أصدقائي الذين أعرضوا عني ـــ قصة قصيرة

 

                 

 

 

( خجلت من نفسي ، عندما أدركت

أنّ الحياة حفلة تنكّرية ، وأنا حضرتها

بوجهي الحقيقي ) .

كافكا

 

 

نشأت مع ثلاثة فراخ من طيور البط . كانت تلازمني على الدوام ، وتصاحبني بزغبها الأصفر ، وثرثرتها العذبة . تحاببنا ، وقطعنا عهداً على أنفسنا أن نحيا معاً حتى الموت .

كنت أكبر منها بعشر سنين ، ولهذا السبب غمرتني باحترامها البالغ ، زيادة عن الحب الذي كانت تضمره لي . وظلّت تمشي خلفي بانقياد سلس نحو النهر ، كما لو كنت والدها .

كنّا نحب الصيف معاً ، ولكنّه كان طويلاً للغاية ، ونهاراته ليس لها حدود . في صباح كل يوم اعتدت أقود الفراخ نحو النهر الصغير ، نسبح ونلعب وقتاً كافياً برفقة صحبتي من الأولاد .

كان النهر جنة الصيف ، ونحن نلعب مع البط ، فيما الفتيات يقرقعن بأوانيهن المعدنية ، ويتصايحن كالغاق .

فوق سطح الماء كان نور الصباح باهراً يفيض علينا ببهجته .

عندما يتعب الأولاد من اللعب والمرح يشرعون بالعودة إلى بيوتهم ، بينما أبقى أنا لوقت أطول من ذلك . اعتادت النسوة أن يبقيني معهنّ .

حين تفرغ تلك النساء من غسل الأواني ، يلجئن فوراً إلى غسل الملابس ، التي يحملنها معهنّ ، ثم يملئن قدورهنّ بالماء .

عند جرف النهر مباشرة ، كثيراً ما يطفو فوق سطح الماء نثار من الشوائب والأوساخ ، اعتادت الفتيات أن يستنجدن بي لملء قدورهنّ من وسط النهر الصافي . كنت أساعدهنّ في كل شيء وأنا ألعب قريباً منهنّ .

طوال أيام الصيف كنّا نعود من النهر أنا وبطّاتي ملوّحي الوجوه ، ضاحكين ، وخلفنا لفيف من النسوة يسمعننا أحلى كلام .

وحتى بعد عودتنا ، لا تتوانى واحدة منهنّ أن تنده عليّ لأساعدها إذا ما احتاجت لي . كنت في نظرهن طاهر الثوب ، لا شيّة بي أبداً . وبين جيش الأطفال الذين يخرجون من غمام الأزقّة ، كنت طفلاً رقيقاً ، تفوق حلاوته كل وصف .

كانت أمي تقول للنساء عنّي :

« إنّه لا يشبهني ، ولا يشبه والده ، بل يشبه عمّته التي ماتت من فرط جمالها ! » .

 

 

֍ ֍ ֍

 

 

في صباح من صباحاتنا المضيئة ، انشغلت في مساعدة الفتيات على جانب من النهر . كنت عائداً للتو من مطحنة الحبوب ، التي تجاور النهر ، وقد حملت لهنّ قشور الحنطة والشعير ، ليجلين بها أوانيهن . طلبت منّي أحداهنّ أن أنزل إلى عرض النهر لملء وعاء بالماء .

ما أن هممت بذلك حتى صرخت صرخة عميقة من هول الألم ، وأنا أحسّ بشظية زجاج تشجّ باطن قدمي الصغيرة . حين خرجت من النهر كانت الدماء تسيل بغزارة من عقب قدمي . حملني الأولاد سريعاً إلى بيت من البيوت التي تطلّ على النهر ، وهناك دفنوا جرحي بقبضات متتالية من رماد التنور . ما أن توقّف النزف حتى أتتني امرأة بخرقة نظيفة ، وراحت تحزّم بها الجرح مراراً ، ثم قالت لي :

« الآن انهضْ ، وضعْ عقب قدمك على الأرض ، إسحقْ بها التراب ولا تخفْ » .

في ذلك النهار عدّت إلى منزلي متعباً ، شائه الوجه ، وخائفاً أشدّ الخوف من تأنيب أمي وأخوتي .

كانت فراخ البط متألّمة ، ولزمت الصمت ، بينما علقت في أعماقي الرائحة الطيبة لقشور الحنطة والشعير .

نمت عند الظهيرة نوماً عميقاً ، لم أصح منه إلّا بعد أن شعرت بيد أمي وهي تهزّني عدّة مرّات ، وتقول لي :

« انهض يا ( محمـد ) صاحبتك ( أم سعد ) مريضة هذا اليوم ، وأرسلت في طلبك مرّتين » .

خرجت إلى فناء الدار أعرج بقدمي المصابة ، نظرت إلي والدتي مليّاً ، وقالت بإشفاق :

« مريض يستعين بمريض » .

كانت ( أم سعد ) امرأة عجوز ، تركتها الأيام تعيش لوحدها ، في بيت قديم ، من الطين ، بادي الفقر والإملاق . كنت أمرق إليها عبر زقاق شحيح المساحة ، تحاصره جدران المنازل الأخرى بشدّة ، وتضيق عليه الخناق .

دلفت إلى حجرة ( أم سعد ) ، وكانت مستلقية في فراشها . ربطت جبينها بعصبة سوداء ، طوتها كالحزام ، وربطتها ربطاً محكماً . حينما أحسّت بوجودي ، فتحت عينيها وأخذت تأنّ متوجعة ، ثم قالت شاكية :

« ما حلّ بك يا ( محمـد ) ، كيف تتركني بدون خبز وخضار هذا اليوم ؟ » .

ولكنّني في الحال ،  رفعت قدمي المصابة عالياً ، أمام عينيها ، وقلت لها ، كما لو كنت أزفّ لها خبراً :

« أنظري ، إنّني اليوم مريض أيضاً » .

وطفقت أسرد لها حكاية الجرح . ثم أخذت أدور في الحجرة وأنا أعرج . غير أنّها نهرتني في الحال ، وهي تقول لي :

« لا تكنْ فتاة يا ( محمـد ) ، ضعْ قدمك على الأرض ، وامشِ كعادتك ، سيلتئم جرحك عاجلاً »

خرجت لأبتاع لها الخبز والخضار ، ثم شرعت أساعدها في أعمال المنزل . كنت أتنقّل من حولها ، وأنا أعيد وضع عقب قدمي المصاب على الأرض ، المرّة تلو الأخرى . حاولت جاهداً التغلّب على الجرح والألم ، ولكنّني كنت أفشل في كل مرّة .

« لا تنصرف يا ولدي قبل أن تعدّ لي كأساً من الكمّون » .

« ما هذا الكمّون يا جدتي ؟ » .

« الكمّون ؟ .. ألم تعد لكم والدتك كمّوناً في البيت ؟ » .

« كلا ، لا أعرفه » .

« حسناً .. ارفع وعاء الشاي ، وضع فيه ماءً حتى منتصفه » .

وحملت وعاء الشاي ، وصببت فيه شيئاً من الماء .

« والآن ، افتحْ تلك العلبة الصفراء ، وضعْ منها مكيالين فوق الماء » .

وفتحت العلبة الصفراء لتهبّ في وجهي رائحة زكيّة ، أخذت أتشمّمها مليّاً ، قبل أن أضع منها شيئاً في الإناء .

« أوقدْ الطبّاخ ، وضعْ الإناء فوقه » .

أوقدت الطبّاخ النفطي ، ووضعت الإناء فوقه ، وتركته ليغلي .

« أجلسْ ، وتنبه له حين يبدأ بالغليان » .

ما إن انتهت من إملاء توصياتها عليّ ، عادت تئن ثانية ، وتعيد رقودها في الفراش .

وجلست فاتحاً منخريّ ، منتظراً فوحان الكمّون ، وأنا أشعر بألم الجرح ينبض في قلبي . واسترخيت على حشية من الصوف .

بعد دقائق فقط ، سمعت ( أم سعد ) تقول لي :

« الآن ، انهضْ وأغلقْ الطبّاخ ، و أملأ لنا قدحين من الكمّون  » .

كانت رائحة الكمّون قد غمرت أرجاء الغرفة بعطرها ، وجعلت هواءها نديّاً .

وبينما كنّا نحتسي قدحينا بأناة ، تناهى لسمعي صوت مستتر ، ناعم ، يكاد لا يتبين ، يرافقه  شيء ما يتحسّس باب المنزل الخشبي . خلت أنّ طفلاً صغيراً يقف خلف الباب . هرعت إليه في الحال ، وأنا أحسّ بخدر في قدمي .

عبرت مجاز البيت إلى الباب الخشبي ، ومن خلال خصاص الباب تهيأ لي أنّني أرى رجلاً برداء أبيض ، وتساءلت :

« من هناك ؟ » .

« صديق » .

« أهلاً بالصديق » .

هكذا أجبت على عادة أهلي .

غشي النور عينيّ حالما فتحت الباب ، ولقيتني أقف إزاء أبهى صورة وقعت عليها أنظاري في حياتي كلها . كان شيخاً جليلاً ، بارع المنظر ، تحيط بوجهه الصبوح هالة ضوء يغلب عليها اللون الزهري . نظرت في وجهه فيما يشبه الصدمة ، وأنا أتمتم قائلاً :

« هل هذا فانوس منير ؟ » .

تبسّم الرجل وكأنّه سمعني ، ووضع أصابع كالقطن على رأسي ، وراح يربت على شعري ، ويقول :

« كلا يا ولدي ، أنا صديق جئت في عمل ، ولكنّني الآن تحيّرت بشأنه » .

« لمَ تتحيّر يا عم ؟ » .

« ما أن رأيتك حتى اهتزّت مشاعري هزّاً عنيفاً ، وتوقّفت عن إتيان أي شيء » .

« ما العمل الذي حضرت من أجله ، وهل أستطيع أن أساعدك فيه ؟ » .

تبسّم الشيخ بشيء من الحنو والشفقة ، وأخذ يحدّق مليّاً في قدمي المصابة ، وقد عقد حاجبيه متألّماً .

« لقد أصابتني شظية زجاج هذا الصباح » .

أخبرته بذلك ، وأنا أرفع قدمي المصابة أمام جسدي ، لأجل أن يراها بوضوح .

« هيّن إن شاء الله ، هيّن ، سيزول الألم قريباً جداً » .

كان صوته رقيقاً ، صافياً ، فيه نبرة عطرة .

على الرغم من غموض الشيخ إلّا أنّه لاح لي أليفاً .

عدّت أسأل ثانية :

« ما العمل الذي جئت لأجله يا عم ؟ » .

وتبسّم بأسى ، وقال :

« عمل لا يصح أن أخبرك به » .

« لماذا تقف هكذا ، هلّا تدخل وتستريح قليلاً في داخل البيت ؟ » .

« كلا ، الوقت لا يسعفني » .

أحسست كأنّه انصرف بذهنه ونظراته عني ، حينما رفع رأسه المتوهج نحو السماء ، وتمتم بكلام غامض ، غالبني إحساس بأنّه يسأل أحدهم عن شيء ما . ما لبث أن خفض رأسه ، ورأيت تورّد وجهه أشدّ مما كان عليه ، وقال :

« حسناً .. تم تأجيل هذا العمل » .

سوّرني الشيخ بمزيد من الغموض ، والتبست علي الأمور ، فوقفت فاغراً فمي والحيرة تلطمني . كان من السهل على الرجل أن يرى الحيرة بادية على وجهي في غاية الوضوح ، قال يطمئنني :

« تأجّل العمل الذي جئنا بصدده » .

وجال في بالي أنّه يعنيني بكلامه هذا ، ولكنّ كل شيء كان غامضاً .

كنت أشبه بالأعمى في طيّات ذلك الغموض . وبينما أحدّق في ملامحه النبيلة ، عجزت كل ظنوني عن تخمين من يكون هذا الشخص .

« ألا تستريح بعض الوقت في الداخل يا عم ؟ » .

« أنت ولد طيب يا محمـد » .

أصابني بالمزيد من الذهول ، فقاطعت كلامه بخفّة طفولية ، متسائلاً :

« أتعرف اسمي يا عم ؟» .

« نعم ، أعرفك وأعرف اسمك جيداً » .

وأخذ ينظر في وجهي بحنو، وهو يقول :

« أنت ولد طيب ، وخدوم ، لم نرَ طفلاً مثلك يبذل العون والمساعدة للآخرين هكذا ، إنّ السماء تحبك كثيراً ، ونساء الحي يتمنين لو كنت ابنهنّ الحقيقي  » .

ثم تبسّم ، وشرع يربت على رأسي في منتهى الوداد .

« عمرك عشر سنوات ؟ » .

« نعم ، عشر سنوات » .

« إنّ الجميع يتوقون لرؤيتك طفلاً هكذا طوال حياتك .. طفلاً لا تكبر ولا تتغير أبداً . وحتى أمّك وأهلك يتشوّقون لذلك ، وهم أكثر فرحاً بروعة طفولتك وجمالها . هل تعلم يا محمـد أنّك لو كبرت ستكبر معك الحواجز بينك وبين هاته النسوة المتعلّقات بك ، وسوف تنصرف  إلى همومك ومشاغلك ، وتدير ظهرك إلى خدمة ومساعدة الآخرين ، الذين ما تنفك تخدمهم اليوم ، وهل تعلم أنّك لو كبرت ستخسر ألعابك ولهوك مع الطيور والأولاد ؟ .. » .

وقاطعته في الحال :

« أنا لا أريد أن أكبر يا عم » .

وقهقهت ضاحكاً من الأعماق ، كما لو أنّني أسخر من نفسي وهي تصبو إلى أمنية مستحيلة .

وتساءلت بصبيانية قائلاً :

« كيف لي أن أبقى صغيراً ؟  » .

« عمرك الآن عشر سنوات ، وسوف تبقيك السماء ، التي تحبك كثيراً ، طفلاً لمدّة ثلاثين سنة أخرى . وحين يصبح عمرك أربعين عاماً سوف أجيء إليك لنرى ما الذي يمكن أن نعمله » .

« هل هذا صحيح يا عم ؟ » .

« نعم ، وابتداءً من اليوم » .

وحدّق بي مبتسماً ، وقال :

« هل توافقني على هذه الفكرة ؟ » .

« كيف لا أوافقك ! » .

وأطلقت ضحكة مترعة بالبهجة ، بينما راح الرجل يحدّق في قدمي المصابة ، وهو يتمتم بكلام لم أفقه منه شيئاً . وآنذاك سمعت صوت العجوز يتردّد من جوف حجرتها ، وهي تصيح :

« محمـد ، يا محمـد ، لماذا لا ترد علي ؟ » .

فاستأذنت من الرجل قليلاً ، ودلفت إلى عمق المجاز ، وصحت بالعجوز قائلاً :

« لحظة ، لحظة يا جدّتي ، سآتي في الحال » .

ولمّا عدّت أدراجي ، لم أجد أحداً خلف الباب بالمرّة . كان مشهد الشيخ الجليل قد اختفى عن ناظري، وصفقت يداً بيد ، وقلت بصوت آسٍ :

« كلا ، لا يصح أن يرحل عني هذا الشيخ اللطيف » .

وقفت أحدّق في الزقاق ، في شك رهيب من أمري . هل كنت أحلم ؟ أم كانت تلك مجرد تهيؤات بدرت من ذهني المشوّش ؟ ..

ولكنّه كان هنا بالفعل قبل قليل ، وربت على رأسي مرّتين ، حدّثني واتفقنا معاً على رأي واحد ، أليس كذلك ؟ .

وعدّت لأقول :

« بلى .. بلى ، كان هنا ! » .

وشخصت ببصري إلى المجهول ، وأنا أتخبّط في أفكاري ، ولكنّني حين رددت باب المنزل ، استنشقت عطر ذلك الشيخ وهو يفيض في المجاز . كان شيخاً مهيباً ، ولا أخال أنّني سوف ألاقي رجلاً بمثل جماله ما حييت ، كأنّه قطعة من السماء .. لا بل  كالزبرقان في ليلة تمامه ، وكانت ابتسامته تعيد الروح إلى الجسد ..

لفرط أحاسيسي ، ظل ّجسدي يقشعرّ، ويقشعرّ ، مثلما لو أنّ نفحات مفاجئة من البرد قد مسّت جميع أعضائي . رحت مسرعاً إلى غرفة العجوز ، وكان الخوف يرعشني ، وعيناي تلمعان بنداوة كالبلور . جلست عند طرف فراشها ، وأنا أقلّب أفكاري المتضاربة .

قاطعتني متسائلة :

«  خيراً ؟  » .

« لا شيء » .

« كل هذا الضحك والكهكهة ، وتقول لا شيء ؟ » .

ثم ناولتني القدح الذي ظلّ بين يديها  لغاية هذا الوقت ، وقالت :

« ضعه في مكانه . مع من كنت تتحدّث ؟ » .

« أحد أصدقائي » .

« ماذا يريد منك ؟ » .

« جاء ليخبرني بشيء ، ثم مضى لحاله » .

« هيا يا ولد ، لا تخبئ عنّي شيئاً ، ما الذي أخبرك به ؟ » .

« قال لي ستبقى صغيراً على حالك هذا ثلاثين سنة قادمة » .

« كم ؟ » .

« ثلاثين سنة » .

واهتزّت حجرة الطين بقهقهات العجوز ، ثم شرعت تسعل ، وما أن أطلقت موجة مستعرة من سعالها ، التقطت من فراشها خرقة ، أخذت تمرّرها على فمها . وعادت إلى نوبة الضحك ثانية ، حتى فاضت عينيها بالدموع .

« الله يبعد عنك البلاء يا محمـد ، أضحكتني كثيراً » .

وما لبثت أن عادت تضحك كرّة أخرى .

« ولكن قل لي ، ألم يتساهل معك صديقك هذا ببضع سنوات ، إنّ ثلاثين سنة شيء كثير ؟ » .

« كلا ، كلا ، لماذا يتساهل ، فأنا وافقت على هذا العدد من السنوات » .

« هل تقول أنّك وافقت على ثلاثين سنة ؟ » .

« نعم » .

« أليست كثيرة عليك ؟ » .

« كلا يا جدّتي ، وما أن تنتهي سيعود إلي ليرى ما يمكن عمله » .

عندئذٍ سقطت العجوز على حشية الصوف ، ترفس من جراء عاصفة ضحك ضربتها ، وهزّت كيانها ، حتى خشيت أن تموت بين يدي من هول ما ألمّ بها ، وأنا مندهش ، لما أصابها ، وأفقدها زمامها ! .

ولكنّها ما لبثت أن نهضت منتصبة على حيلها ، وقد ملئت الحيوية ملامح وجهها ، ومشت على أرضية الغرفة بجواربها السود  ، وقالت بصوت هزّت السعادة أوتاره :

« ها أنذا أتعافى يا ولدي ، والله وجودك  معي رحمة ، ودواء للعليل . إنّك من أهل الله يا محمـد ، وولد مبارك » .

ونهضت ماشية إلى حوش الدار ، وهي تتمتم ، قائلة :

« أشفتني بركتك يا بني ، أشفاك الله من كل علّة . اذهبْ وابلغ سلامي إلى أمك » .

كان صوتها الأجش مترع بالعاطفة ، والتأثر .

إثناء استغراقي في الجلوس ، عادت بي الأفكار إلى قدمي الجريحة ، عندما تنبّهت إلى أنّني أطبقها على الأرض ، كما لو كانت سليمة . فما كان مني حال إحساسي بزوال الألم عنها ، إلّا أن أرفعها عن الأرض ، وأرخيها فوق ساقي السليمة الأخرى  ، وأبدأ بفك الرباط عنها . وحين كشفت الجرح ذهلت أيّما ذهول ، فقد وجدت الجرح اختفى بالمرّة ، وكأنّ شيئاً لم يكن ! ..

اندمل الجرح على عجل ، مخلّفاً ندبة بشكل خيط رفيع .. خيط رمادي واهٍ ، يشبه الذكرى .

رحت واضعاً يدي فوقه ، أتحسّسه ، وأنا لا أشعر بأي ألم . ثم ضغطت بأطراف أصابعي على طول الجرح ، فلم يكن هنالك أثراً لشيء .

كنت صغيراً ، عاجزاً عن فهم ما يحصل ويدور من حولي . التفت إلى ( أم سعد ) وأخبرتها :

« تعالي يا جدّة ، انظري إلى الجرح ، إنّه تلاشى تماماً » .

نظرت ( أم سعد ) بعينيها الكليلتين ، ولم تصدّق ما رأت . وهتفت مستبشرة :

« هيا دعني أرى ، انهض وامشْ أمامي على قدمك الجريحة » .

نهضت ، وأخذت أذرع الحجرة طولاً وعرضاً ، وأنا أمشي سليماً معافى . رمشت العجوز بعينيها ، وبان الانفعال على وجهها سريعاً ، وقالت :

« يا محمـد أنت ولد بخيت ، تحبّك الملائكة أكثر ممّا نحبك نحن ! » .

ذهبت إلى والدتي فرحاً ، أسرعت لأريها قدمي ، ومشيت أمام عينيها ، كما يمشي الجنود ، وأنا أضرب الأرض بقوّة . ثم توقّفت ، وقلت لها في منتهى الجد :

« علاوة على ذلك ، فإنّ شيخاً جليلاً زارني قبل قليل ، وقال لي سأبقيك طفلاً طوال ثلاثين سنة قادمة » .

ابتسمت والدتي ، وركضت نحوي لتخبئني تحت جناحيها . وقد انفجرت الدموع من عينيها غزيرة ! .

 

 

 

֍ ֍ ֍

 

 

كنا صغاراً ، نعيش إلى جنب بعضنا البعض ، ولكنّني كنت أصغرهم جميعاً ، ليس في سنّي ، إنّما في جسدي الصغير ، وقوامي الضامر . كان صوتي ناعماً ، يلثغ بحرف الراء لثغاً آسراً .

ظللّت على حالي هذا حتى سن الثالثة عشر ، كأنّني لم أتقد م في العمر يوماً واحداً .

عند بلوغ أقراني هذا السن ، تبدّلت هياكل أجسادهم تماماً ، وتغيرت تغيّراً جوهريّاً ، وسريعاً .

اخشوشنت أصواتهم ، وتضخّمت أبدانهم ، وأطرافهم ، وبدأ الشعر ينبت على وجوههم ، بينما انشغل البعض منهم بتربية شواربهم . ولا أريد أن أفضح أحداً إذا قلت أنّ من بيننا من راح يتجسّس على النساء ، ويطارد الفتيات .

هكذا تحوّلوا ، وانقلبت حياتهم بالتمام .

تغيّروا بأكملهم ما عداي . بقيت على حالي ولم أتغيّر قيد شعرة . وكان الجميع يتهمونني بالتقصير في مأكلي ، وراحة بدني . بينما أخذت النسوة يلومنّ والدتي على تقاعسها ، وقلن لها آلاف المرّات :

« لمَ لا تعرضون الولد على طبيب ، إنّه توقّف عن النمو تماماً ؟ » .

وكانت أمي تحار في أمرها ، بينما كنت استغرق ضاحكاً من  تلك النصائح ، والتلميحات الشفوقة ، وأردّ على الجميع قائلاً :

« لا تتعبوا أنفسكم معي ، سأبقى طفلاً حتى عامي الأربعين » .

كانت مزاعمي تلك كفيلة بإلقائهم أرضاً من فرط الضحك .

كيف لي أن أكبر وأعلو في العمر ؟ .. لقد أعطاني الشيخ كلمة ، وأعطيته كلمة . اتفقنا وانتهى الأمر . لم أبقِ هذه الحكاية سرّاً مكتوماً ، أخبرتهم جميعاً بها ، ولكنّ ما من أحد منهم ليصدّق حرفاً واحداً مّما كنت أقوله ، وهذا أشدّ ما كان يؤلمني ، ويستثيرني ، فأفزع لمخاطبتهم قائلاً :

« إن لم تصدّقونني ، فكفّوا عن فكرة الطبيب هذه ، دعوني وشأني ، إنّني سليم ، معافى ، ولا أشكو من علّة » .

 

 

֍ ֍ ֍

 

 

 

تعاقبت سنين أخرى ، لتحدث فجوة بيني وبين أصحابي .. فجوة تعمّقت على مدى الأيام واتسعت ، لتغدو هوّة حقيقية ، فاصلة .

حين ولج أصحابي عالم الكبار ، تغيّروا تماماً ، تغيّرت حتى أسماؤهم ، وصار لكل منهم لقب . فهذا ( سلمان ) البزّاز بات يعرف ( أبو داود ) ، وأستاذ ( لطيف ) صار يعرف ( أبو ندى ) . ولكل منهم زيّه ، ومظهره الجديد . مضوا جميعاً لطيّاتهم وتركوني وحيداً ، ألعب مع الصبيان والطيور .

أشياء كثيرة حدثت ونغّصت علي راحتي ، وأثارت استيائي . كان مجرّد أن تقع عيناي على أحد منهم ، وهو لا يعبأ بي ، مثلما كان في سابق عهدنا ، أو إنّه يكتفي بتحية عابرة ، كما لو أنّنا لم نكن أعزّ ، وأقرب الأصدقاء لبعضنا ؛ فإنّ ذلك كفيلاً بأن يقوّض سكينتي ، وهنائي .

في المحيط  الضيّق لحياتي ، صارت تتناهى لأسماعي كلمة ( قزم ) ، التي لم أعرف معناها في بادئ الأمر . تكرّرت هذه الكلمة بكثرة حتى غدوت أفهم معناها جيداً ، ذلك الفهم الذي مزّق راحة بالي ! ، وأحالني إلى طفل سريع الغضب .

كنت أسعى إلى نفي هذا الزعم المستهجن عن ثوبي ، فكنت أصيح ، وأصرخ بأعلى صوتي ، والدموع تتقافز على وجنتيّ ، وأنا أقول لهم :

« ألم أخبركم مذ كان عمري عشر سنين بأنّني سأبقى طفلاً حتى الأربعين ؟ » .

يا ويلي .. يا ويلي ، كم كانت كلماتي الحسّاسة ، الصادقة ، تضحكهم إلى حدّ البكاء على حالي .

لقد غرز أحدهم نصل خنجره في صدري ذات يوم ، حين سمعته ينهر أصحابه ، وهم يسخرون منّي ، إذ خاطبهم قائلاً :

« كفّوا عن الولد رجاءً ، ألا يثير شفقتكم مرأى القزم ؟ » .

ترسّخ في أذهاني أنّ الناس لا تتقبّل صورتي ، ولا تستسيغ حالتي هذه . وكان ذلك سرّ وحدتي ، وأسباب كآبتي .

كان الإنسان الوحيد الذي تقبّلني على هذه الوضع هو والدتي ، التي كانت تطوي ساعديها حولي ، وتغمرني بدموعها ، كلّما صدمتها بمشهد حيرتي وأساي ، وتقول لي :

«  ستبقى طفلي الصغير إلى الأبد » .

ولكنّ أمي ما لبثت أن ماتت ، لتتركنا ، أنا وبطّاتي ، يتامى ! .

 

كما لو أنّ شيئاً سُرِقَ منّا ونحن نيام ، هكذا وجدنا أنفسنا في عمر العشرين على حين غرّة .

أخذت أشعر بأنّ السنوات الأكثر صعوبة في حياتي بدأت في هذا العمر ، وحان موعد عذابي .

كنت لم أزل صغيراً على حالي الأول ، ودرج أصدقائي يحملونني في أحضانهم ، وعلى أكتافهم ، كما يحملون لعبة ؛ وما فتئوا يمدّون أيديهم إلى المنطقة الأكثر حسّاسية في جسدي ، ليتأكّدوا من أنّني ما زلت صغيراً ولم أكبر بعد ! .

كانت ألاعيبهم تضايقني ، وتزيدني حرجاً ، ولكن على الرغم من ذلك كنت سعيداً معهم ، فقد كانوا أصدقائي ، وأقرب الناس إليّ .

في هذا العمر تعرّضت ، بحكم ضآلة جسدي ، وضعفي ، إلى بعض الحوادث التي خرجت منها سالماً . كنت أشكّ بأنّ ثمة أرواح خفيّة تحرسني ، وترعاني ، ويتهيأ لي أنّني أسمع بحفيف أجنحتها تخفق من حولي في أغلب الأحيان .

كانت أوّل صدمة لي يوم قُتِلَ أحد أصدقائي هؤلاء ، إثر مشاجرة مع رجل شرير في إحدى المقاهي . وبعد ذلك أخذت أسمع الكثير عن أخبارهم التي تثير الغم والاكتئاب . فهذا طلّق زوجته وراح ليتزوّج من فتاة أخرى ، وذاك زجّ به في السجن ، وآخر هجر عائلته ، وسافر ليعمل بعيداً .. تلك أخبار لا تسرّ بحق ، أما ما يسرّ منها  فعلاً فلم أسمع منه سوى النزر القليل . يا لعالم كبار السن كم يبعث على الغثيان ! .

قد تجمعني معهم مناسبة ما ، في بعض الأحيان ، وعند ذاك يغمرني إحساس حقيقي  بأنّ شمساً تشرق في أعماقي ، وتنير روحي ، كنت أهفو لملاقاتهم ، ولكنّهم سرعان ما يعمدون إلى حملي بين أيديهم ، يمازحونني بفظاظة ، أو يعرجون على تكرار أسئلة سمجة ، وساذجة ، لا تقوى أذني على سماعها . كنت بقدر اشتياقي العميق لجمعهم ، سرعان ما أضجر منهم ، وأنزع إلى الهروب من مجلسهم .

وذات مرّة قال لي واحد منهم :

« إنّ رجلاً عمره سبعة وعشرون عاماً مثلك ، ويعيش بوجه طفل عمره عشر سنوات ، له أمر يدعو إلى الرثاء . لا أعلم ما فائدة خلق الإنسان قزماً ! » .

نطق كلماته بفتور ، ولامبالاة ، وصوت خال من أي أثر لعاطفة الصداقة الحميمة .

كان ذلك أكثر لقاء مخيب لي ، مع هؤلاء الأصدقاء .

نهضت حالاً من بينهم ، في سورة غضب ، واشمئزاز ، وهرعت إلى البيت باكياً ؛ ووقفت في فناء الدار أحلّف بطّاتي بأعظم الأيمان ، وأنا أكرّ عليها متسائلاً هل أنا قزم حقّاً ؟ ..

كان وقع كلماتي حزيناً على البطّات ! .

لم يخطر في البال أنّ العمر كلّما امتدّ وطال يضفي على القلب شدّة وغلظة ، بات من السهولة بمكان أن ألمس تلك الخشونة السيئة  التي تغلب على طباعهم ، عندما يمسكون بي ، ويحملونني بين أياديهم ، تلك الأيادي القاسية ، الصلبة ، والتي كانت تسبّب لي الألم .

كان الكثير من لغطهم نابياً ، وحشيّاً ، وثقيلاً على السمع . وأكثر من ذلك عندما يفاجئني أحدهم وهو يمسك بطفل من الأطفال ، وينهال عليه ضرباً ، وتقريعاً . يحزّ في نفسي أن أجده يسلك هكذا ، فأقف جانباً ، بملامح باكية ، كمن ينتظر دوره في الضرب ، وأنا أردّد مع نفسي متسائلاً بحرقة :

« كيف يُطبقون على شحمة أذن الطفل التي لم تزل ورقة زهرة غضّة ؟ .

كيف يصفعون خدّه الذي هو قشطة الصباح ؟

كيف يصرخون بوجه العصفور أثناء تغريده ؟

أين ذهبت منهم رهافة الطفولة ولينها ؟

كيف تبدّدت تلك الأحاسيس الملائكية التي كانت تغمرنا معاً » .

أصبح مزاجي ينقلب رأساً على عقب ، عندما تجمعني الصدف معهم ، طالما انتقدت جرأتهم الجارحة ، التي تزيّنت بها ألسنتهم السليطة . فكان أحدهم يتصدّى لي بقسوة ، ويقول :

« عندما يتحدّث الرجال ، ينصت الأطفال  . أنت تقزّمت وانتهى أمرك ، لا تتدخل في أحاديث الكبار، اخرس ْ واستمع فقط » .

وما أن يندلق لساني ، أدافع عن نفسي ، يهرع إلى دكان قريب ، ويأتيني منه برضّاعة أطفال ، ويمسكني بعنف ، ليزرعها في فمي ! . آنذاك تنطلق عاصفة من الضحك المجنون .

فرّت ألوان طفولتهم ، ولم تعد البراءة ترطّب وجناتهم .

في مثل هذه المواقف وغيرها ، غالبني الإحساس بأنّني لم أعد ذلك الصديق المحبوب عندهم ، بقدر ما كنت قزم التسلية الذي يروّح عنهم الهموم ، متى ما التقوا بي .

كان ذلك يجعلني أشعر بأنّني كنت على صواب تام يوم أذعنت لإرادة الشيخ الجليل .

بعد ردح من الزمن ، لم أعد أحبّذ لقاءهم ، اتضح لي أنّني أضجر من سلوكهم ، وتصرّفاتهم الطائشة ، وأتوقّى مزاحهم الثقيل ، وأستنكر أن أكون لعبة بين أيديهم .

حين فقدوا تسليتهم معي ، أداروا ظهورهم لي ، ولم يعد أحد منهم يكترث بي . أو يسأل عني مجرّد سؤال عابر ! .

 

 

֍ ֍ ֍

 

 

 

يُقال ( تكتمل الطفولة كلّما تقدّم بنا العمر ) ، وليس من قبيل الصدفة أن أصبحت بعد ما يقارب من ثلاثين سنة طفلاً بالغاً .. طفلاً عجوزاً ، وصموتاً ! ..

بعد كل هذا العمر ، لم أندم في أي يوم من الأيام على طفولتي ، بل على العكس من ذلك ، و بمنتهى الصراحة ، كرهت عالم الكبار ، وأنا أرى صدودهم وإعراضهم عنّي .

ما بين بطّاتي ، وألعابي الطفولية ، بلغت عامي الأربعين ! ..

وعندما بلغت عامي الأربعين هذا كنت لم أزل طفلاً يجري النهر في أكمام ثوبي ، وتهرب فراخ الطيور من أمّها ، لتأتي وتنام ، موصوصة بين أقدامي .. لم أزل طفلاً ، وأحلامي أحلام طفولة ، أمرح مع الصبيان حتى يجنّ الليل ، وحينها أقطف نجمة وأندسّ معها في الفراش باكراً ! .

لم تتق روحي إلى الانخراط الغليظ في عالم الرجال أبداً .

في عصر أحد الأيام ، كنت جالساً عند جدار البيت ، في الشارع ، الذي بدا خالياً من المارّة .

جلست وقد بان التعب عليّ . كنت موجوعاُ ، غير أنّني لم أشتكِ من الوجع . كان ألماً طفيفاً وحسب . ثمة نغزة في صدري ، أو ربما كانت في قلبي ، راحت تعاودني من آن لآخر .

جلست مطأطئ الرأس إلى الأرض ، وقد شاب مزاجي بعض الكدر . وفيما كنت على هذا الحال ، شعرت بأحدهم يقف عند رأسي . رفعت وجهي إليه لأتفاجأ برؤية ذلك الشيخ الجليل مرّة ألأخرى ، بعد أن توارى عن أنظاري ما يقرب من الثلاثين عاماً ! .

« مرحباً يا محمـد » .

« مرحباً يا عمّاه ، كيف حالك ؟ » .

« كيف حالك أنت ؟ » .

نهضت في الحال واحتضنته ، وتضرّعت إليه متوسّلاً أن يشرفني بدخول المنزل ، لكنّه ربت على رأسي ، وداعبه ، كما فعل من قبل ، وقال لي :

« لا يهم يا ولدي ، لا يهم ، إنّني جئت لأراك لا غير » .

أدهشني أشدّ الإدهاش حضوره بذات الهيأة ، التي لم يتبدّل فيها شيء منذ ثلاثين سنة . كان وجهه المنير مشعشعاً في الغسق ، وسألني ، بابتسامته الخفية قائلاً :

« هل تمتّعت بأعوامك الثلاثين يا بني ؟ » .

« كثيراً يا عم ، كثيراً ، إنّني أشكرك على هذا العطاء العظيم » .

لم نتحدث مليّاً ، فالشيخ ، على ما لاح لي ، وقته محسوباً في منتهى الدقّة ، ولم يرغب في إضاعته ؛ فما لبث أن ولج في صلب عمله ، وقال ، من غير مقدّمات :

« الآن انتهت تلك السنين ، كما حدّدت لك ، وآن لي أن أطلق نموّك لتلحق بركب الرجال ، مثل زملائك الآخرين » .

« كلا … » .

صرخت كالملدوغ ، وأنا أقاطع كلامه بنبرة فزعة .

« كلا ، أرجوك يا عم .. أرجوك لا أريد أن أشبه هؤلاء الرجال ، ولا أريد التقرّب من عالمهم » .

« لكنّنا سبق أن اتفقنا على ذلك ، وانتهى الأمر » .

« أعلم ، أعلم ذلك ، ولكنّني لا أطيق الكبار ، ولا أريد أن أكون بينهم » .

وشرعت أبكي بين يديه ، في وهن ، وأنا لا حول لي ولا قوّة .

« حسناً ، توقّفْ ، لا تبكي ، ودعني أرى أمرك » .

وهنا رفع الشيخ رأسه نحو السماء ، كما فعل في المرّة السابقة ، وتمتم بشيء لم أتبينه ، ثم أحنى رأسه الوهّاج فوقي ، وقال لي :

« حسناً يا محمـد ، أمامك خياران فقط ، اختر أحدهما كما ترغب وتحب  ، الأول أن تصبح كبير السن مثل الرجال الآخرين ، والثاني أن تذهب معي إلى السماء ولا تعود إلى الأرض ثانية . فكّر جيداً يا بني ودعنا نرى ما تريده » .

أطرقت حائراً ، كان كلا الاختيارين صعباً بلا شك ، وليس من اليسر أن أختار أحدهما ، ولكنّني آليت على نفسي أن أنأى بها عن عالم الرجال المقيت ؛ فلم ألبث أن رفعت رأسي إلى الشيخ الجليل وقلت له :

« حسناً يا عم ، أنا أذهب معك إلى السماء » .

وعلى الفور ازدادت النغزات قوة ، وأخذ قلبي يخفق بألم ، واعتصرت صدري بيدي ، كما لو كنت أختنق ، وغامت رؤاي ، ورحت أغيب عن الوعي وأتلاشى تماماً . لم أعد أحسّ بأي شيء ، سوى بكف الشيخ الدافئة وهي تمسك بكفّي وتقود بي إلى السماء ! .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *