حامل شمعة الحب ( سمنون المحب )

حامل شمعة الحب

                  ( سمنون المحب )

                                                            محمود يعقوب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

( ما الحب ؟.. هو النهوض من أمام الروح ونثر الروح أمام الحبيب )

                                                                      ” فريد الدين العطـّار “

 

التجربة الصوفية تجربة عاطفية  ، وجدانية ، نفسية ، وفردية  ، ترمي إلى تطهير النفس البشرية  والسمو بها  نحو منابر الأنوار الإلهية  ، والعروج إلى الله ، بغية التعرف إليه ، والتوصل إلى محبته  ، والإتحاد به ، لمجرد المحبة ، واكتساب الرضوان ..

  فالله هو المثل الأعلى والينبوع الثر للجمال السرمدي المطلق ، وليس من سبيل إلى الله  إلا ّ الحب  . . الحب الذي يمتلك عقل الصوفي وقلبه ويصل به إلى حد الفناء في الذات الإلهية .. وبالتالي فان الحب يمثل  جوهر السلوك الصوفي وغايته المقدسة .                                 

ولم يتردد المتصوفة في تسمية من لا يعرف الحب بأسماء أو أوصاف قاسية ، إذ وصفوهم :   

( حجرا ً قاسيا ً ) ، أو ( أنعاما ً ) طبقا ً للآية القرآنية “ولقد ذرانا لجهنم كثيرا ً من الجن والأنس لهم قلوب لا يفقهون بها  ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ” ..  من ســـورة الأعراف .1

  والحب عند العرب حرفان ، ( وبحسب ما جاء في كتاب الدكتور عبد الكريم اليافي  ” مباهج اللغة العربية ”  ، في الفصل المعنون ” الحب في التراث العربي الإسلامي ” ، فأن لفظ ( حب ) مؤلف من حرفين : الحاء ومخرجه أقصى الحلق ، والباء ومخرجه بين الشفتين ، ولمـّا كانت أسماء الأشياء كلها تخرج من بين الحلق والشفتين لفّ الحب جميع الكائنات عند الدلالة عليها  باللفظ  ) . 2

  لم يقتصر التصوف على الدين والفلسفة ، بل اتخذ له مجالا ً آخر وهو مجال الشعر ، ليس في الأدب العربي وحسب إنما في الأدب الشرفي عموما ً ، لاسيما الفارسي منه والتركي . وقد اتجه الفريق الأعظم من المتصوفة نحو الحب في أشعارهم ليترعوا الأدب العربي والإسلامي بما يُعرف باسم ( أشعار الحب الإلهي ) التي أسبغت  عليه بريقا ً وألقا ً أعظم وأبهى .           فالشعر هو الكأس الأوفى الذي يرتشف منه الصوفيون تعبيريتهم الصادقة والمرهفة  ، لما فيه من حسية ، وموسيقى ، ورقة تناغم الروح العاطفية المشبوبة   للسالكين إلى حب الله ، كما أن الشعر يمثل قالبا ً تعبيريا ً فضفاضا ً يتسع إلى  الحقائق والمعاني الصوفية التي يصعب ، في أحيان كثيرة ، إيصالها عن طريق الفنون النثرية إلى الأذهان . وشعر الحب الإلهي ضرب من الغزل ينطوي على جميع الصور والأوصاف والشجون التي نظم فيها الشعراء الغزليون من قبل ، مع احتفاظه برموزه واشاراته ودلالاته الباطنية .. وما إلى  ذلك مما يميزه عن غيره .

  الشعر الصوفي  بشكل عام ، بما فيه شعر الحب الإلهي ، ” يحيط  بكثير من أبياته الغموض  ، الذي يعمد إليه الشاعر ليكون المعنى أشبه باللغز لا يستطيع أن يفسره كل مفسر ، ومما يزيد المعنى غموضا ً هذه التراكيب المعقدة ، وكثرة المحسنات البديعية ، التي يلجأ إليها الشاعر ، أما الموسيقى ، فإنه لا يفارقها  ، وربما قصد الصوفي في  تعمده الغموض ، ليتخذ منه ذريعة  لتفسير البيت أو القصيدة على الشكل الذي يراه هو لا كما يفهمه الآخرون ” ، ولذلك تعددت واختلفت القراءات التي تناولت قصائد إبن عربي أو إبن الفارض مثلا ً .. ولكن هذا لا يمنع من توفر شعر صوفي غزير هو غاية في البساطة والوضوح ، بالغ العذوبة ، يتلمسه القارئ  بيسر ، ليجد بين بتلاته وزغبه كلاما ً غزليا ً رائقا ً ، يهيج المواضع ، ويخفق القلوب .. كما هو الحال بالنسبة إلى شاعرنا ، العاشق البغدادي ( سمنون المحب ) ..

  يوصف ( سمنون المحب ) بكونه أحد الشعراء الصوفييين المجهولين ، في الكتابات المعاصرة التي تعالج إشكاليات التصوف ، أو تتناول أدبه بالبحث . وأعتقد أن هذا الوصف وصفا ً نسبيا ً ، يمكن سحبه على جيل القرّاء المعاصرين ، إلى حد ما ، أما الأجيال السابقة ، فقد عرفت ( سمنون ) وأدركت جلال مقامه وعلو شأنه  ، ولا أدل على ذلك من ترنم أغلب المؤلفات من كتب ومخطوطات ورسائل صوفية بأشعاره الرائقة وأقواله الرقيقة .

   ( سمنون المحب ) : هو سمنون بن الحمزة الخواص ، ويكنى أبو الحسن ويقال أبو القاسم . ولد في البصرة ـ وبقيت سنة مولده مجهولة ً . عاش في بغداد وتوفي فيها عام  297 للهجرة ( 910)

ميلادية ،في تلك الحقب – العباسية – التي كانت تتجاذب الأطراف المتناقضة  فيها حبل الحياة ، طرف البذخ واللهو والترف ، وطرف الزهد والتقشف والتصوف . وقبره في بغداد إلى جوار الجنيد . صحب السري السقطي وأبا أحد القلانسي ومحمد بن علي القصـّاب وغيرهم من كبار مشايخ صوفية بغداد   الأجلاء، ( وقيل أنه أنشد :

            وليس لي في هــــــــــواك حظ         فكيفما شئت فاختبرنــــــــــــــــــــي

فأخذه الأسر ( احتباس البول ) من ساعته ، فكان يدور على المكاتب ويقول أدعوا لعمكم الكذاب .  

..  فجعل يلقب نفسه ( سمنون الكذاب ) .. 3                                                               

لكنما ( سمنون ) كان صادقا ً ، وكلامه بلسما ً للقلوب الحائرة ، وأشعاره وعباراته ولطائفه كانت تطير من شفة إلى شفة ، حباه الله من آلائه وأفضى عليه أنواره ..

وكما تعرض جل مشايخ الصوفية إبان العصر العباسي  إلى الحبس والاضطهاد والترهيب ، فقد طال ذلك شخص ( سمنون ) أيضا ً ، إذ وقع ضحية محنة عظيمة ، يوم اتهمته امرأة كانت تهواه  وتتحرق لوصاله  ، وبتحريض من ( غلام الخليل ) رفع أمره إلى الخليفة ، وقبض عليه وأودع السجن، و أوشك أن يحز رأسه لولا مشيئة الأقدار !.. لقد تكلموا فيه الكلام الفاحش حتى مات ، فلم يحضروا له جنازة ، على الرغم من براءته وجلال شأنه ؟!..

 كان ( سمنون ) جميل الصورة ، ( وله كلام في المحبة متين ، ووسوس في آخر العمر ) .. 4

  وفي ( أعيان الصوفية ) ورد : كان سمنون ظريف الخلق ، أكثر كلامه في المحبة ، كما كان كبير الشأن ..

كما يقول هادي العلوي في مداراته الصوفية : ( كان سمنون أقيم في مقام المحبة ، وكان إذا تكلم فيها يكاد الصخر أن يتصدع ، وكانت قناديل المسجد  تتراقص من كلامه . وتحدّث مرّة فتكسّرت

القناديل من زهو ما سمعت . وكان مستمعوه من الناس يهيمون على وجوههم وتتوله عقولهم . حتى الطيور كانت تعلوها الدهشة والذهول من كلامه في الحب . ونزل عليه طير ذات مرّة  وهو يتكلم  في الحب فمشى بين يديه  حتى قعد في حضنه ، ثم نزل عنه  وضرب بمنقاره البلاط  ، فخرج منه الدم وبقي ينزف حتى مات . وسُئل بعض الأكابر : ما بال كلام سمنون  في المحبة يؤثر في قلوب الخلق ما لا يؤثر كلام غيره ؟  فقال :                                                                       – ليست النائحة الثكلى كالنائحة المتأجرة ). 5

   يقول الشيخ ( سمنون ) :

كنت في سفر ، فدخلت ضيعة ً ورأيت الصبيان محدقين بغلام عليه أطمار ، وفي وجهه للمحاسن آثار ، ففي رجليه قيد ُ واسع ٌ ، وفي عنقه سلسلة طويلة .وقفت عليه ، فرفع رأسه وقال :

_ يا ( سمنون ) .. يا مدعي الحب .. يا من لبس هذه الخرقة المصنوعة ..ما معنى الحب ؟..

فقلت :

– هي رؤية العزيز الذل ، وأن تحب القيد والغل . فقال :

– صدقت . ثم أنشد :

          أذلّ ُلمن أهوى  لأكسب عزه          وهل إذ كان من تهوى عزيزا

فقلت له : يا أخي صف ْ لي المحبة .

فقال :

– كيف أصف شيئا ً لم أجده في نفسي حق وجوده ، ولا علمت منتهاه في نفس أحد . ومن قال رويت المحبة فهو كذاب ، ومن شكا منها فهو مدع ٍ ، ومن ذكر محبوبه فقد افترى . ثم أنشد يقول :

     

        وهل أنسى  فأذكر ما نسيت           فما نفد الشراب وما رويت

 

إن أشعار سمنون هي لواعج عشق قصيرة لا تتعدى كل منها بضعة أبيات ، بمعنى أنه لم ينظم القصائد المطولة ، شأنه في ذلك شأن الشعراء الصوفيين الذين عاصروه . وشعره موقوف على المحبة ، إذ كان من أبرز العشاق الصوفيين ، وأهم من أقيم في مقام المحبة . يزين شعره بنغمات العشق الوله والأشواق المتوقدة  ، التي تتحدث عن الصد ، والجفاء ، والصبر ، والرجاء ، والعتاب والوصال ، والعذاب والصبابة .. وتلك هي الأحاسيس التي تدور حولها قلوب السالكين الجيـّاشة .. وهو يصب معانيه في حلل قشيبة ، واضحة ، لا وحشي ولا غريب فيها ، ساحرة كأنها قطعة من الغزل العذري العفيف  ، حتى تكاد تشف عن باطنها الصوفي لرقتها ..

 

      يعاتبني  فينبسط انقباضــــــي                وتســـكن روعتي عند العتاب

     جرى فيّ الهوى مُذ كنت طفلا ً               فما لي قد كبرت على التصابي

 

                                            *******

 

      أفديك بل قَلّ أن يفديــــــك ذو دنف ٍ         هل في المذلـّة للمشتاق من عار ِ

      بي منك شوق ٌ لو أن الصخر يحمله         تفطـّر الصخرُ عن مُستـَوقد النار ِ

      قد دبّ حبّك في الأعضاء من جسدي        دبيب لفظي من روحي وإضماري

      ولا تنفــّست إلا كنتَ مع نـَفـَســـــــي        وكل جارحة ٍ من خاطري جار

                                          

                                             *******

 

 

             أحنّ بأطراف النهار صبابة ً            وبالليل يدعوني الهوى فأجيب

              وأيامـُنا تفنى وشوقي زائــد             كأن زمان الشوق ليس يغيــب   

 

                                              *******

 

          وكان قلبي خاليا ً قبل حبكـــــــــــم           وكان بذكر الخلق يلهو ويمزحُ

          فلما دعا قلبي هواك أجابــــــــــــه            فلست ُ أراه عن فنائك يبــــرح ُ

          رُميت ببين ٍ منك إن كنت كاذبــــا ً           إذا كنت في الدنيا  بغيرك أفرح ُ

          وإن كان شيءٌ في البلاد بأسرهــا            إذا غبت عن عيني بعيني يلـمح ُ

         فإن شئتَ واصلني وإن شئت لا تصل        فلستُ أرى قلبي لغيرك يصلـح ُ

 

                                                   ******

 

         ولو قيل طأ  في النار أعلم ُ أنه                  رضا لك أو مُدْن ٍ لنا من وصالكا

         لقــدّمتُ رِجلي نحوها فوطئتها                  سرورا ً لأني قد خطرت ُ ببالكــــ

 

                                                ********

قال السلمي  ، قال أبو الطيب المكي : ذكر لي أن سمنون كان جالسا ً على شاطئ دجلة ، وبيده قضيب يضرب به فخذه ، حتى بان عظم فخذه وساقه ، وهو يقول :

 

          كان لي قلبٌ أعيـــــــــــش به               ضاع مني في تقلــّبــــــــــــهِ

          ربِّ فاردُدّه عليّ فـَقـــــــــَــــد               ضاق صـــــدري في تطلبه

          وأغِــــث ما دام بي رمـــــــــق              يا غيـّاث المستغيث بـــــــــه  . 6

 

                                              ********

وله أيضا ً كلام رقيق في الحب ، إذ يروى أنه قال : كان في جيراننا رجل وله جارية ، يحبها غاية الحب ، فاعتلـّت الجارية ، وجلس الرجل يصلح لها حساءً ، وبينما هو يحرك القدر إذ قالت الجارية : آه ، اندهش الرجل وسقطت الملعقة من يده ، وجعل يحرك ما في القدر بيده حتى سقطت أصابعه !.. فقالت الجارية ما هذا ؟ فقال : هذا مكان قولك آه .                            

  

كما قال سمنون : لا يُعَبِر عن شيء رقيق إلا بما هو أرق منه ، ولا شيء أرق من المحبة فبما يُعبَر عنها .  وسُئل عن المحبة فقال

– صفاء الود مع دوام الذكر ، لأن من أحب شيئا ً أكثر من ذكره .

 إن الانسياب مع التدفق الوجداني النقي العذب في رحلة هذا الدرويش العاشق .. الرحلة الغريبة  السامية  ، تجعلنا في النهاية نحس بأن الشاعر الصوفي  ما هو إلا فنان رقيق يفنى في الحب ،     ”  ويحترق قلبه  بنيران الأشواق ، وروح الروح بلذة العشق واستغراق الحواس في بحر الأنس وطهارة النفس بمياه القدس ، ورؤية الحب بعين الكل ، وتخلــّق الحبيب بخلق المحبوب “..

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

1ـ  الأبعاد الصوفية في الإسلام ، آنا ماري شيمل ، ترجمة السيد محمد رضا حامد قطب ، منشورات الجمل ، الطبعة الأولى 2006 .ص 162 .

2ـتذكير بالحب ، رشاد أبو شاور ، مقال ألكتروني

3ـالرسالة القشيرية ، أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، دار الكتاب العربي ،ص25.

4ـ البداية والنهاية ،ابن كثير ، نسخة ألكترونية ( 130 / 11 ) .

5ـ مدارات صوفية ، هادي العلوي ، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي ،

    الطبعة الأولى 1977 ، ص48.

6ـ شعراء الصوفية المجهولون ، د . يوسف زيدان ، دار الجيل بيروت ، الطبعة الثانية  1996 ، ص10 ـ 13 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *