أسطورة الجندي ( شيبوب ) ــ قصة قصيرة

أسطورة الجندي شيبوب

قصة قصيرة

محمود يعقوب

 

لَمَمّت بهذه الحكاية عقب اندحار قواتنا في حرب الكويت ،

في غضون أيام قلائل . حيث عاشت الوحدات العسكرية المكسورة في فوضى عارمة . عادت تلك الوحدات ، التي أحاقها الدمار ، إلى مواقعها الخلفية وقدماتها الإدارية بما تبقّى لها من جنود  وآليات عسكرية ، وكانت بعض هذه الوحدات مجرّد وحدات أشباح  كما هو شأن وحدتي ..

عدنا إلى مقرنا القريب من أحدى المدن الصغيرة ، الشديدة اليبوس . وكانت مدينة عاوية ، كما يحلو لأبنائها أن يوصفوها . وكانت ثكنتنا ثكنة رياح في الصحراء . تضم بضعة قاعات متباعدة عن بعضها ، قديمة استحال لونها إلى لون  طيني . لم تكن لها أبواب ، لقد هرع العاوون إليها من المدينة ، وسرقوا جميع أبوابها ، وانتزعوا مصاريع شبابيكها بلا رحمة  ، حتى بانت مثل جثث مبقورة البطون والصدور .

بين فناءات الأبنية أعداد  قليلة  من أشجار اليوكالبتوس الهرمة التي يكاد يـُغشى عليها من الظمأ . بالنسبة لي ، أويت مع أربعة جنود  في أحدى هذه القاعات بمعزل عن الآخرين . . أوينا مثل خمسة قطط كسولة تبحث عن الظلال . كنا متساوين في الرتب على أرض الواقع ، فالهزائم تساوي بين الرتب عادة ً مثلما تفرق بينها الانتصارات . أن الشخص الذي يكبرنا سنّا ً لم يكن جنديا ً مثلنا ، إنّما هو وفق سلّم الرتب كان يُعد نائب  ضابط ، من الرتبة التي يُطلقون على حاملها وصفا ً غريبا ً بأنه حارق ، وأن الجنود البسطاء غالباً ما يكونون من بين  محروقاته !..

حقيقة ً لم تكن هذه الرتبة تجتذب ودّ  الجنود  واحترامهم إلّا ما ندر ، غير أن صاحبنا بسكونه المهيب ، وهيكل جسده الهندوسي ، وسحنته الغجرية ، ولامبالاته العجيبة ، قد استحوذ على قلوبنا ..

كان أبيض الشعر تماما ً ، صبّ َ حبه في صدورنا منذ الأيام الأولى . كان يصرّ على القول أنه يعرفنا .. وأنه التقى بنا في مكان ما سابقا ً !.. كما يؤكد ويحلف بأغلظ الأيمان على ذلك ، فيما أصدقائي  يستغرقون في الضحك .. أما أنا فقد تقبّلت تلك الأوهام كما لو أنها حقيقة ً فعلا ً .

كان الرجل طيباً وعفوياً ، من النوع الذي لم يُخلق للحروب وإنما خُلـِق َ للأحلام فقط . لا أعتقد أنني صادفت قبل ذلك عسكريا بمثل هذه الدعة والهدوء الراسخ في الأعماق .

سرعان ما عرف اسمي . ودرج على مناداتي من دون الآخرين إذا ما احتاج شيئا ً ..

في صباح أحد الأيام ،وفيما كنا  نحلق وجوهنا ، ناديته باسم ( شيبوب ) . توقّف عن الحلاقة  ورفع وجهه عن المرآة وقال ( إن هذا الاسم جميل ) ، ثم تساءل ( لماذا اخترته من بين جميع الأسماء ؟.. ) ، قلت له ( لأنك شائب تماماً وجميع شعرك أبيض ) . في الأيام الأولى كان يبتسم عندما نناديه باسم شيبوب ، وفيما بعد صار لا يـُعرَف بغير هذا الاسم !..

كان وجهه صغيرا ً ، ولحيته مرحة ، حين يتركها تسترسل بضعة أيام يصبح وجهه مثل وردة غامقة اللون محاطة ببتلات  رقيقة بيضاء .. في هذا الوجه المسفوع بالشموس كانت عيناه الصغيرتان تلمعان مثل العقيق اليماني .

كان جنديا ً يكره الطغيان العسكري ، ويهوى النوم الثقيل خلال النهار . أنعم  علينا بأفضاله الجليلة السمحاء ، التي لا تـُنسى ، وهو مُوجـِه  لا يُخطىء ، لا زالت لمساته مطبوعة في حياتنا حتى اليوم . إن أجلّ فضل  له أنه نجح في تسديد خطاي على درب الهروب من الجيش وعدم الرجوع إليه ثانية ً، ذلك الدرب الذي كنت في السابق أخشاه ولا أقوى على اقتحامه . إن قلبي يموج بفيوض الامتنان لمعروفه الأبوي هذا !..

لم يكن لدينا طيلة تلك الأيام أشياء حقيقية نفعلها ، سوى تبادل الإشاعات والأراجيف ، بينما يستغرق شيبوب نهاره ثاويا ً في فراشه ثواء الموتى . كان يستسلم للنوم بشكل عجيب ، ولم تكن حتى المدفعية قادرة  على زحزحته وإزعاجه . خلال نومه ، نقوم أحيانا ً بتحريك أطرافه على سبيل الاختبار.. نرفع ساقه .. نؤرجح يديه ، لكنه لا يشعر بذلك على الإطلاق .

في أحد الأيام جررته من فراشه وأجلسته عنوة ً ، لغرض أن نذهب لاستلام رواتبنا . ثم سألته بشيء  من الانزعاج  :

ـ بربك كيف يغلبك النوم إلى هذا الحد ؟..

ردّ علي بصراحة وهو مغمض العينين :

ـ إسمع ْ، أنا بطل الجيش في النوم . ذات مرة  كافأتني القيادة بوسام الاستحقاق العالي من أجل هذا النوم !.. وأضاف :

ـ صَدِقْ .. أنني أقول الحق .. هاك انظر ، وهنا رفع وسادتين كان ينام عليهما معا ً ، وتناول من تحتهما نوطا ً ذهبيا ً لامعا ً، وحين تفحصته  تبين لي أنه وسام الاستحقاق العالي فعلا ً، وطفقت أنقل نظراتي بين وجهه وبين النوط في ذهول . لكنه استرسل يسرد لي كيف علّقوا الوسام على صدره ، فقال :

ـ ذات مرّة  في جبهات القتال ، كنت أغط في النوم حين تمكن الإيرانيون من اختراق سريتنا ، قاصدين خط المدفعية التي تستتر في مواضع خلفنا ، في هجوم مباغت وسريع ، ثم ما لبثوا أن تراجعوا إثره تحت ضغط النيران . لقد قتلوا وأسروا الكثير من أفراد سريتنا ، قليلون أولئك الذين صمدوا في مواضعهم . بعد انسحاب العدو جاءت قيادتنا برتبها المخيفة  الحمراء . سارع أصدقائي وجرجروني من داخل بطانيتي ورشقوا وجهي بالماء البارد وأوقفوني مع الجنود الصامدين ، وقلّدونا أوسمة الشجاعة .. إنني ممتن لأولئك الجنود الطيبين  برقبتي ، لولاهم لكانت تلك القيادة قد أطاحت بها على الفور ..   

منذ ذلك اليوم وشيبوب ينام نوما ً عميقا ً مطمئنا ً ونوط الشجاعة يرقد تحت وسادتيه !..               

كم من مرة دافعت عنه بحماس !.. حماس تعصّبي .. حماس إلى حد الشجار ضد أولئك الذين يصفونه بالبلادة ، كنت أقف أمامهم وقفة تأثّرية حزينة ، متوسلا ً أن يشرعوا أعينهم على مصاريعها ليروا الوهج  الذي يتألق تحت جلده الأسمر الداكن .. كنت أتساءل دائما ً كيف يمكن أن يكون بليدا ً من يمتلك تلك النظرة الساهمة ، وهذا المظهر الهندوسي ، التأملي ،الروحاني ، الأخاذ ، وهذا الأنف الناحل الطويل الذي يشبه أنوف القديسين في التصاوير المسيحية ؟..

لا يوجد أي أثر للكهرباء في القاعات التي آوينا فيها . وطيلة النهار كانت الحرارة وسموم الرياح تلفح جلودنا . أما في الليالي ، كنا ومنذ البداية قد صَغرنا لنصائح شيبوب ، وأخذنا ننام أعلى سطح القاعة التي نشغلها . كان يؤكد لنا أن الذئاب تجول في ذلك المكان ليلا ً . وحينما نتسلق سطح البناية يروح شيبوب يجهز بعض الملابس العسكرية القديمة ..ملابس قتلى ومفقودين ، ويصب عليها القليل من النفط  ويصعد بها إلى السطح ، وهنالك يشبّ فيها النار . كان يقول أن للملابس دخانا ً كثيفا ً وكريهاً باستطاعته طرد البعوض بعيدا ً عنا ، ولذلك أعتدنا النوم تحت غمامة من الدخان الأشهب الذي يطفو جنبنا في الليل بروائح القتلى ..

على السطح نقوم بترتيب أفرشتنا الواحد جنب الآخر ، وكان فراشي جنب فراش شيبوب.

كل ليلة كنا نتسلق السطح  بعد العشاء مباشرة ً . في حقيقة الأمر  لم تكن لدينا رغبة في النوم المبكر ، بل كنا ننغمس في الأحاديث الشيّقة ، الفاتنة ، التي لا تنتهي أبدا ً. وبالنسبة إلى شيبوب يظل يسهر حتى طلوع الفجر، وكنا نحتسي أقداح الشاي وندخن كثيرا ..

يبدأ شيبوب السهر وهو يقص علي سيلا ً من القصص والحكايات الخيالية المدهشة ، التي كنت أذوب في أجوائها ، ولم تمض ليال على هذا الأمر حتى صار زملائي يشتركون بلهفة  معنا ..

لم يكن شيبوب كاتباً قصصياً ولا من ذلك النوع الذي يُقال عنهم أنهم مثقفون .

كان راوي قصص ، يرتجل الحكايات لفوره ، ويأخذ بإلقائها على مسامعنا . كان رأسه طافحا ً بالحكايات المثيرة المدهشة . ما إن يجن الليل حتى يبدأ بروايتها دون توقف  حتى انبلاج الفجر .

إن تلك القصص تولد في الليالي ، دون تهيئة مسبقة ، ومن هنا تبدأ أسرار أسطورته !..

كان الرجل يصوغ من هزائمنا وتعاساتنا وأحلامنا قصصا وحكايات لا تتوقف عند حد  . يكفيه أن يلقي نظرة متفحصة سريعة على وجوهنا لتتساقط من بين شفتيه الحكايات تباعا ..

كانت ينابيع القصص تتفجر تحت قدميه ، وكانت قصصه أنخابا ًتدور في شعشعة الليل وتوقد فيه تلك الانتعاشات العذبة .. إنه يؤنسنا حقا ً ، ويحيل ليالينا العسكرية إلى ليال ٍ رخيـّة ..

حين يمتد صوته الحالم مع سجو الليل ، نمسي مثل طيور ماء  نترجرج فوق سيله وهو ينساب بنا بعيدا ً .. بعيدا ً عبر الليل بين الأفلاك المُذهـّبة .. ويصير الطقس حلوا ً ونقيا ً، وتبدو وجوه أصحابي  بشوشة صافية ، وحتى الثكنة بكل فوضاها تبدو جميلة هي الأخرى !..

حين يمتد صوته الحالم ، كان هَمـَيان السحر الهندوسي يندلق بلا توقف  ويؤسر الألباب .. وهنالك أعلى السطوح كنا ننسى حتى أولئك الذين تركوا شبابنا يمضي بإمرتهم ورهن إشارتهم كالعبيد !..

كان يبدأ جميع حكاياته قائلا ً :

ـ كان هنالك ملك ..

كلا أنما كان يقولها هكذا :

ـ كان هنالك ملـــــــــــــــــــــــــــــــك ..

إنه يمط  حرف اللام ويتصاعد به في سمو وارتقاء وتبجيل .. يقول ذلك والأحلام تتماوج بين عينيه  . وحقيقة الأمر أنه يتحدث عن ملوك لا أملاك لهم ، ملوك من أمثاله وأمثالنا .. ملوك يجاهد أن يجد لهم  عروشا ً شامخة في كل قلب ، ويحيطهم بشغافه !..

كانت قصصه طافحة بسحر غامض .. سحر يُخدّر أحاسيسنا ووعينا تخديرا ًناعما ً . هل هو يمارس طقسا ً من السحر ؟.. أم أنه يمارس التنويم المغناطيسي ؟.. لا أعرف بصراحة .. لا أعرف . إن زملائي ما أن يستمعون إلى سلسلة  من تلك القصص حتى يتساقطون في شباك النوم تباعا .. لعل شيبوب مثل رجل يناغي أطفاله في هدأة الليل وينيمهم بين يديه !..

في جيوب ملابس كل واحد  منـّا حبوب منوّمة ، وأخرى للهلوسة ، كنا نتعاطاها في الليالي السابقة ، أما الآن وأمام شيبوب وحكاياته الأسطورية لم نعد بحاجة إليها مطلقا ً .

بدأت علاقتي مع شيبوب باحترام وود متبادل ، تطوّر سريعا ً إلى نوع من التعاطف الحميم ، ولهذا السبب أطلق على جميع أبطال قصصه وحكاياته  ، بكل ترحاب ، اسم ( محمود ) ، على الرغم من اعتراضي على ذلك ، إنني ممتنّ أجزل الامتنان للحب السامي الذي يغمرني به هذا الدرويش الفقير ، إلا ّ أننا لم ندرك الفخ المرعب الذي أوقعتني به بطولة تلك القصص ، والذي لم يكن الرجل يتعمده !..

كنت آخر من ينام وأنا أرهف السمع إليه ، بينما يظل هو بعد أن نغفو جميعا ، محدقا ً بالسماء  ونجومها ، مسترسلا ً في سرد قصصه ، وكأن هناك من يستمع إليه ، حتى مطلع الفجر . كنت أغفو سعيدا ً،أحس بأن النجوم تندس وتغفو معي في الفراش ، بينما موسيقى الليل وألوانه البدرية تدثرني كالطفل !..

أحيانا ً ، أطلب منه في اليوم التالي ، أن يعيد على مسامعي  سرد الحكاية التي كنت بالأمس أسمعها قبل أن يتملكني النعاس ويحرمني منها . يحاول هو ذلك ، لكنه يفشل في تذكرها .. جميع القصص التي يرويها  لا تعلق في ذاكرته طويلاً ، انه مشغول ٌ باختراع قصص غيرها  . شيبوب يدرك أننا غالبا ً ما نتشوّق لسماع  بعض القصص مرة ً ثانية ، ولهذا السبب كثيرا ً ما كان يبتسم ، وهو ينصحنا بإحضار قلم وورق بغية توثيقها .

قال البعض أنه يبدّد حكاياته بلا طائل ، لكنه رفض هذه الأقوال . كان يظلّ يقص قصصه بلا توقف حتى القطرة الأخيرة من كأس الليل . أحيانا ً ننتبه في نومنا فنجده لا زال مستمرا ً في الروي ، وهو في وضع غريب !.. قبضة يده اليسرى  تدير وجهه نحو الأعلى ، وعيناه سابحتان في الظلام ، متوقدتان ، مذهولتان ، وتائهتان ، يسكب رواياته همسا ً في الهزيع الأخير ، وكأنه يخاطب أحدا ً ما .  كنا نسأله إلى م َ يبقى يقص حكاياته ؟.. فكان يصمت  وفي صمته تتلاطم الأسرار ..

ومع ذلك ، فإنه لا يروي حكاياته سدى ، إنه يروي لمن تودّه روحه وتألفه جوارحه  .

ذات مساء  أمسكت بخناقه ، وقلت له أنني لا يسعني تركه إذا لم يخبرني لمن يبقى يقص تلك القصص وحده ..

قال وهو يبحر عبر عيوني :

ـ اسمع .. إن لذ ّة الدنيا أخبارها . قبلك وطيلة فترة الحروب ، كنت أروي حكاياتي على مسامع عدد  كبير من الجنود ، الذين تساقطوا في المعارك واحدا ً تلو الآخر ،

ومع ذلك بقيت أروي لإخوانهم من بعد . وقد فوجئت بعد وقت قصير بأن أرواحهم تحوم حولي في جوف الليالي ، تريد الجلوس قربي  ، وترخي السمع إلى قصصي . وأصبحت تلك الأرواح لا تفارق مجلسي ، وتسهر معي حتى الفجر !.. إنك لا تراها ولا تسمعها ، لكنني أراها وأسمع همسها، وأحكي لها بإخلاص كل ليلة ..

منذ ذلك اليوم الذي أخبرني فيه هذه الحقيقة  عرفت الأرق .. الأرق الذي يبقيني طوال الليل محدقا ً في الظلام  متوقعا ً ظهور تلك الأرواح قربي في كل لحظة !..

وهكذا مرّت الليالي ساكنة ً ،أما النهارات  فكانت فوضى لا تحتمل .. أناس يأتون ويروحون .. جماعات تعود من الهروب ، وأخرى يتم تسريحها ، والبعض يـُنقلون إلى آخر ..

ذات يوم تهيأنا للذهاب في إجازة ، فصادف أن سألني أحد الضباط قائلا ً :

ـ ما هو صنف نائب الضابط  الذي ينام معكم ؟..

وبشيء من المزاح أجبته :

ـ روائي ..

على الفور أطلق ضحكة صاخبة في وجهي وقال :

ـ الجيوش لا تحتاج إلى روائي ، أنها تحتاج من يسمع ويرى فقط .

حين عدنا من الإجازة ، لم نجد شيبوب !.. بحثنا عنه ، وعن حقيبته وفراشه ، لم نجد له أثرا ً في كل القاعات . حينئذ  سارعنا إلى مكتب السرية نستفسر عنه ، حتى عرفنا بأنه تم نقله إلى وحدة أخرى مع عدد من الجنود لأغراض التعويض ، لقد جرى ذلك الأمر الرهيب بأسرع ما يكون خلال إجازتنا المشؤومة ..

يومها تجرّعنا هذا الخبر غصصا ، وخرجنا من المكتب وقد الـمّ بنا الحزن ، وأعترف أن عيوني هملت دمعها لهذا الفراق السريع . وضرب كل ٌ منـا كفّا ً بكفّ وانحنى يقول لصاحبه :                                                                                                                                                    ( لقد أضعناه !.. ) . كان الأمر أشبه بالخراب العائلي  . شاهت وجوهنا وغشينا الضيق  ، وفقدنا الرغبة في البقاء في هذا المكان ، لذلك عدنا مرّة ً أخرى  إلى المكتب ، ورجونا كبيرهم أن يسدي لنا خدمة ، وأن ينقلنا إلى المكان نفسه الذي أرسلوا شيبوب إليه ، غير أن الرجل أبدى استغرابه ، وافتر ثغره عن ابتسامة ذات مغزى ، وقال بما يشبه العزاء :

ـ آن لكم أن تفهموا أن صداقات الجيش كالظلال ، سريعة الزوال ..

كالريح توارى شيبوب وهبّ مبتعدا ً .. كالريح هبّ علينا ، وملأ صدورنا ، ونفش شعر رؤوسنا ، وحرّك رموشنا .. ثم ابتعد َ .. من يمسك بالريح إذا ابتعدت ؟..

ظلّت أرواحنا تهفو إليه ، وبقيت أحاديثه وذكراه شغلنا الشاغل في قعدتنا وقومتنا .

صـَدِقوا ، أن الليالي التي توالت بعد رحيله ،كانت ليالي أخرى .. ليالي قاحلة غبراء ، كأننا حُمِلنا فيها إلى مكان  موحش  ناء ، وأمست تلك الليالي طويلة لا نهاية لها . تغيرت فيها الكثير من عاداتنا ، لم يعد أحد  يبالي في حرق الملابس في الليل ، وكان البعض يتأخر عن تسلّق السطح  ، ويؤسفني أشد الأسف أن أقول أنني عدت مع زملائي إلى تناول تلك الحبوب اللعينة التي كانت تملأ جيوب ملابسنا .

ربما تحدّثت عن صديقي شيبوب بشيء من المبالغة والحماس . ولكن تبقى هنالك حقيقة لا تقبل الغربلة ، أن الرجل كتب لنا في الليالي المظلمة قصصا ً لا تنمحي ، مرة ً بحس  من الفكاهة والسخرية ، وبسيل  من الدمع الجارف أحيانا ..إنـها الحياة وتلك هي قصصها !.. كنا جميعا ً شغوفين بها ، ولم يتطاول أحد عليها ، وحتى تلك الأرواح التي كانت تجلس بين يديه  مبهورة ، لم يتجرّأ أحد على الإساءة إليها ..

ربما بدافع تلك الحبوب ، صرت أعيش ليالي مرعبة  ، أرتعش فيها من فرط الخوف والتوجس ، وأحشر نفسي بين زملائي ، ملتفا ً بأغطيتي ، هاربا ً من رؤية الأرواح الهائمة ، والتي أسمع خفقاتها وهمسها ، بل أكاد أراها طوال الليل وهي تبحث عن شيبوب ، ولم تعد لي رغبة في النوم لا في آناء الليل ولا أطراف النهار !..

إن ما كان يرعبني ويزعزع كياني ، إن تلك الأرواح والطيوف الهائمة لم تكن تبحث عن شيبوب وحده وحسب ، إنما كانت تبحث عني أيضا ً .. تبحث عن بطل تلك القصص جميعا الذي اسمه محمود !..

وخلال بضعة أيام  ، تحوّلت تلك الوحدة العسكرية إلى ثكنة أطياف وأرواح تهيم في أرجاء المكان ، وتجيش مثل الموج إذا جنّ الليل !..

 وهنا أعتقد أنكم سوف تــُقــَدِرون حق التقدير قوة الرعب ، وعمق الخوف الحقيقي الذي أحاق بي من كل جانب ومكان ، ودفعني مرغما ً في النهاية أن أحزم أمري ، في شجاعة ، وعدم تردّد ، أن أهرب من الجيش هروب المذعور الذي ليس بوسعه أن يعود ثانية ً !..

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشطرة / 2009

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *