بالخمر ملئاً كافياً .. لا مندوحة لي غير أن أطمرهما في لحديهما بفظاظة ، وأبتعد عن قبريهما بأسرع ما يكون ! .

   حالما أنهيت دفنهما ، تنبهت إلى الهمس والهمهمة التي تدور من حولي في طيّات الليل الداجي .. همس وهمهمة الأموات الآخرين ، الذين تواروا عن العيون في الظلام ، وقد استنهضهم واستفزّهم العراك ، فوقفوا يتفرّجون على هذا الشجار الغريب .. همس وهمهمة تردّد فيها اسمي بوضوح ، وخشيت أكثر ما خشيت أن يتفاقم الأمر ، فيتدخّل هؤلاء في الشجار ، من غير أن يحفل أحد لحرمة المقبرة .

   عند وصوله إلى هذا الجزء من الحكاية بدا ( حسن ) محتشماً ووقوراً بشكل يلفت الأنظار ! .. ثم تابع يروي :

وقفت عند باب غرفتي أهتزّ مثل أماليد الشجر بين الريح ، أتطلّع في الظلام عبر القبور متحسّباً ، وعزمت على مغادرة المقبرة ، والنفور منها في أقرب وقت ، لأنني كنت موقناً من أنهما سوف لا يتورعان عن الخروج إلي في أية ليلة من الليالي والتشاجر معي ، ومن المعيب حقّاَ أن أتشاجر مع ميت طوال الليالي .

   أمضيت الليل في أجواء الضياع وخيبة الأمل ، أفكّر بهما ، وقلت ماذا يظن هذان المشاغبان نفسيهما ؟ ..

إن العشرات غيرهم دفنتهم بيديّ هاتين ، وهم يرقدون الآن مثلما ترقد الورود الرقيقة تحت أوراق أغصانها بوداعة وأمان ، من غير أن يبدر منهم أي احتجاج ..

ولأول مرّة في حياتي شعرت أن ثمّة أموات يطمعون في أن يدلّلهم الدفّان . لا شك أنهما سوف يعملان على تحشيد الأموات الآخرين ضدّي ، ويثيران الشغب كل ليلة . إنهما بلا شك سوف يتربّصان بي في الليالي المقبلة ، وأنا لست على استعداد أن أبدو خصماً لدوداً للأموات . غمرني شعور بائس بالوحدة والغربة . في تلك الليلة النكداء انخرطّت في الكآبة حتّى الفجر ، ولم يغمض لي جفن .

   كان الزمن مدفوناً في مقبرة ( حسن بصري ) ، ميّتاً هو الآخر أيضاً ، واللحظات واحدةً مهما تقدّمت ، وسواء أدارت الأرض أو لم تدر فإن الزمان واحد ، لا شيء يتغيّر ، سوى هذه الرمال ، مرّة تجف ، ومرّة تندى . على الرغم من ذلك تسنّى لي ، ولأول مرّة في حياتي ، رؤية الفجر في المقبرة . إنني أتمنّى أن لا يرى أحد غيري مثل ذلك الفجر الموحش الرهيب ، الذي أطلّ برعب . رأيته وكأن على كل قبر وقفت امرأة بجسد عارٍ ، بعد أن نضت عنها ثياب الحداد ، وبانت مثل شجرة احترقت تماماً .. شجرة من رماد داكن . تنتصب فوق كل قبر ، بلا أوراق خضر .. بلا ماء .. بلا عصافير ، وحتّى بلا عبير ، فقط كانت هناك رائحة الموت الغامضة تتسلّل كالمجهول ! ..

   قال ( حسن ) كل ذلك ، ثمّ مدّ يده وأمسك بيد أخيه الأصغر منه سنّاً ، والذي كان متداعياً من هول ذهول ما يسمعه ، واسترسل في الحديث قائلاً :

« لعلّكم تتصوّرون بأن ذلك تراءى لي وحسب ؟ .. كلا ، مطلقاً ، لم أكن مخموراً بعد . إن الكثير من الصفعات كان كافياً ليجعلني واثقاً من أنني في صحو ولست في حلم أو غيبوبة .. استطعت أن أنهض بكامل وعيي ، محاولاً إبعادهما عنّي ، كنت متحمّلاً لكل ضربهما ، كما كان بوسعي الرد عليهما وإلحاق الأذى بهما ، ولكنّني لم أكن مستعداً لضرب ميت دفنته يداي ، وهلت عليه التراب برحمة وإشفاق » .

ثم نضا ثوبه عنه ، وأخذ يريهم تلك الخدوش والكلوم التي ألحقها به الموتى .

تفحّصوه بأفواه ملجومة ، وعيون خاوية ، وهو يجلس بينهم كاللغز . اعتاد أفراد أسرته عليه ، وهو ينكب على شرب الخمر ، داخل المنزل ، من دون أن يثير أيّة متاعب ، أو يحصل له أمر طارئ ، ينغّص عليهم استقرارهم وسكينتهم . هذه أوّل مرّة يسمعونه يتحدّث بمثل هذه الغرابة ، وكأن شيئاً ما ألمّ بعقله .

« هل كل هذا صحيحاً ؟ » .

سأله والده ، وهو يدرك أن ( حسن ) لا يكذب .

« يا أبي ، لست مضطراً للكذب على أحد » .

ولكن والدته وأخاه لم يكونا على استعداد لتقبّل مثل هذا الهراء .

« إثر هذه المشاجرة المفاجئة ، تملّكني صحوٌ عجيب .. صحوٌ هتك الغشاوة من على بصري وبصيرتي ، وجعلني أكره المقبرة بغتة ، ولا أطيق البقاء فيها بعد . بتّ أرى المقبرة بكل شواهدها وكأنها شيء غريب حقّاً حشرني القدر بين أركانها . ورحت أتنفّس هواءها الندي القاتم بكل عفونته ، كما لو أنني لم أتنفّسه من قبل . ليس الخوف أو الرعب ، كما يمكن أن يعنّ في بالكم ، هو الذي هوى بي إلى قرار الصحو .. نحن هناك سواسية ، رماد في رماد ، لكنها هي الحقيقة التي صفعتني على قفا عنقي ، وأطاحت بخدري وسكري .. الحقيقة التي عُميت عنها . عقب ذلك ، همتّ بين القبور ، أخذت أتصفّحها قبراً قبراً ، وجلست أقرأ شواهدها على ضوء أعواد الثقاب . في ذلك الليل النحس ، هالني هذا القدر الرهيب من أسماء معارفي ، وهم يثوون ، بلا ذنب ، في أعماق الرمال . كان كل شيء مريعاً ، صادماً ، أفي رمشة عين دفنت هذا الجمع الغفير ؟ .

   ما أعظم دهشتي منهم ! .. من هؤلاء الأموات الذين ينامون جنباً إلى جنب ، وكأنهم أخوة في الصميم . موتى جاءوا من كل مكان ، من أعراق وألوان متباينة ، لكنهم الآن أخوة يحتضن بعضهم البعض بوداعة .

إن الإنسان ليشعر بالعطف عليهم جميعاً .. ما أعجب الموت ! » .

   مال ( حسن ) بظهره إلى الخلف ، وأطلق زفرة ، وهو يركن إلى الصمت . كانت سحنته متلبدة ، بدا كما لو كان أبكماً . بينما أطلق أخوه ضحكة حبيسة ، حرّة ومديدة ، وهو ينصت لمثل هذه الأخيلة الخصبة ، الجامحة ، التي تفتّقت عن مخيلة سكّير ، تسبح روحه طوال الليالي في نشوة الخمر ..

ثمة ابتسامة بلهاء كانت ترتسم على وجه الأم .

حدّق به أخوه بدقّة ، وقال له بأسف مشبوب :

« إلى أي درك سينزل بك الخمر يا ( حسن ) ؟ .. بت تتقبّل الأوهام والرؤى الزائفة على أنها حقيقة قائمة ، وتتمسّك بها حتى في أوقات صحوك ، إنني أحذّرك أن تكف عن تناول هذا السم قبل أن يودي بك إلى الهلاك والجنون » ..

بان التأثر على وجهه واضحاً وهو يلوم أخاه ، ثم أمسك عن الكلام هنيهة ، وراح ينظر إلى والديه ، كأنه يستحثّهما على نصيحة ولدهما . وما لبث أن استطرد يقول :

« إيّاك أن تخبر أحداً بهذه القصة ، لأنه سوف يسخر منك ، ما من إنسان عاقل إلّا وسيتهيأ له سورة الجنون الذي يحتدم في رأسك .. إنني سوف أنسى ما قلته لي ، وعليك أن تنساه أيضاً » ..

   خيّم على جمعهم سكون أشبه بسكون المقبرة ، طالما أسبغ عليه السُكر انطباعاً يوحي بعدم الثقة بين أفراد عائلته ، ولكن حُسن خُلقه ، وطيبة قلبه ، وسلامة طويته ، تجعلانه محبوباً ، مسموعاً لمن ينصت إلى أحاديثه .

   بعد أن أفضى ( حسن ) بكل تلك الأقاويل ، ضيّق عينيه ، وأدلج ظلمات الألم ، وأخذ شريط شاربه الأسود الرفيع يختلج فوق فمه الشديد الجفاف .. يختلج بما يوحي بأنه يقسم على قول الصدق . الأمر الذي حدا بأخيه أن يمسك نفسه عن الضحك استهزاءً ، ويكتفي بالقول :

« أنت تتحدّث وكأن كل ما حدث هو واقعي وليس من خيالات السُكر » .

« يشهد الـله أني لم أشرب في تلك الساعة شيئاً ، فما أن جلست حتى خرج إليّ أولئك العاثران ، وأطاحا بسكرتي » .

   تركوه يرتاح في مجلسه ، وهم متحيّرون إزاء ما ضجّ به رأسه من خيالات ورؤى غريبة  ، التي لا يريد أحد منهم تصديقها والإقرار بها  . جلسوا من حوله بنظراتهم المتشكّكة ، وضحكاتهم المكتومة ، وطلبوا منه أن يرتاح ملياً بينهم ، وأن يعود تحت جنح الظلام إلى المقبرة ثانية ، لأن بقائه في البيت خطر حقيقي محدق .. خطر عليه وعليهم جميعاً . إن رجال الأمن سيتعقبونه وينالون منه بالتأكيد . ثمّ حضوه على ترك عادة الخمر لأنها سوف تكون وبالاً عليه ، وتودي به بين براثن رجال الأمن .

« هيا امضِ لتستحم ، واستبدل ثيابك ، فإنني لا أستطيع التنفس كلما وقع نظري عليها » .

غير أن ( حسن ) كان عازماً على البقاء في المنزل . وردّ عليهم بالقول :

« كلا لن أعود إليها ثانية ، المقبرة ليست مكاناً مناسباً لهارب من الحرب مثلي ، إنها مكان الهاربين من الحياة » .

   لا أحد يعلم ، أهي نجوم السماء تشي ، أم هذا الهواء العابر السبيل ينقل الأخبار ؟ .. فما أن مرّت على استقرار ( حسن ) ، الهارب من جبهات الحرب ، في بيته بضعة أيام معدودات ، حتى تفاجأ بمجموعة مسلّحة من رجال الأمن يطبقون على الدار ، في الهزيع الأول من الليل ، ويطلبونه .  هبّ ( حسن ) منتفضاً ، وهبّ ذنب العقرب على ساعده . التقط سلاحه ، وتسلّق سطح الدار . نظر إلى سطوح الجيران ، خلف داره ، فرأى أن بإمكانه النجاة ؛ وأسرع ليرمي بنفسه على سطح جيرانه ، وراح يعبر من بيت لآخر ، حتى وجد نفسه حيال زقاق يفضي به بعيداً عن عيون مطارديه . وهكذا ولج مقبرة ( حسن بصري ) في ظلام الليل ، منهوك القوى ، متقطّع الأنفاس ، ودسّ نفسه في أعماقها مرّة أخرى .

    لأكثر من ساعة ، جلس عند باب الغرفة ، وهو يرسل بنظراته لتسبر أركان المقبرة المظلمة ، تحسّباً من أن يتعّقبه أولئك الأزلام . وعندما أدرك أن لا سبيل لهم ليستدلّوا على مكان اختفائه ، عمد إلى فراشه المطوي في أحد جوانب الغرفة ، ونفض الغبار عنه ، وبسطه في الموضع الذي اعتاد أن ينام فيه . ولأول مرّة تشمّم الرائحة العفنة التي تخيّم على جو الغرفة بمثل تلك الحدّة ، حقيقة كانت رائحة مُنفرة ، تثير الاشمئزاز . لاح كما لو أنه يشمّها لأول مرّة ، وربما كان هذا بسبب اعتياده على فراش نظيف في منزل أهله .  ولكنه استسلم لقدره ، وعزم أن يخلد إلى النوم على أي حال .

   نام ( حسن ) بقايا تلك الليلة بملأ جفونه ، ضارباً كل ما حدث عرض الحائط ، وتاركاً مصيره لرحمة الأيام . في أول الصباح ، تنبّه من نومه ، كان مُمتدّاً في فراشه ، وعيناه مغلقتان ، ولكن رائحة طيب عطرة بدأت تفغم أنفاسه ، تصوّر أن ذلك مجرد وهم ، وهذا ما جعله يفتح عينيه وينظر من حوله . تفاجأ بدخان شفيف ، يدور في أرجاء الغرفة ، وينشر أريجاً حسن الرائحة ، فاستوى جالساً في فراشه ، وتفحّص المكان من حوله ليرى أن ثمة أربعة أعواد بخور قد غرزت في كل ركن ، تحترق بوقار ، وتبث عطرها بسكينة وبهجة ، وكانت الرائحة تتغلغل في كل شيء من حوله .

   أغرق في الذهول ، إنه يدرك تمام الإدراك أن لا أحد غيره يمكن أن يأوي إلى المقبرة ، لا في الليل ولا في النهار ، وأطرق متفكّراً بما يدور من حوله . وفي خضم أفكاره مرّر سبابته فوق فمه المغلق ، كما لو كانت قلم حمرة يرسم لونه الأحمر على شفتيه ، فقد توهّجت شفتاه بشبح ابتسامة واهنة تشبه هلالاً مولوداً لتوًه في صفحة السماء ، وهو يفترض سبباً معقولاً لإندلاع البخور في غرفته ، والمعاني الحقيقية لهذا التكريم الروحي ؛ كانت مشاعل البخور موحية . ابتسم طائعاً ومتجاوباً من أعماق قلبه ، ” إني على يقين بأن الموتى قد غفروا لي ” قال ذلك في سريرته ، وهو يطرق متفكّراً . ثمّ استطرد يقول ” قد تصدم المقابر الإنسان وربما تخيفه ، لكنها لا تعاديه البتة ، فمهما يكن من أمر هذا الإنسان فإنه في نهاية مطافه يأتي لينام في تربتها نوم الخالدين ” . وفجأة غلب ( حسن ) إحساس نقي بأن الإنسان والموت صديقان لا يفترقان . هدأت حالة الضياع في نفسه ، وخفتت مشاعر تمرّده التي لم تكن لتهدأ في أي وقت من أوقاته السالفة ؛ اطمأن لحاله ، ونهض بهمّة ليستقبل الصباح الجديد .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*: مقبرة ( حسن بصري ) في بلدة الزبير ، محافظة البصرة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *