( التشابيه ) ــ قصة قصيرة

( التشابيه )

قصة قصيرة

محمود يعقوب

     ما أريد قوله بصدق  ، إن السوق ما هو إلّا الروائح والعطور المتأرّجة  بعنفوان ، وما الزبائن إلّا تلك الأنوف الشمّامة .

   يقودني أنفي كالدليل ـ وأنا أوسع الخطى خلفه ، يقف تارة ً، وينطلق تارة  أخرى . ينفر من مكان ، وينجذب إلى آخر ، حتى يرفعني ويضعني في حضن  ناعم كالرضيع !..

 

    كنت جالساً ، لأمر ما ،  في محل ( سراجة البتول ) ، وأنا استنشق فوح الجلود المدبوغة دبغا ً حسنا ً ، الجلود المطلية ، اللمـّاعة ، التي كانت روائحها راسخة ؛ حينما دلف إلى المحل شاب برأس  أجرد  حليق  .. رأس حليق وكبير كاليقطين الأحمر .

أخذ يتفحص الأشياء صامتا  وهو يمتص شفته السفلى ، وفي نظراته مسحة من الذهول الذي يوحي بأنه لمّا يزل تحت تأثير صرير ماكينة الحلاقة .. توقف عن مص شفته وتساءل :

– عندكم أحذية أئمة ؟..

– نعم ..

أجاب صاحب المحل وهو يتابعه .

– وعندكم أحذية جنود ؟..

– نعم ، عندنا كل ما تحتاجه .. أجابه الرجل أيضا ً وهو يضع جانبا ً فردة حذاء  كان يصلحها ، ونهض بطريقة  أوحت أن هذا الزبون قد استولى على اهتمامه ..

من خلف ظهري سحب الرجل كيسا ً كبيرا ً ومليئا ً ، ما أن فتحه حتى تضوعت منه رائحة جلود عبقة .. أخرج  زوجا حذاء  أسود ، طويل العنق ، دفعه إلى الشاب قائلا ً :

– هذه أفضل أحذية للجنود ..

ومن زاوية  أخرى في المحل ، تناول كيسا ً شبيها ً آخر ، وأخرج منه حذاءً مُبهرا ً ..حذاءً خمريا ً ، ذا عنق طويل أيضا ً ، قد يصل إلى الركبتين ، ينتهي من الأعلى بطيّة إلى الخارج .. طيّة عريضة بلون رمادي داكن ، ذات حافة مزخرفة  ، وفوق هذه الحافة طـُرّز الكثير من الخزف الأبيض والذهبي الومـّاض . كان الحذاء رقيقا ً وجميلا ً ـ وأحسب أن فيه شيئا ً من السحر الأنثوي !..

قال الرجل وهو يضع الحذاء بين يدي الشاب :

– هذا حذاء إمام لا أحد يصنعه مثلنا ..

قلّبه الشاب وتأمله طويلا ً .. قلّبه بإعجاب دون أن ينسى الإطراء على صنعه . ومثل تحفة بديعة وضعه على المنضدة الصغيرة ، التي تشغل جزءا ًمن واجهة الدكان ، وضعه وراح يعاينه بعمق ..

نهضت من مكاني  ، ورفعت ذلك الحذاء ، بطراوته ورشاقته  ، في شيء من رهبة الإحساس بأن هذا الحذاء هو حذاء إمام ٍ حقا ً ..

كانت أحذية الجنود جرداء ، غير مزيّنة بأيما شيء ، تشبه إلى  حد  كبير الأحذية المطرية البلاستيكية الطويلة ، تركت في نفسي انطباعا ً مباشرا ً بأن الجنود مغبونون على طول مسار التاريخ  حتى في أحذيتهم !..

بعد مساومة ، هيّنة ، وديّة ، طفحت فيها العبارات الروحية ، وتخللها  بعض مقاطع الأدعية الرائقة ، المتبادلة ، تم الاتفاق بيسر . خلّفت هذه المعاملة الودّية السلسة  إحساسا   منعشا ً في داخلي .. وحملتني نشوتها سريعا ً إلى التطفل ومشاركتهما الكلام ..

طلب الشاب أربعة ً وعشرين زوجا ً متشابها ًمن أحذية الجنود ، وزوجا ً واحدا ً فقط من أحذية الأئمة .  ولفترة غير قصيرة ، انشغل البائع في تجهيز طلبه ، مستخدما ً كيسا ً أبيضَ واسعا ً ،  ومثيرا ً الرهج في دكانه الصغير ، فيما وقفت أتجاذب أطراف الحديث مع الشاب ، متسائلا ً في الوقت عينه عن سر هذه الأحذية الغريبة ..

 أخبرني  أنه ومجموعة كبيرة من الشباب سوف يؤدون عرضا ً مسرحيا ً .. عرضاً حشوديا ً ، في ملعب المدينة الرياضي  ، يجسد فاجعة عاشوراء المؤلمة ، قال إنهم سيعرضون عملهم بعد عشرة أيام  ، عند الساعة الثانية ظهرا ً ..

انكمشت تقاطيع وجهه ، وضيق عينيه ، ورمش بضع  مرّات ، وبلّل شفتيه بقطرة ابتسامة ، بطريقة فيها الكثير من الرجاء والدعوة إلى التواضع  والتواصل ، حين سألني :

– هل ستحضر لمشاهدة العرض ؟..

سألني بهذه الطريقة التي ألهبت الحب في داخلي ، وجعلتني ابتسم  في وجهه وأقول له :

– سأكون حاضرا ً..

كنت أعرفهم ، ليسوا غرباء ، لا تعنيني أسماؤهم . في هذه المناسبة ، كل سنة  ، يتفتحون فجأة ً .. يتفتحون بلا مقدمات .. يتفتحون مثل الكمأ في أرض الله . أناس بسطاء ، من الطراز الأليف ، لا يعنيهم المسرح بشيء ، ليسوا على استعداد لإقحام أنفسهم فيه لولا مصيبة إمامهم  ..

لم يكونوا يطلقون عليه اسم المسرح ، إنما كانوا يسمونه ( التشابيه ) ، هكذا كانوا يذهبون بالاسم إلى نطفته الأولى ..

 

                       ***

   فيما مضى شاهدت بعض هذه العروض .

من قال إن الموتى لا يروون القصص ؟..

إنهم يـُجلـِسون الموتى أمام قضاء الأيام العادل ، في محكمة لا تنتهي ولن تنتهي أبدا ..

يجلسونهم بلا ارتياب خلف مكبرات الصوت ، ليروون حكاياتهم الحقيقية على الملأ .

وفي الواقع ، كنت قد رأيت بعض هذه العروض التاريخية المتواضعة ، فيما مضى من السنوات ، وكانت تفزعني  !..

تفزعني الرماح والسيوف الطويلة البارقة .. يفزعني منظر الدماء القرمزية الغزيرة .. بل منظر الدم الحقيقي ، العبيط ، القاني  ، الذي يسيل من بعضهم حقا ،  وتلك الموسيقى الحربية المدوّية ..

كانوا يتفانون ، يتحمسون في تمثل الفاجعة بكل أهوالها ، وكانوا يجلبون الأطفال والنساء ، وهم يتقدمون كالملائكة ، يملؤون أرض المسرح بالبراءة ، ويسقون الأحزان . كان لهذا الأمر وقع  حسن  في نفسي ، على الرغم من أنني لم أكن على قناعة من تلك الملابس التي تغمرهم  أثناء التمثيل . كثيرا ً ما كان يراودني شعور ٌ بأنهم يلبسون أقمشة  غير مـُخِيطـَة ٍ ..  إنها ملابس حسّية  ، تعبّر عن وجدانهم  أكثر مما تعـبّر عن التاريخ نفسه . ألبسوا أصحاب الحسين وأهله الأردية النقية البيضاء والخضراء بكل برودتها ورفقها ورحمتها . بينما سربلوا معسكر الأعداء بالأحمر والأصفر ، فكانوا على كثرتهم يموجون كالنار والدماء !..

إنها عروض حزينة  ، لا يمكن لكل من رآها إلا ّ أن يذرف شيئا ً من الدمع ، وكنت في نهاية تلك العروض أتألم بصدق ، وأنا أرى جموع الذبّاحين يقضقضون أولئك النفر القليل !.. سرب  صغير  من الغزلان ، يحيط به الكثير من الصيادين الأجلاف بقلوبهم القاسية ..  سرب  يستدر الزفرات والآهات من الصدور دون شعور  من أحد ..

يخيل لي أنها عروض عذرية ، بكر ، ليس لها زمان وليس لها مكان .. يكفيها الهواء الطلق ، والشمس الساطعة ، والإحساس الطاهر ، ودموع نبيلة تنحدر من بين أجفان السماء !..

 

                             ***

   في اليوم المحدّد للعرض المسرحي ، انطلقت بعد الغداء صوب الملعب الرياضي . كان الشارع الذي يقود إلى الملعب ، طويلا ً وصامتا ً، يمتد في الظهيرة مثل جدول ضوء دافق . تخفق على طول مجراه الرايات بألوانها المشرقة .. الخفق الذي يبث في النفوس العزم على المسير..

الريح المتقطعة كانت تزوبع الروائح والغبار ، وعلى الرغم من الضيق الذي يحكم الأرواح ، لكن ثمة لمسات  مبهجة كانت تبرق عبر الطريق ، الرايات المرفرفة ، المزهوة بألوانها ، الناس الميّالون إلى أعمال البر ، وهم يستوقفونك على قارعة الطريق ، ومجاميع الأطفال يشبكون أيادي بعضهم البعض ، يمضون أمام النسوة ، إن غدا ً أول يوم امتحاناتهم  المدرسية ، إلا ّ أنهم  أصرّوا على حضور العرض ..

هنا الكثير من الحمام المنزلي الأليف ، يطير حائما ً فوق الشارع ، في سطوع الظهيرة . كان يحوم منخفضا ً ، بطيئا ً ، والأولاد يلاحقونه بأبصارهم ..

كنت أسأل نفسي قائلا ً ( هل الألم الدفين يكتم  الأنفاس ؟ ) ، فعلى امتداد الشارع  ظلّت الأصوات خافتة !..

  في نهاية الطريق ، بان الملعب الترابي المكشوف ، الذي احتشد حوله جدار  بشري متراص بلون أسود . كنا نسمع الضجيج ، وحالما اقتربنا جعل الصخب يصك الآذان . هناك جمع  غفير من الممثلين داخل الملعب ، وقد انقسموا على هيئة  فريقين متباعدين ، موكب السماء النوري بعدده الصغير ، وجحافل الأرض التي لا تحصى !.. وفيما بينهما ، انتصب في وسط الميدان الجوق الموسيقي ، الذي بدأ الآن يعزف ألحانه الدموية .. يعزف بالصنوج المزلزلة  ، والأبواق  الطويلة الصادحة ، والطبول الرعناء .. لم يكونوا يعزفون وحسب ، بل كانوا يزعزعون الظهيرة ، يرجّون تراب الملعب رجّا ً ، ويهزّون الرايات ..

واصلت تقدمي لأجلس في الطرف البعيد ، خلف الجيش الأموي ، وراء هدف حرّاس المرمى . هناك كان يجلس عدد  قليل  من الصبيان الذين انشغلوا بالتعرف على الجنود الأمويين ، وهم يخطرون بثيابهم النارية  ، وخيولهم الهادئة ، التي بلغت سن الشيخوخة ، ولم يعد يناسبها سوى احتراف فن التمثيل  .

في الجانب الآخر البعيد ، تجمعت النسوة بحشد  هائل . جلسن في صف طويل ، قريبا ً من معسكر الإمام  ، ليسمعن ويَرَينَ ما يحدث عن كثب . جلسن قريبا ً من أحبتهن ، ليسكبن بحرقة وحرارة دموعهن الغزيرة ، ولا أبالغ إذا قلت إن بعضهن كان ينتحب قبل بدء العروض أيضاً !..

خلف ظهورهن امتد ّ خط  كثيف من النخيل على طول الأفق ، كان يبدو لي من مكاني بلون  قاتم  ، يضيف تجهما ً أعمق في اللوحة المسرحية الممتدة أمام الأبصار ..

كان تراب الملعب المدكوك يلمع في الشمس ، والرايات المزروعة في صفوف حول الملعب تنتظر دفقات الريح لتنتشر في الهواء مصطفقة ً بصوت خافق  ..

بعد فراغهم من العزف ، انتحى العازفون جانبا ، وبدأ العرض المسرحي .. بدأ بتراشق القوم بالخطب وأشعار الفخر والحماسة ..

كانوا  يستعملون مكبرات صوت رديئة ، تحيل خطاباتهم إلى كلمات غير مفهومة  . راح بعض الجالسين على مقربة مني يصبّون جام غضبهم على الصبيان ، ويأمرونهم بالصمت ليوفروا لهم الاستماع . من آن لآخر كان يشد انتباهنا بعض القادة الذين يقتحمون الميدان منذرين ، ملوحين بسيوفهم المتوقدة في وهج الشمس .

  في نهاية فصل المشاحنات والمماحكات ، نهض كبير معسكر الأعداء ـ الذي كان يجلس طوال الوقت على كرسيه الوحيد غير بعيد  عنا ـ كان بدينا ً حين نهض . انطلق يوجه الممثلين ويرشدهم إلى أدوارهم . كان يرفل بحلّته الجميلة ويجر ثوبه بخيلاء .. بدا في ثيابه مثل الأساقفة الذين يتولّون القدّاس الحبري في الكنائس . ثم ما لبث أن وقف أمام جيشه مصطنعا ً الصرامة والقوة الطاغية ، معلنا ً الحرب على معسكر الحسين ، لتطير أسراب من السهام  ، مؤججة موجة من النواح والعويل ..

الأحداث الجسام  وحدها القادرة على وضع حدّ  لعبث الأطفال وصخبهم  ، وجعلهم صاغرين . الآن راح هؤلاء الأطفال المتململون ينظرون إلى ما يجري في وسط الملعب ، صامتين ، بوجوههم الربداء ، المفعمة بالأسف الطفولي وحزنهم المقدس ..

احتدمت المبارزات والطعن بالرماح ، كان صليل السيوف يُسمَع بوضوح ، وخوذ الجنود تتساقط هنا وهناك ، أجساد  راحت ترتمي في الميدان .. كانوا يتوقفون عن المبارزة ليتراموا بالكلام  .. تراموا بالكلام وقتا ً كافيا ً جعل الأولاد قربي ينعسون ، ثم عاد الوطيس يحتدم  كرّة ً أخرى ..

الآن في هذه الساعة ، مرَّ  وقت ٌطويل ٌ على الفريقين وهم يتبارزون ويتراجمون  ، وقد جنحت الشمس نحو الأفق  ، بينما ارتمى أغلب أصحاب الحسين ، بدمائهم المنبجسة  صرعى على تراب الملعب . و في الجهة المقابلة ، كانت النساء يتمايلن ناحبات . النخل من خلفهن لاح متمايل  أيضا ً ..

   اتضح لي أن العرض قد شارف على الانتهاء ، حينما تقدم رجل من معسكر الأعداء يخط بسيفه المغمود بغمد  زعفراني طويل . . تقدم بتقاطيع وجهه الجافية ، وغرابة سيمائه  ، وبراعته في التمثيل . وقف على رأس ثلة من جنوده ، وقد سلّ سيفه ورفعه متحديا ً نحو السماء ، وأمرهم بالتقدم لقتل الحسين ..

كان الظلام قد وخط الأفق ، والشفق أمسى أحمر ، قرمزيا ً ، بلون الدم القاني ، حينما حزّوا رأس الإمام ، وأحرقوا خيامه ، وسبوا عياله ، وبعثروا أطفاله . الزفرات الحارقة التفـّت بدخان الخيام  وراحت تصعد إلى مكان  موحش  ناءٍ في السماء . كان الأطفال يبكون بكاءً صامتا ً ، وتلتمع عيونهم بنظرات احتجاج غاضب . ما لبثوا أن  نهضوا من أماكنهم وأخذوا يغادرون الملعب .. يغادرونه قبل أن ينتهي العرض .. يغادرونه لأن تلك النهاية المفجعة لا تروقهم !..  يبدوا لي أن التاريخ  قد شاكس الأطفال وعاندهم كثيرا ً ، حينما ختم المسرحية بهذه الخاتمة التي لا ترحم !..

لم أشأ أن أنهض وأغادر مكاني عندما انتهى العرض . بقيت جالسا ً ، وقد مرّ بقربي جمعٌ غفير ٌ من الجنود بأحذيتهم الطويلة ، الجديدة . كانوا يحملون رأس الحسين على سن رمح  طويل .. يحملونه فوق كل الرؤوس . كان الرأس منحوتا ً برونق باهر ، وأعتقد أن النحّات كان ثوريـّا بما يكفي  ، فقد نحت العينين مثل سراجين مليئين بأنوار الفرح ، وجعل الشمس تطلع من الجبين ، والخدود تتوقد كالنحاس  ، وبين الشفتين تعلّق طيف ابتسامة .. عندما مرّوا من أمامي ، كان وجه الرجل المذبوح وجه رجل  منتصر  ..

غادرت الجموع ، متفرقة بانكسار . وحدي بقيت جالسا ً في مكاني  ، بدأ برد المساء ينزل علي . آخر خط ٍ أحمر في الأفق ، يبدو لي مثل نهر دم ٍ تتلقفه السماء  وتأخذه من الأرض أمانة ً مؤتمنة  ، بينما تهيئ لي الظلمة مرأى ميدان معركة رهيبة مؤلمة فوق الملعب المعتم ، وأنفي يتشمّم الدخان الذي يتصاعد من بقايا الخيام المحروقة .. الدخان الذي يطوي معه صراخ الصبايا المحطمات المفزوعات ! .. بقيت أسير إحساس رهيب .. إحساس  صادق .. إحساس لا تشوبه شائبة  ، بأنني  لأول مرّة  في حياتي أرى الأرض والسماء تشاركان الناس في صنع عمل مسرحي  حقيقي !..

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشطرة 2006

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *