رأس البــَـرّ

رأس البَــرّ

قصة قصيرة ــ محمود يعقوب

  البراح الشاسع الذي يذهب حتّى الأفق البعيد ، يعود مساءاً إلينا بالنسائم الطريّة المنعشة ، وهي تبث الخفّة والانشراح في نفوسنا الخاملة ؛ هذا ما تحمله ليالي الخريف الطيّبة في المكان الذي نقيم فيه . كنا نسكن بيوت الخط الأخير من حي ( الألبان ) في المدينة ، الذي ينتصب في مواجهة هذا البر الفسيح . بينما أمضي جلّ أوقاتي منشغلاً في دكاني الصغير ، الذي ينتأ من جدار منزلي الخارجي ، بين بيوت الحي .

   أجلس عادة في أوقات الغسق خارج الدكان ، مستمتعاً بتلك النسائم العليلة ، ومستغرقاً في متابعة أولاد الحي الذين يلعبون كرة القدم في الأرض الخلاء ، غير بعيد عن صفّ المنازل الأخير . كانوا يستغرقون في لعبهم شوطاً طويلاً من الوقت ، حتّى ينزل الظلام ويختلط بين أقدامهم . عندها فقط يتوقّفون عن اللعب ، ويعودون في تؤدة الدرب مقبلين نحو دكاني . كانوا يعودون من ذلك البراح أشبه بالعرب الرحّل ، يمشون وقد غطّت وجوههم غمامة ، يسبقهم زعيقهم  ، ويتصايحون بكل قوّة صدورهم ، حاملين أحذيتهم بين أياديهم ، ومسفرين عن سيقانهم التي اعتلتها طبقات من التراب الرمادي ، وقد تسلّح البعض منهم بالعصي . يحيطون بالدكان من كل جهة ، فأسارع لأفتح لهم خرطوم المياه ، وأنا أبعده قليلاً عن بوّابة الدكان ، فيهرعون إليه متزاحمين ، لينهلوا منه . أنظر إلى وجوههم الجافّة ، المتعبة  ؛ وإلى عيونهم الجميلة التي تلمع مثل عيون القطط . أنظر إلى ملح العرق الأبيض الذي تفصّد خلف آذانهم ، نازلاً على رقابهم المتسخة ؛ وما ألبث أشمّ رائحة البرّية في ثيابهم .

   كنت أعرف أسماءهم واحداً واحدا، وأعرف ألقابهم  ، كانوا رائعين جميعاً : أحمد الأرنب ، ذو الابتسامة المشرقة ، التي تطالعك فيها أسنانه الكبيرة ؛ كمال المرعوب ، ذو المزاج الزنجبيلي الثائر على الدوام ؛ أسعد المدلّل ، والآخرون … عندما يلعبون ، كنت أجلس وأرخي إليهم سمعي وبصري . كانت مهاراتهم في اللعب تثير مكامن إعجابي وحماستي . ألفوا لعب الكرة منذ نعومة أظفارهم ، وأكبوا عليه إكباباً أعمى . يجيدون المناورة ، والمراوغة ، ويلهبون الحماس في انقضاضهم على الكرة ،  وقد انخرطوا جميعاً في تقليد مهارات نجوم الكرة الكبار ، كان البعض منهم قد امتلك الموهبة قبل أوانه ، كأنه وُلِدَ ليكون لاعباً ماهراً . لم يمتلكوا الخطط المدروسة مسبقاً، وإنما اختار كل منهم موضعه المناسب ، ضمن الفريق الذي يلعب معه ، من تلقاء نفسه . لا أمتلك حسّاً رياضياً كافياً ، ولكنني  كنت استمتع حقّاً في مشاهدة لعبهم .  كانت الأزقّة تتصادى بصياحهم ، وهم يهرعون إلى الملعب ، مرتدين تلك الملابس الرياضية ، التي تضفي على كل منهم إحساساً بالتميّز ، ويحملون على ظهورهم أرقاماً إنجليزية كبيرة ، تمنحهم الكثير من الزهو ؛ يمضون إلى اللعب وهم يتّقدون مرحاً ، وكانت فتوّتهم المتفتّحة تجعل الحي بأكمله يتدفّق بالحيوية .

   غالباً ما كانت أحاديثهم تفيض بالتقريع ، وبتلك المجادلات العقيمة ، التي لا تفضي سوى إلى الشجار والنزاع . وطالما أنبري إلى نصحهم ، وأخلص لهم المشورة ، وأسعى إلى إيقاف الزعل والخلاف بينهم ، حالما يشرعون بالصراخ في وجوه بعضهم البعض . كنت أحدّثهم برفق وأصالح بينهم .

   خلافاً لأحياء المدينة الأخرى ، انقسم الفتيان في حيّنا على أنفسهم ، وباتوا فريقين متناحرين ، لا يجمعهما جامع . ولأجل أن يتدارك كل فريق منهما النقص الواضح في عدد لاعبيه ، راح يضمّ إليه فتياناً تنقصهم المهارة والهمّة في اللعب . وهذا ما أضعف كلا الفريقين أمام خصومهما من الفرق الرياضية الأخرى . درجوا يلعبون في الخلاء الذي يحيط بمنازلنا ، وقد اعتادوا أن يلعبوا ضد بعضهما البعض . أسمعهم يتشاتمون ، وأبصرهم يتشاجرون ، ويترامون بأشدّ اللعنات وأبشعها . في كل يوم أشعر أنهم يتخاصمون ، وقد انفرط عنقودهم الريّان ، وأمسوا فريقين متنافسين ، يسعى كل منهما وبضراوة لأجل إلحاق الهزيمة بالفريق الآخر ، في تلك الساحة التي ارتسم على صعيدها آثار الشمس الحارقة .

   ثمة طريقان ترابيان ، يقودان من تلك البريّة صوب حيّنا ، وكان كل فريق منهما يسلك درباً محدّداً ، وقد دأب الفريق الفائز من التباري بينهما يسير في زوبعة من الأهازيج ، والأغاني المحرّفة تحريفاً فظّاً ، المترعة بالشماتة ، والتنكيل بالفريق الآخر . بدا أن همّهم الوحيد إذلال بعضهما البعض . وظلّ الخلاف  والعناد يمزّقهم .

   كان اسم الفريق الأول هو ( رأس البَرّ ) ، ولا يخطر في بال أحد من أعضاء الفريق ، من ذا الذي تطوّع وأسبغ عليهم هذا الاسم ؛ وعلى أي حال ، ضمّ هذا الفريق لاعبين صغار السنّ . بينما جمع الفريق الثاني ، الذي حمل اسم ( الطليعة ) لاعبين أكبر سنّاَ ، وأكثر خشونة ، بعضهم يبتاعون السجائر من دكاني .

   في الخريف عادة يحلّ موسم بطولة فرق المدينة ، وخلاله تحتدم المنافسات بين جميع الفرق الرياضية فيها . أحياء المدينة تفتخر بفرقها الكروية ، وتعمد إلى دعمها ، وهذا ليس غريباً . لكل فريق اسم ، وشعار ، ولون مميّز ، مثلما له جوقة طبّالين ومزمّرين ، ما عدانا نحن في حيّنا الفقير المركون في أقصى جنوب المدينة ، الذي ابتكروا له اسم ( حي الألبان ) بوحي من ذلك المعمل العتيق الذي صدئت مكائنه وتبعثرت آلاته ، حتّى أمست من سقط المتاع   ، بيد أن هذا المعمل أضفى مسحة ريفية خالصة على الحي بأكمله ، في نظر سكّان المدينة الآخرين . وعلى الرغم من أن فتيان الحي كانوا جميعاً أوراق غصن واحد ، إلّا أنهم لم ينسجموا مع بعضهم في يوم من الأيام ، وقطعوا شوطاً في الخلاف والتنافر بينهم . حينما يذهب أي فريق من الفريقين للتنافس مع فرق المدينة الأخرى ، كان يعود مهزوماً ، مثخناً بالجراح ؛ لم يقوَ أي فريق منهما على مجاراة الفرق الأخرى في اللعب . أحياناً تكون هزيمتهم قاسية وشديدة المرارة ، ساعتها يعودون ، وهم لا يفعلون شيئاً سوى كبح رغبتهم بالبكاء ، وهم في حالة من الهوان تستدرّ العطف والحنان ؛ يحزّ منظرهم البائس في النفس كثيراً ، وهم يجترّون الأمل تلو الأمل بتحقيق الفوز . يعودون ليقفوا من حولي منكسرين ، وجوههم معفّرة بالتراب ، وقد نطعت ألوانهم ، وأفواههم المرتعشة مليئة بالأعذار الغريبة ، المضحكة ، حيث يكيلون اللوم على الحظ الذي لم يبتسم لهم مرّة واحدة . يقول البعض أنهم بحاجة إلى قوة دفاعية جديدة ، والبعض يدّعي أن مهاجميهم تنقصهم القدرة على تسجيل الأهداف بيسر ، بينما يرمي آخر باللوم على حارس المرمى المسكين . ثم يجلسون قريباً مني ، بعض الوقت صامتين ، وعيونهم الجميلة تدور في محاجرها كأنهم طيور برّية حائرة .

   كنت أطري على مهاراتهم في اللعب ، تلك المهارة النابعة من شرارة الفتوّة المتّقدة في أعماقهم ؛ وعلى الرغم من ذلك لم يبزغ نجم أي لاعب من هذين الفريقين في سماء رياضة الكرة في مدينتنا ، ولم يكتسبوا صيتاً حسناً مثلما تنعّم الآخرون به .

   كثيراً ما كانوا يوهمون أنفسهم بأنهم الأقوى وهم على هذه الحالة الرثّة . داومت أنظر إليهم ، واستمع لأقوالهم بقلب صاف ٍ ، وعلى الرغم من أنني كنت أبذل لهم العطف وأسدي لهم المعروف ، إلّا أنهم لم ينصاعوا لكلامي ، وكثيراً ما ألبث حائراً بأمرهم ، وأنا أجيل ببصري بين وجوههم البريئة .

   كنت أعذّب عينيّ بمنظرهم ، ولم يكف قلبي عن حبهم في يوم من الأيام . كانوا أولاداً طيبين ، قاسوا الكثير من الهزائم . وفي الغسق المُذهّب ، حين يعودون من اللعب ، كانوا يوقظون أحاسيسي ومشاعري ، وأحياناً يعتصرون قلبي المترع بالشفقة عليهم . حتّى السعادة التي تعلو وجوههم ، في كثير من الأحيان ، كانت سعادة مُحيّرة . لم أنفكّ أنصحهم بالكفّ عن مهاجمة بعضهم البعض ، وسعيت مراراً لوحدتهم ، من دون أن يكترث أحد منهم لي . لبث كل فريق منهما أشبه بالساعة الرملية ، التي تتساقط رملاً إلى أسفلها ، وإذا ما قلبتها رأساً على عقب ، تظل تصبّ الرمل إلى الأسفل أيضاً : نفس الرمل ، ونفس الزمن ، ولا تغيير يُذكر ! .

   لا أنكر قطعاً ، أن نفوسهم تنطوي في أعماقها على رغبة  مخلصة في رفع اسم الحي ، وإن هذه الرغبة لمّا تزل تدغدغ أحلامهم ؛ إن وهج الفوز الذي تخطفه الفرق الأخرى ، وسيل الهزائم والانكسارات التي دُمغوا بها ، وضجيج جوقات الطبّالين التي تنثر فوق رؤوسهم التهكّم والمسخرة .. بكل هذا الوقود كانت تشبّ في رؤوسهم الصغيرة الكثير من الأحلام والأوهام أيضاً . على الرغم من كل شيء ، أخذ الفريقان يسعيان إلى التنافس مع الفرق الأخرى بأمل خافت ، متقهقر للفوز ، وكانوا يشعرون سلفاً أنها مباريات مغمّة ، مخيبة لآمالهم . كانت هزائمهم تتكرّر على الدوام ، وكان طعمها المرّ لصيقاً بألسنتهم ، حتّى أن الظلال التي تعكّر صفو نظراتهم تشي بذلك غالباً ، وكانت أحاديثهم تتقاذف كلمات الانكسار ، ويشقّ على من يسمعهم أن يبدون بمثل هذا القدر من الاستضعاف .

   لم يكن لدى الفريقين قوى احتياطية كافية ؛ كان عددهم محدود ، ومن يتعرّض منهم لأية إصابة ، أثناء اللعب ، يضطرّ إلى مواصلة المباراة حتّى النهاية .  من السهولة بمكان رؤية أحد لاعبيهم وهو يقزل أثناء سيره ، ولا يقوى على الركض  ، بل إن وجود بعض اللاعبين كان يفسد عليهم الفوز ، والأداء الحسن في اللعب . بقي كل واحد منهم متشبّثاً بفريقه ولا يبارحه . عندما أتأمّل حالهم ، أرى من المحتّم أن يبادر أحد ، ويمضي إليهم ، ليهبهم العزيمة ، ويسعى لرأب الصدع بينهم ، متطلّعاً لغرس بذور المحبّة في تربتهم الخصبة . كان غاية أملي أن يصبحوا ندّاً لغيرهم ، ويظهرون مواهبهم ، ويلعبون برجولة في تنافسهم مع الآخرين . وقد ناشدتهم ونصحتهم مراراً ، وأنا أبتغي رضاهم ، ولكن من الصعب أن يذعنوا لكلامي ؛ ثمة أمور ، في منتهى الذاتية .. أمور غامضة ، دفينة في نفوسهم ، هي التي تتلاعب في عواطفهم ، وتدير أحكامهم وعزمهم في مآل الأمر . وفي وقفاتهم الفاهية حيال كلامي ، كانوا يعمدون إلى المزاح مع بعضهم البعض ، ويولوني ظهورهم .. ما عساي أن أفعل ! . لم يكن رأسي مسرحاً لأحلام اليقظة وحسب ، بل كانت رؤوس الصغار كذلك . كنت أنظر إليهم وأفكّر كيف يمكن أن يزهروا في مواسم الربيع القادمة ، ولم أكن أيأس منهم . على الرغم من تبجّحهم كنت أثق بمستقبلهم ، ومنحتهم ثقتي هذه ، وطالبتهم أن يشركوا الصبي ( سلّومي ) في اللعب ، على الرغم من جميع خلافاتهم ، ليتداركوا النقص في لاعبيهم ؛ وكنت ، أحترم هذا الولد أيضاً ، كان على جانب من اللطف على الرغم من مشاكساته ومرحه المزعج . وهو على النقيض من كل الفتيان في الفريقين المتخاصمين ، كان يلعب تارة مع فريق ( الطليعة ) وتارة مع فريق ( رأس البرّ ) .

   كان ( سلومي ) فتى قوي البنية ، سريع ، يخطف بين اللاعبين كأنه ظل ذئب . درج يشغل موقع قلب الهجوم في كلا الفريقين ، وهو ينطلق بالكرة ، أثناء اللعب ، غير هيّاب ، وكان دمه خالٍ من الخوف والتردّد ، وهو يواجه العديد من الأولاد الذين يخبطون في لعبهم خبط عشواء ، وكثيراً ما كنا نرى الضمادات تغطّي إحدى ساقيه أو كلاهما . ولكن في كل مرّة ينهزم فيها الفريق الذي يلعب ضمنه ، يروحون يكيلون اللوم إلى شخصه ، ويصبّون عليه جام غضبهم كما لو كانت خسارتهم بسبب لعبه ، فيحيطون به ، فور انتهائهم من اللعب ، وكل واحد منهم أشبه بعود الكبريت الأحمر ، وهم يغمرونه بالتقريع ، بينما يحاول هو الدفاع عن نفسه ، ويسعى إلى تركين غضبهم ، وإسكات أفواههم التي تطفق باللعنات . في الوقت الذي كان فيه هذا الولد يبلوا بلاءً حسناً ، ويلوح للعيان ، بوضوح فاقع ، كيف امتلأ جسده الغضّ بالكثير من الندوب ، وكيف حرثته أقدام المهاجمين ؛ وممّا لا ينكره أحد منهم إن وجوده يضفي على الفريق لمسة رائعة متى ما بادر إلى اللعب .

      إن انتقال ( سلّومي ) المتكرّر بين صفوف الفريقين ، قد ساعد بجلاء على فتح أفق رؤيته لحال هذين الفريقين ، وما أحاق بهما من هزائم متعاقبة . كما حفّزه على توطين إرادته للعمل على تغيير حالهما ، مثلما أدركت لاحقاً . في أحد الأيام ، أقبل إلى الدكان بوجه طلق ، يعلوه الزغب اللامع ، وهو في لباسه الرياضي ، وبادرني يقول :

ــ اليوم سنذهب لنطيح بأوّل فريق من فرق المدينة .                                                                     أنعمت النظر إليه ، قلت له :                                                                                                                                                           ــ طال انتظاري الشغوف إلى هذا اليوم ، ولكن كيف يمكنكم فعل ذلك ؟                                       ــ جمعنا فريقينا في فريق واحد ، وسوف ننافسهم بخيرة لاعبينا ، وسنثبت في ظرف وقت قصير أننا أقوياء ، ونثأر لجميع هزائمنا السالفة ..                                                                                    ــ أحقّاً ما تقوله  ؟ .                                                                                                                      ــ أجل ، فقد أقنعتهم أخيراً في أن يتّحدوا معاً ، ونجحنا في تشكيل فريق قوي يمثّل حيّنا ..            كان يتحدّث مثل رجل ، وهو يفيض حماسة . ورفع بصره ، وهو يحدّق بي مباشرة ، وقد تألّقت عيناه ، واستطرد يقول :                                                                                                                       ــ سوف تراهم وهم يلعبون مثل الشياطين .                                                                                 ــ هل أنت واثق من ذلك ؟ .                                                                                                      رفّ جفناه رفيفاً طفولياً وقال :                                                                                                     ــ بالتأكيد .                                                                                                                                   ــ أحسنت العمل يا بطل ..                                                                                                        وفي الحال سرحت بأفكاري بعيداً ، وقد هزّت نشوة النصر أحاسيسي قبل الأوان ، ولم تلبث شفتيّ أن افترّت عن ابتسامة خجولة ، ووجدت نفسي أحيط كتفه بيد حانية وأنا أقول له :                           ــ ( سلّومي ) يا صغيري ، كنت كبيراً حقّاً ! .                                                                             ارتخت يدي ، ونزلت عن كتفه . وقفت أحدّق في وجهه المشرق ، المستبشر ، الذي تعلوه أمارات الفرح البريء ، كأنني أحدّق في وجه معلم قدير يوحي لي بالكثير من العِبر .

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *