تورّد الخدين : قصة قصيرة

             قصة قصيرة

                                          محمود يعقـوب                              

         تورّد الخدّين

       ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

       سأعود وأقولها ثانيةً : إنّ أعماق النهر مرآة ساطعة لأعماقه ، وإنّ هذه المياه ما كانت لتنساب مبتعدة عن كوخه الصغير إلّا لأنها قد ارتوت من فيض مشاعره العذبة .    

       إنه موجود هناك كل يوم  من أيام الشتاء ، في المكان نفسه . هناك حيث الريح الثملة تلعب في الماء الأخضر ، ثم تقفز صوبه لتلتصق فيه قبل أن تهبّ إلى السماء ، بنزق وعربدة ؛  مشبّعة برائحة الكحول التي تنشرها في كل مكان .. فوق النهـر ، في دروب السماء ، فوق النياسم ، بين الأشواك والأكمات ، وتمسح  ريش الطيور وأصداف الحشرات .. هناك ، في كوخه المتواضع الصغير ، يعيش متوحّداً إلّا من الريح والماء .لا يعرف من أين تأتي هذه الريح ، تباغته ، تهـزّ ثيابه بعنف ، وهي تنزل إلى النهر ، متزحلقة فوق الماء وراسمةً عليه خطوطاً متلألئة  ، مائلة ، تترجّرج مترنّحة  سكرى .                               يدفن كفّـيه الباردتين في طيّات سترته ، ويقبض بأسنانه عقب سيجارته ، ويحدّث   نفسه ، كمن يريد طرد الوحشة والوحدة عنها ، هامساً :

« يبدو لي أنّ الماء أكثر وقاراً ، وأوفر عقلاً من الريح  .. ولكنّ لا .. لا .. فللريح محاسن وفضائل لا ينكرها  أيّ صيّاد مثلي في يوم من الأيام ، بعض الأحيان نرمي شباكنا في الريح ونصطاد أغلى الأسماك ».
ما تلبث الريح ان تصعد محلّقة ً ، دائرة ً بنشوة ، ثم تنعطف مقبلة نحوه ثانيةً ، تصفر بلحن وحشي سريع ، تغافله وتدخل تحت ثيابه ناعمة ً وباردة ً ، تعبث بكوفيته المعقودة فوق جبينه ، تبعثرها ، ترفرف بها ؛ يصدّها بيده ، يريد منها أن تكفّ عن الهزار .. يريدها أن تتنحّى جانباً .. أن تذهب حيث الطيور .. أن تلهو بين الدغل . لكنـّما الريح كانت تجده هناك ، وهناك كانت تلعب معه .

كان رجلاً من ريح وماء .

       في كانون الثاني ، الليل يأتي راكضاً ، ما إن تمضي الساعة الرابعة عصرا ، حتى يسقط الظلام ، يحتضن البرد بين ذراعيه ويغذ خطاه عبر الدروب .
اليوم ، في الغسق الثلجي  ، كان لائذاً بجانب كوخه ، قابعاً مثل كلب ماء . ينفذ ببصره بعيداً في النهر بعينين من عيون البراري .. عينين مسوّرتين بجفنين رقيقين أحمرين ، تتغرغران بالدمع حينما يلدغه البرد من آن لآخر .
كان الهواء بارداً ، وكان وجهه النحيف في الهواء .

       يقف ويداه مسترخيتان في جيوب سترته العسكريّة القديمة ، وكوفيّـته تغطّي رأسه ، ومن وسطها يبرز وجهه الحنطي الصغير ، الذي يشبه التين المجفّـف . على جانبي ذلك الوجه كانت ثلاثة خطوط  متوازية من الغضون ، مائلة من الجانبين ، تنزل من الصدغين إلى طرفي فمه ، كانت تظهره  وكأنّه مبتسم  طوال الوقت .. مبتسم  حتى وهو راقـد في كوخه ، وما أرقّ وأحلى أن ترى الإنسان مبتسماً في رقاده !..
اسمه ( فلاح ) .. ( فلاح ) ، اسم ينزلق سريعاً على اللسان ، كما لو أنّـه سمكة..                                                                                                     

      حتى سنوات  قريبة  ، كان ( فلاح ) يشتغل بدأب  مع مجموعة  طيبة  وحميمة  من الصيـّادين ، مغموراً بحبهم وحماسهم ونواح أغانيهم التي تنهمر في الروح كالشمع الذائب . كانوا يعملون في موسم  الشتاء فقط .. موسم الأسماك والرزق ؛ ويصطادون بوفرة في نهـر ( الغرّاف ) . اعتاد العمل والكدح في النوبات الليلية فقط ، في ذلك السهر السحري ، تحت ضوء القمر والنجوم وخيوط الضوء التي تنوس على صفحة النهر ، وأصوات الغناء العجيب الذي لا يتوقف عن الصعود بلوعة وحنين إلى قبة السماء !.. جميعهم يغنّـون ، فقد كان في البر متّـسعاً لآلامهم .
في الليل ، فوق نهر ( الغرّاف ) تلمع الكواكب مثل أصداف السمك ، وكان ( فلاح ) كوكباً .                                                     

      شمّة عشق تفغم صدره ،  كلّـما دنى من الجرف الغريني للنهر؛ وهناك كل الأشياء تعرفه ، تحتضنه بروائحها النديّة ، وصحبتها التي لا تهون .. تعرفه كأنه شيء لا ينفصم عنها أبداً !.. في ذلك الخلاء الطلق الوديع ، جنب النهر الساكن الذي لا تهزّه سوى إرتعاشات الريح وزفيف الأسماك في أسرابها ، من وقت لآخر ، في مرّات  عدّة  ، كسب الكثير من المال ، وسارع  بتبديده على عائلته الكبيرة . ليبقى عازباً ، فقيراً ، مُغتـَما ، لا يملك شًيئاً ..

      تغيّرت أشياء  كثيرة في حياتنا ، بعد سنوات عجاف فـُرِضَ فيها الحصار على البلاد التي راحت تعاني الأمرّين لمدّة طويلة من الزمن .. تغيّرت الحياة إلى حدّ جعل السمك نفسه يتوقف  عن المجيء إلى نهر ( الغرّاف ) وشحّ الرزق كما لو أنّ شيئاً يتبخّر .. شحّ بشكل جعل أكثر الصيادين يتخلّـون عن الصيد ، ويهجرون عملهم ، ويذهبون إلى المدينة المجاورة لهم كبائعي أسماك  وحسب !.. دأبوا يجلبون الأسماك من مناطق بعيدة ، وهذه الأسماك مختلفة عن تلك التي اعتادها الناس  من قبل ، صغيرة  بروائح نافذة  ، وأخرى كبيرة ببطون دمويـّة حمراء ، لا تثير الشهيّة . بينما انكفأ ( فلاح ) في منزله خاملاً ، معانياً من الفقر والبطالة ..
إنّ كلّ هذا الأمر لا يعني له شيئاً ، ولا بأس أن تتوقف الأمور عند هذا الحدّ ..لا بأس ، لكنّ الأنكى من أيّ شيء  آخرٍ، إنّ الخمر لم يعد يصل إلى المدينة أيضاً ، ولم تصل إلى فمه الضمآن خلال هذا الوقت قطرة  واحدة  منه !.. وكلّ ما فعل أصحاب محنته ، أنّهم دلـّوه على باعة الخمر المحليّ والكحول السيئ ، الذي كان سُمّـاً حقيقياً أكثر من أن يكون شراب نشوة  . وحتى هذه البضاعة الرخيصة ، سرعان ما استنفدت ، لتختفي تماماً .                                    

     منذ تشرين الثاني ، في هذا العام ، عاد ( فلاح ) إلى هنا مرّة  أخرى .. عاد بذكريات الصيد وأحلامه .. عاد بروح الماضي الذي لا يموت ، بشجرة حياته التي تفوح من أوراقها رائحة السمك ، وتتلألأ على فروعها الأصداف الفضيـّة . جلب الحصران والقصب ، وصنع كوخاً صغيراً على جرف الماء .. كوخاً ظلّ يبرق مثل الذهب تحت وهج الشمس وألق القمر ، وتنعكس صورته مهدهدة في حضن النهر . نائياً عن المدينة في العراء .

عندما اكتمل بناء الكوخ الصغير وقف متمعّناً فيه ، وقال في ابتهاج : 

« ما أروعه ، إنه يشبه هودج عروس ! » .

وغير بعيد عنه ، غرس وتدا ً عميقا ً في الأرض لأجل أن يقيّد زورقه الصغير ، وعند أحد أركان الكوخ كانت تتكئ درّاجته الهوائية المتآكلة .
لم يأت إلى هنا ليصطاد الأسماك ، إنـّما جاء لأمر آخر !.. إنّه موجود لأجل كلاب الماء فقط . في هذا الشتاء القارس سوف يصيد كلاب الماء المنحدرة إلى نهـر ( الغـرّاف ) ..
لا أحد يعلم أيّة آمال ساقت ( فلاح ) إلى هذا النوع من الصيد ، وكيف تسنّى له التدرّب عليه بمهارة  ؟.. إلا ّ أنّ الناس تقول : كان رجال غرباء يأتون ليشتروا جلود كلاب الماء ، وكانوا مستعدّين لدفع مبالغ مغرية من أجل الحصول عليها .. إنّها مهنة غامضة  ، وهم يقولون أيضا أن الرجال يذهبون بتلك الجلود إلى الأردن وسوريا ، ومن هناك كانت تذهب إلى دول  أخرى ، وكانوا يردّدون اسم ( قبرص ) بينها كثيرا ، من يدري ؟!..
ما أن عاد ( فلاح ) إلى النهر ثانيةً ، عاد قلبه يخفق عاليا ، بات يسمع خفقانه مثل خفق جناح طائر ، وذابت أحاسيسه لتصبح هبـّة ريح تنزلق من مكان إلى آخر بلا توقّف ولا تردّد  .

     في الشتاء ، تنحدر كلاب الماء مع نهر  (الغرّاف ) بأفواهها الشرهة . تسبح باحثةً عن الأسماك . وتعوم على سطح الماء لتلتقط نفايات الطعام التي يحملها النهر . وتظلّ متوجّسة ً حذرة ً . تنشط ليلاً بعيداً عن الإزعاج ، تهوى اللعب في النهر؛ تطفو مقدّمة وجوهها فوق الماء، تتشمـّم بهدوء ، تنساب في ضوء القمر ، أو عند الغبش الرمادي ، ببريق ولمعان عيونها . آذانها وعيونها وأنوفها على مستوى واحد  ، لذا فهي تسمعُ وتشمّ  وتنظر دفعة ً واحدة ً . وحين تستجيب لأدنى حركة في الجوار يـُخيّل إليك أنّها بألف عين وألف أذن . تندفع بأجسامها الطويلة الرفيعة ، كالزوارق الصغيرة . عائمة ً بصمت . لا تعرف الاستقرار ، تقطع النهر صاعدة ً ونازلة ً في حركة لا تتوقّـف   ..
تغطس في الماء .. تغطس طويلاً باحثة ً بنهم  عن الطعام .لا تخرج من الماء إلّا  في الأماكن الآمنة البعيدة . هذه الكلاب ليس من السهولة الإمساك بها .
كم هو مدهش وجميل  أن تسمعها ، وهي تزعق ُبصوت  رفيع  وعميق  .. صوت يشبه جرّ الحديد على البلاط .. بينما تطفو جراؤها تلعب وتعبث بجذل من حولها .                                   

    لم يتلقَ ( فلاح ) التدريب من أحد ، تعلّم صيد كلاب الماء بفطرته ، اكتسب الخبرات سريعاً ، وتبادل المشورة مع الصيـّادين الآخرين الذين كان يلتقيهم عند تخوم المدينة .
كان رقيقاً كالماء ، معتمداً في صيده على الفخاخ التي ينشرها في أماكن متفرقة  من النهر ِ لا يلجأ إلى بندقيته إلّا لماماَ ، إنّ الدويّ يرعب أحاسيسه .
كان يصيد في حدود مدينته فقط ، لا يمكنه تجاوز تلك الحدود . هنالك صيـّادون مثله في كل مدينة  وناحية ، إنـّهم يحترمون الحدود ، ويعرفون إلى أي مدى يذهبون .. كانوا متفقون ضمناً على خريطة رزقهم .
لم يكن ( فلاح ) لوحده صيـّاد كلاب الماء هنا ، فعلى طول عشرين كيلو متراً كان يأتي الكثير من الصيـّادين .. العديدون جاؤوا .. جاؤوا وفي عيونهم نظرات التصميم على صيد الكلاب ، لكنهم رحلوا من دون أن ينجزوا شيئاً . وحتى قبل أيـّام  ، مـرّ رتـلٌ من الفتيان بوجوههم الداكنة ، المُبَقَعَة ، المليئة بالفقر ، وتيجان شعورهم الصبيانية الشعثاء ، حاملين شباكهم وبنادقهم ، رمقوه بنظرات متفحّصة ، مرتبكة ، متسائلة ، أطلقتها عيونهم الجاحظة . جاؤوا وذهبوا بلا إثارة . اقترب منه أحدهم وقال له : 
« ألا ترغب بمن يساعدك ؟ »  . 

هزّ ( فلاح ) رأسه ، رافضاً ، وهو يقول :

« الكوخ لا يسع لاثنين كما ترى » .

     في الشهر السابق ، اصطاد ( فلاح ) كلبين ، سلخ َ جلديهما ، وباعهما بمليون دينار . وحمل المال بكل سحره وزينته وأسرع بتسليمه لعائلته ، عرفانا بالجميل .. جميل سنوات البطالة التي أمضاها بينهم .
كان يعمل من أول الليل حتّى أول الصباح ، ثم يستسلم للنوم سحابة النهار  .                     

      الآن ، في كانون الثاني ، حيث ينزل الظلام البارد كالثلج الأزرق ، يشعر ( فلاح ) بتجمّد أطرافه ، فيجلس في حمى الكوخ ، يراقب النهر صامتاً ، مُقَلِصاً رقبته بين ياقة سترته العسكريّة الناصلة اللون التي كان بدنه يغرق فيها ، والتي تُظهِرُهُ مثل جندي  مجهول ، مجالد  وصبور، مرابط في موضعه . وما لبث حتى دخل الكوخ لينهمك في إعداد العشاء والشاي .. ثم ما لبث أن تناول مجدافه وقفز إلى زورقه وانطلق منساباً بصدر ترتعش فيه أحاسيس الجمال ، يقطع المسافات البعيدة بحثاً عن طرائده  .
يتكسّر السعال في صدره الصغير .. الصدر المليء بالحب والإيمان ، كان واثقاً من معونة رَبـِّه على الدوام .

جـدّفَ بزورقه مسافات بعيدة ، صاعدا ً شمالا ً ونازلا ً جنوبا ً ، ماسحا ً صفحة النهـر لساعات عدّة ، قبل أن يرجع إلى كوخه .
ربط زورقه ، ثم عرج إلى تفحص شبكة صيد سمك مثَبّتة جانبا ً عند جرف الماء .. كان يكرّر هذا الأمر كلّ ليلة ، بخبرة صيّاد محترف يحسن التأني ويصبر طويلاً ، مثابراً ، لا يلين تصميمه أبداً ،  على الرغم من أن خيوطه لم يعلق بها كلب ماء . وكل ليلة يجلس متحفّزاً في الظلام أمام النـهـر وهو يجتر ذكرياته ؛ إن الصيّادين أكثر الناس استغراقاً في الذكريات ، وقلوبهم تزخر بحكايات لا تنتهي ..

حين يشعر بالتعب ، يدلف إلى الكوخ ليستمع إلى نواح مطربه ، في آلة التسجيل ، ويحتسي شيئاً من الكحول . كان سعيداً بهذا القدر من الدنيا ، وبالتأكيد  سيكون أكثر سعادة  لو أقبلت كلاب الماء نحو فخاخه ..
بعد استراحة  قصيرة  ، خرج وقفز مرّة  أخرى إلى الزورق وأخذ يجوب النهـر .
الآن ، تقوّضت ساعات الليل ، وها هو الغبش ..الغبش الذي تكون فيه السماء مضيئة ومظلمة في آن واحد . النهـر مثل طفل عار مستسلم للنوم بوداعة . الريح والنهـر واهنان ، السماء والبريّة والأشياء .. كل الأشياء تبدو هشة ً وباردة ، متغشية بالغشاء الرمادي الكوني الساكن والمهيب ..

     على الرغم من أنّ أصحابه أمعنوا في مقارنة جلده بجلد النمـر ، لكنّ البرد كان بطبعه موجعاً ، يوخز العظام وخزاً لا يرحم . وقف في حمى الكوخ يراقب النهـر.  وأخذت تطارده الكثير من الأفكار . أحسّ بوحدته حينما وجد أن لا بدّ له من مساعد يعينه على صيد هذه الكلاب المراوغة اللعوب ؛ ولكنّ قوة النفس بين جوانحه كانت تحول دون أن يصطحب أحداً .

إنّ الماء كان يدرك ما يدور في رأسه من أفكار. وكانت أعماق النهر مرآةً ساطعة لأعماقه ، وإنّ مياهه الجارية ما كانت لتنساب مبتعدة عن كوخه الصغير إلّا لأنها قد ارتوت من فيض مشاعره العذبة ! ..

خلال دقائق سمِعَ صوت ارتعاش ماء النهـر ، وهسيساً ينبثق هادئا مع الماء !.. سرعان ما تهيّأ ممسكا ً ببندقيته ، شاخصا ً في عمق الغبش الداكن .
بعد ثوان ٍ شاهد كلاب الماء سابحة ً وزاعقة بصوتها النافذ الرفيع . كانت تروغ من مكان إلى آخر . ابتهج وضحك من كل قلبه . وخاطبها في فرح وطلاوة :

«كم تهوين اللعب في الماء أيّتها المخلوقات الجميلة ! لقد أبطأت كثيراً.. منذ شهر وأنت غائبة عني » ..   وعلى الرغم من أنّها لم تقترب منه كفاية ، لكنّها أشاعت في روحه الإثارة كما لو كانت تسبح في ماء عينيه .
ما لبثت كلاب الماء حتى انبجست من النهـر وصعدت إلى الجرف . انتزع نظراته منها ، وهبَّ خفيفا ًإلى سمكاته ، التي كان قد اصطادها ، وراح يضعها في بعض الفخاخ القريبة ، ليستدرج الكلاب نحوها . أسرع ليخفي نفسه عن أنظارها ، واكتفى بمراقبتها بعينيه الصغيرتين ، العميقتين .

انطلقت الكلاب نحو الجرف ، تجذبها رائحة السمك ، المحبوس في الفخاخ . ولكنّها كانت بالغة التوجّس ، في رمشة عين قفزت إلى النهر ، وعادت تخوض فيه سريعاً ، وكان الماء يتماوج مرتعشا ً .
ظلّ يقف متحفزا ً ورائحة الدخان الكامدة في سترته تملأ منخريه ..
قبل انبلاج الفجر بقليل اقتربت بعض تلك الكلاب مسافة ً منه ، وعلى الفور عرف أنّها أنثى مع صغيرها الوحيد . تشمّمت كل شيء ، لم تدن ُمن الفخاخ على الرغم من وجود الطعم فيها  . هنا وجد نفسه مضطراً إلى سحب بندقيته بخفة ، كان الوقت يستحثّه ، بعد قليل سيأتي الصباح وتختفي عنه  ..

جلس رافعا ً إحدى ركبتيه ، سانداً فوقها يده اليسرى التي تمسك بالبندقية ، مسدّداً ومصوّباً ناره إلى رأس الأم .. إلى الرأس  فقط ، لأنه يعلم أن الجلد المثقوب ، في غير موضع الرأس ، لا يـُباع ولا يشترى .
بعد لحظات من التحسب والانتظار ، دوّى صوتٌ فَجـّر النعاس الحالم في العراء . إهتزّت الريح موشوشة ً وارتجف جسد الماء ، ومن بعيد صرخت الطيور فزعة بأصواتها الخشنة التي طاشت في السماء . وظل ّ يَتـَلفت حوله وهو يشعر بالأسف والإحراج !..
أصاب الأم مباشرة ً .. أصابها في رأسها ، راحت تنتفض في الماء نازفة ً . ركض نحو الزورق وانتشلها ، وعاد بها بعد أن غسل دماءها . وعلى الجرف تركها تقضي نحبها . ولكنّه حينما نظر إلى النهـر ثانية ، لم يجد أيّ أثر لصغيرها ..
كان متعبا ً وجائعا ً ، دخل إلى الكوخ واكتفى ببضع رشفات من الكحول وخرج على الفور .
وعند باب الكوخ ، جعل الكحول جسده يقشعر ويهتـزُّ . في ضوء الغبش الرطب الخافت ، كانت أجفانه الناعمة تبدو أشدّ احمراراً وهي تغالب النعاس . وضع يده على فمه وأخذ يتثاءب بصوت عال . وحينما انحرف نظره إلى صيده ، اعترته دهشة لم تعتره مثلها قط ، إذ رأى جروها الصغير منحنياً على جسدها يلعقه مرتجفاً مرعوباً. على الفور شعر الجرو بتسلط أنظار الصيـّاد عليه ، فأشاح برأسه صوب النهـر، ثم رمى بنفسه إلى الماء وغاص تحته ، تاركاً الألم يترنح بين عيني ( فلاح ) .
بعد دقائق ، طفا الجرو فوق الماء ثانيةً ، راح يدور دورات واسعة ، وهو يجأر بصوت باك حزين يقطّع نياط القـلب ، صوت ٌ راعف ٌ تتلجلج فيه اللوعة والحنين ، جعل ( فلاح ) يهتـزّ أسىً وندماً ؛ اندفع على أثرها إلى داخل الكوخ ، وشرب جرعات أكثر من الكحول ، ثم خرج منصتاً إلى بكاء الجرو الصغير بصوته الشجي المبحوح ، الذي ظلّ يحوم وحيداً وتائهاً . كانت دوراته الملتاعة على سطح الماء قد جعلت رأس      ( فلاح ) يدور عنيفاً ! .
أخذ  تيّار كهربائيّ يسري في جسده المكدود ، وتنمّـلت أطرافـُه ، واستحوذت عليه الرعشة ُ ، وبدأ دُوار السـُكر يوهن قواه سريعاً ، فوقف مترنحاً ، لا يقوى على ضبط نفسه ، وانهمرت الدموع من عينيه سحّاً .  في هذا الغبش ، ثَقلَ جفناه ، عادت الرؤى تظلم وتغدو أكثر دكنة ، ولاح وجهه منطفئاً حينما أخذ يصيح ، في خيالات السُكر ، بصوت عال :
«أين أنت يا شمس ؟ اطلعي يا شمس » ..

ومن أمام كوخه المظلم كان ينتظر الشمس .

تحت وطأة السـُكرِ أحسَّ بالأسف العميق حيال الجرو الصغير . راودته أفكار لا ترحم . كان يشعر بأن الريح والماء والطير والسماء ، تنظر إليه شزراً بعيون تقدح ُ غضباً لفعلته هذه . تأجّجت مشاعره ، وانتفضت الرحمة في صدره ، وملأ أذنيه دوّار وطنين  قوي وانساب فيهما عميقا ً !..
بألم هادر ، وقف مستغرباً أن تكون في داخله فظاعات كهذه ، وراوده ضرام فكرة أنّه قتل أمّاً أمام أنظار وليدها المرتعب ، البريء . ظلّ حائرا ً ، متمايلا ً بضميره المُـعَـذ َب ، يقتله الإحساس بالخطأ الفادح !..

في ذلك الغبش تورّد خدّاه بحمرة الخجل ، والتهبت وجنتا ( الغرّاف ) بنيرانها .

ليس لدماء المأساة إلّا أن ترتوي من حمرة الخجل .

    الآن أشرقت شمس الصباح .. ضوؤها يتماوج على السطح الكريستالي للماء ، ويتوهج على شعر الكلبة الميتة فوق الجرف . كانت نظراته كابية ً، ألمّ  بها الحزن ، وانهمرت في قلبه الرقّـة والحنو فقال هامساً :
« كان لا ينبغي أن أهشم رأسها » .

ولكنّه لم يعتم أن أدرك أخيراً مقدار فجاجته وقلة خبرته  .
الجرو لم يزل يدور على سطح الماء ، رامياً بنظراته المذهولة ، اليائسة نحو أمه وهو يواصل نحيبه . بينما كان السـُكرُ يعصف بمشاعر (فلاح ) ، الذي إنخلع قلبه أمام هذا المنظر ، وفي ثورة أحاسيسه دقّ الأرض بقدمه غضباً ، وفاض به الأسى وراح ينشج باكياً ..

أمام الجرو وقف يسكب دموعه الساخنة  !..
كان رجلا ً بهيئة طفل .. بهيئة طفل يتيم  ، وحيد ، متهرئ الثياب ، متسخ ، لم يحلـُق ذقنه منذ وقت  طويل .. توقّف عن البكاء ،أخذ يصيح بأصوات  كتلك التي نطلقها حين ننادي الكلاب ، يتوسّل طالباً من الجرو الاقتراب . كان في شوق عارم لالتقاطه.. يصيح به ( تعال إلى هنا .. تعال ) ، لكن الجرو راح يوسع دائرة عومه ، جاعلا ً ( فلاح ) يصيح بصوت أجش عالٍ :
« لأجل الله لا تبتعد .. لأجل الأنبياء تعال ».
كانت روحه تتألم كثيرا ، وهو يناشده مترجيّا ً ، فيما تلاشت رقصات أحلامه  .
ما لبث أن تعتعه ُ السـُكرُ نحو النهـر .. خلع سترته ورماها على الجرف ، ورفع كوفيته عن رأسه وتركها تنجرف مع الهواء ، وهبط إلى النهـر وهو يخلع ثوبه ويرمي به إلى الماء .. تقدّم إلى وسط النهـر مترنحاً ، مبهور الأنفاس .. تقدّم بقـلب  من الفحم المتجمر والدخان . وحين غمره الماء راح يضرب بيديه سابحاً ، يبرز رأسه مبلولا ً تتقطـّر منه الشفقة والأسف .. كان يسبح نحو الجرو ، وقد بدا كليل العينين ، خائراً ، مستنزف القوى ، غير أن الجرو فَزع  وغطس متوارياً في الماء . توقف ( فلاح ) عائماً في  وسط النهـر ، يغالب التيّار ، بجلده المزرق ولهاثه المسعور ، يبحث عنه ، ولمـّا لم يجده ، أخذ يخبط في الماء على غير هدى ، مثل شخص لا يجيد السباحة حتى غطس متوارياً في النهر، تاركا الماء المضطرب حوله يرسم دوامات ضيقة أخذت تتسع وتبتعد مخلّـفة ً رقرقة خفيفة فوقه  ، لينة  ، ومضيئة  كالفضة  !.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *