بعيداً عن المسار
قصة قصيرة
محمود يعقوب
لم يخلّف ( ثامر عبد الله ) ما يلفت الأنظار عقب رحيله المبكّر عن الحياة . لا أكثر من ترك منزل صغير خاوٍ ، تجثم فيه امرأة ضعيفة الهمّة ، تناطر ابنتها ؛ وماذا يُرتجى من عامل بسيط يكدّ بالأجر اليومي الزهيد ، في متجر يعرض ملابس نساء وأطفال ؟ . ما إن أسلم روحه حتّى أضحت زوجته ( غفران ) تستقبل العديد من جاراتها وصديقاتها ، اللائي وجدن في منزلها مرتعاً يلتئم فيه شملهن ، لتريح كل منهن نفسها جراء عنائهن ، وهن ينغمسنّ في شجون الحديث وسحره ، بينما صدر( غفران ) مثلج بسماع تلك الحكايات والأسرار العجيبة ، وما برحن يتبادلن الكثير من الأخبار ، وعلى ألسنتهن يفيض الكلام عن الأسواق والمتاجر . كن مجموعة أسعدتهن الأقدار بأزواج يكدّون طوال أيامهم من أجل راحتهن وهنائهن .
عندما تشرع ( غفران ) في الحديث ، تطفو فوقها سحابة كآبة ، وحيرة ، ولكن ذلك كان بمثابة قلق عابر ، اعتادت تحمّله ، وسرعان ما تتحرّر منه . لم يكن من اليسير استشفاف معاناتها الداخلية العميقة ، وفي وحدتها كانت أكثر استسلاماً للأحزان . عاشت حياة باردة منذ زواجها ، مهدهدة برتابة فرضها الحرمان ، وقد مرّت عليها أيام طويلة من الركود .. انطوت فيها على نفسها مُدثّرة بإزار الخمول اللذيذ . لم تكن تحب ارتياد الأسواق والبحث في المخازن ، كما كانت تفعل النساء الملهوفات مثل ذلك . في بعض الأحيان يقصّ عليها زوجها الكثير من حكايات النساء المتسوّقات من المتجر الذي يعمل فيه ، وما انفكّ يخبرها كيف يلجن إلى المتجر مثل عاصفة ، ويكتسحن جميع بضاعته ، في مناسبة أو من غير مناسبة . كان الرجل يسخر من ذلك الاندفاع الأهوج في التنافس على الشراء فيما بينهن .
درجت ( غفران ) تعوّل على زوجها في أعمال المنزل ، فكان هو من يتسوّق كل صغيرة وكبيرة ؛ بينما تنهمك في إعداد الطعام ، وهي تفعل ذلك في استغراق عميق . كان تهيئة الوجبات الثلاث كل يوم ، أفضل ما تسارع لعمله من الأشياء ، وحينما تسألها أحدى صديقاتها عمّا تفعله ، كانت تُجيب دائماً ، بصوت خَدِر ، متنمّل ، ينبعث صاعداً من أسفل قدميها : ـ نحن نطبخ ، ونأكل ، وننام .
لم يشغل تفكيرها شيء كبير الأهمية ، وذو بال ، ولكن في إثر فقدها المفاجئ لزوجها ، أخذت كثير من تلك الأفكار الغامضة ، والمبهمة تستحوذ على ذهنها وتشغلها حقّاً . لاح لها كأنها أوتيت نفاذ البصيرة ، وجمال التفكير الحسن . تبدّلت أشياء كثيرة في داخلها ؛ والتمست لنفسها الأعذار الوجيهة لتحيى حياة الرغد التي تنعم بها صديقاتها . على الأرجح ، كان لجمع النساء في منزلها حافزاً ، أيقضها وانتشلها من ذلك الفتور . كانت أحاديثهن تؤجّج في نفسها غيرة النساء . إن غمّها ، وإحباطها اللذان كانا يصرفانها عن التفكير على شاكلتهن بدأ اليوم بالانحسار . ومضت في مخيلتها الكثير من الأفكار الطريّة ، التي لم تعنّ على بالها من قبل ، وراح طريق السعادة والرخاء يمثل في مخيلتها . بدأت تجلس بينهن ، تنصت لتلك الثرثرة ، وإذا ما تحدّثت في أمر ما ، يظلّ الألم بيّناً في صوتها . سعت للتشمير عن ساعديها ، حتّى جاء اليوم الذي خاطبت فيه نفسها قائلة : ” آن لأيام الكسل أن تغرب عن حياتي ، فأنا امرأة بلا رجل ” ؛ وعقدت نيّتها على أمر جلل ، لا مفرّ منه ، يقودها إليه المكر ، والدهاء المدفون عميقاً في طيّات صمتها المتوجّع .
انطوت حياة ( غفران ) على العتمة ، والسرّية في كل شيء أحاط بها ، وعاشت كإمرأة بائسة قاست كل ألوان العوز والحرمان ، وتواترت عليها المصاعب الجمّة من غير حسبان . وباتت حياتها أشبه بالحياة الطفيلية ، وهي تأكل من قدور الجيران . لم يكن هنالك من يحنو عليها سوى شقيقتيها المتزوجتين اللتان تسعفانها بالقدر الذي تستطيعان إليه سبيلاً ، فتبعثان لها ببعض الهبات ، التي تعينها على مواصلة العيش مع ابنتها .
كان يشقّ عليها أن ترى ملامح الحزن تطلّ من وجه هذه الصبيّة ، فتشرع في تأملها بلا ملل ، بينما يتسرّب إلى روحها الإحساس بالضآلة والألم المبرّح . ومن غير أن تعي ، تسرح في خيالاتها ، في حنين إلى التشبّه بأولئك النسوة المحيطات بها . أرادت أن تمضي حياتها ، وحياة ابنتها في رخاء وهناء ، سيّما وأن ابنتها قد انتقلت إلى الدراسة الثانوية ، وأظهرت نجاحاً لا بأس به . راقت لها تلك الملابس الحديثة الفصال ، بألوانها الزاهية ، التي كانت تتباهى جاراتها باقتنائها ، كذلك سحرتها حياتهن الطيّبة . أرادت أن تكون ، هي وابنتها ، مثلهن ، لا بل أرادت أكثر من ذلك . كان منظر تلك الملابس ، التي حُرِمَت منها ، أدعى للحزن في عينيها ، وتكاد ترتمي أرضاً ، منسحقة ، جراء استنشاق عطورهن العبقة . تجلس وتراقبهن بنظرة شاملة ، تتأملهن باهتمام ، وكانت زينتهن ، تثير النقمة في نفسها مباشرة ، يا لغيرتها من تلك المستحضرات ، والمراهم التي تجعلهن مثل وردات مزهرة في بهاء الصباح . وعندما يبدأن ثرثرتهن ، ويغرقن في ضحكاتهن ، كانت تنظر إليهن مليّاً ، وإحساسها مستثار من تلك الرقّة الزائفة ، والميوعة الخادعة التي يحاولن عبثاً أن يتظاهرن بها أمام بعضهن البعض ؛ وكانت تقول في سرّها : ” من أين تأتي الرقّة إلى مثل هذه النساء ، وهن ثرثارات ونهمات ؟ ” .
في كل يوم يمرّ ، تتأمّل ( غفران ) في مصيرها مطوّلاً ، وتنشغل في أفكار جديدة لم تعهدها من قبل . عزمت على تبديل أجواء حياتها القاحلة ، وهي تستمدّ حرارة التعجيل بذلك من طموحها المستعر ، ومن غيرتها الرهيبة ؛ وكانت كثير من الأفكار المخيفة تحتدم في رأسها ، وتداهمها مثل نوع من مرضٍ . لم تضع وقتها سدى بأي حال من الأحوال ، اتخذت في مآل الأمر قراراً عسيراً للغاية ، ليس عليها وحسب ، بل عسيراً على كل إنسان آخر ، على الرغم مّما أيقظه في نفسها من ذعر واشمئزاز آنئذٍ ، بعد طول تفكير عزمت عليه من غير أن يراودها أي تردّد أو خوف . لأيام عديدة نازعها هاجس مثلما ينازعها الموت ، وأخذت تشتدّ وطأته حتّى ثارت على ذاتها وعزمت على الخروج من معتكفها ، وكسر قضبان سجنها . هرعت إلى الأسواق وهي ترمي بالأفكار ، والأوهام ، والتصوّرات المخيفة بعيداً عن ذهنها . لم تكن نفسها تدرك كيف تحوّلت إلى امرأة ضارية ، مغامِرة ، عندما خرجت لتلقي بنفسها في معترك الحياة ؛ راحت تتحفّز وتخاطب نفسها قائلة : ” إذن يستلزم عليّ الخروج من المنزل ، لنجلب لنا شيئاً يسيراً من تلك الأموال الطائلة ، التي تتدفق من يد إلى أخرى بلا انقطاع ” .
كان عالمها مغلقاً وكابياً ، ومغلّفاً بالألغاز ، أرادت هدمه والانفتاح على الدنيا ، التي تبدّلت تماماّ ، وأمست تختلف عن تلك الأيام الأولى من زواجها . وكبرت ابنتها ، وتفتّحت رغباتها ، ولم تعد تلك الفتاة الصغيرة التي يرضيها أي شيء يمكن أن تضعه أمها بين يديها . عملت فكرها مليّاً في شجون الحياة ، وطافت في ذهنها الكثير من الصور ، ولكنها عقب ذلك التأمّل والتفكير أجزمت على إعادة النظر في حياتها الرتيبة ، الراكدة ، وأقسمت على ذلك من غير أن يطلب منها أحد .
ᵜᵜᵜᵜᵜᵜ
عادة ما تكون الأعياد والمناسبات العامة فرصة لإشعال نيران المتاجر والأسواق ، وتقاطر النسوة عليها من كل حدب وصوب . وفي أول مناسبة منها ، شهدت تلك الأسواق مقدم ( غفران ) وهي تدبّ بجسدها المرصوص على أرضها لأوّل مرّة .
بعد أن تهيأت إلى مغادرة المنزل ، قالت في دخيلتها : ” إن المناظر لا تبدو جميلة ، ومريحة للنفس ، إلّا وحقيبة اليد تضمّ مالاً وفيراً ، ويغطّي الجسد الملبس الثمين والجذّاب ” ، إلّا أنها أردفت معزّية نفسها ، لتقول : ” لنذهب ونتشمّم الهواء النقي ” .
تطلّعت ( غفران ) إلى نفسها مراراً في المرآة ، لتطمئن إلى عزمها ، ثم ارتوت من ماءٍ باردٍ ، وهمّت قدميها صوب الأسواق والمحال التجارية . سارت في حرّ الظهيرة والسموم اللافح ، محتمية بظلال الجدران ، تخطّت الساعة الرابعة عصراً ، وقت ليس فيه شيء غير الشمس المحرقة ، التي لم تزل حتّى الآن تتلظّى فوق المنازل والطرقات مباشرة .
دلفت إلى أوّل متجر ، وقد جذبتها واجهته العريضة ، الزاخرة بالمعروضات الجميلة ، والمبرقشة بالنمانم والمصابيح الملوّنة والرسوم الجميلة ؛ وهالها أن ترى هذا القدر الكبير من النساء ، اللواتي جئن يتفرّجن ، أو يبتاعنّ منه . جالت نظراتها الحازمة في رحاب المكان ، وتوقّفت ترمق النساء بعينين متوقّدتين ؛ وفكّرت بأن المدينة قد اتسعت حقّاً أثناء السنوات الماضية التي لم تخرج فيها من بين جدران البيت ، وازداد عدد النساء فيها على نحو عجيب . حين تطلّعت إلى كل تلك النساء ، لم تقع عيناها على واحدة من معارفها ، بدا لها ذلك الجمع الغفير غريباً عنها ! . حدّقت طويلاً من تحت حاجبيها الغاضبين ، وقد طفحت على وجهها مخايل الثقة الهادئة .
لم تفعل ( غفران ) في ذلك اليوم شيئاً ، فقط جاءت لأجل المشاهدة ، والترصّد ، وأن تتبين السبيل الآمن لما نوت القيام به . تحرّكت برشاقة بين جموع النساء ، الغافلات عمّا يحيط بهن ، والسارحات في تأمّل نماذج الملابس الحديثة . كان وجهها ممتلئاً ، ومدوّراً كامل التدوير ، من تلك الوجوه التي تصفها النسوة عادة بأنها تشبه صحون المطبخ ، وفوق ذلك كان هذا الوجه داكناً ، تشوبه سمرة يتخلّلها القليل من الاحمرار ، وما أن تلج إلى داخل المتجر ، يكون وجهها مبتلّاً بالعرق ، وعلى هذا النحو لم تكن طلعتها أليفة ، وكانت النظرات تشيح عنها ، لسبب أو آخر . لم يكن وجهها يوحي بشيء ، هكذا هي وجوه النساء السرّانيات ، اللائي يحرصن على إخفاء حقيقتهن . بهذا الوجه البارد في تقاطيعه ، والذي لا يرتسم على صفحته أي تعبير حسّي أو عاطفي ، يكون حضورها دائماً ؛ كانت تسيطر على ملامحها سيطرة كاملة ، بموهبة ليس من اليسير تقليدها . وفي واقع الأمر ، كان ذلك الأمر جزءاً ثابتاً من طباعها ، فلم تحاول طوال عمرها أن تكون موضع انتباه لأحد ، ولم تلفت الأنظار صوبها بأية وسيلة من الوسائل . كانت تدخل إلى الأماكن العامّة ، وهي قليلة جداً في حياتها ، وتخرج منها بثبات ، كما لو أنه لا يتواجد غيرها في ذلك المكان ! . في أعقاب ساعة من التطلّع والمعاينة ، وإنعام النظر ، وتسجيل الملاحظات الدقيقة في ذهنها ، عادت ( غفران ) أدراجها .
في يوم آخر ، ذهبت إلى متجر ( اليمامة ) الشهير ، الذي كان يبتلع جموعاً غفيرة من النساء حالما يشرّع أبوابه ، ومن هذا المتجر قرّ عزم ( غفران ) أن تنطلق في عملها . قصدت المكان بذلك القدر من الرجاء ، جاست عيناها في أركان المتجر ، وتابعت حركة النساء في لذعة حادّة من الحسد الجنوني ” هؤلاء جنس من البشر ، يتثاءبن طوال النهار ، بينما تتساقط النقود الوفيرة في أحضانهن ، من غير ضربة عصا ، ” هذا ما لمح في ذهنها آنئذٍ . كنّ جميعاً جذلات ، وجوههن طليقة ، وكن أكثر ألفة مع بعضهن البعض . إن الدخول إلى هذا المتجر ، بحدّ ذاته ، يشكّل غبطة عظيمة لهنّ . وفيما هي تطوف ببصرها ، خطف انتباهها مقدم فتاة بدينة ، بزي أزرق فاقع . حدّقت فيها لحظة ، وهتفت في دخيلتها تقول : ” هذا هو الطير الأزرق ، إذن حان وقت العمل ” . كانت الحقيبة الجلدية ، اليدوية ، التي تحملها تلك الفتاة على جنبها الأيسر ، منتفخة ، وكانت تقحم في أحد أصابعها محبس زواج بالغ الروعة ، وقد شدّت انتباه ( غفران ) إليها . وفي لجة الزحام ، لاحقتها ( غفران ) في يقظة وتنبّه . عثرت عليها وقد شرعت تنغمس في حديث مع امرأة أكبر منها سنّاً ؛ وحين اقتربت منهما ، تناهى لسمعها مبادرة الفتاة ، وهي تسأل تلك المرأة عن أسرار طبخ سمك الروبيان ، وفي الحال دفقت المرأة تفيض عليها بالشرح . كانت ضحكاتهن النضرة قد أشاعت المرح من حولهن ، فما كان من ( غفران ) إلّا وقد انتصبت بينهما ، في جرأة وفضول ، وهي تقول لهما : ــ جعلتاني أشتهي الروبيان ، وأتحرّق شوقاً لطبخه أيضاً . وفي حقيقة الأمر ، لم تكن ( غفران ) قد عرفت سمك الروبيان من قبل ، ولا تذوّقته بالمرّة . رحّبتا بها معاً . وأخذت تتحدّث معهن على نحو فضولي عجيب ، واندفعتا تستجيبان لحديثها بتلقائية ومودّة ظاهرة ، من غير أن توقظ في نفسيهما الريب والشكوك . شرعت تجاملهن بلسان ناعم ذلق ، دار بينهن حديث غامر عن الطعام والمطابخ . أحسّت بينهن بالانتعاش الفائق ، وإذ تفرقّن كل لوجهتها ، كانت ( غفران ) قد نجحت في إفراغ حقيبة الطير الأزرق مّما احتوته من نقود ، وخرجت مسرعة من المتجر ، من دون أن تترك خلفها أثراً ودليلاً ! .
كانت قد ظهرت بمظهر المرأة الطيبة ، العفوية ، الهادئة ، التي تتسربل بالوداعة والسكون ، ومن خلال أحاديثها تركت لدى المرأتين انطباعاً بأنها امرأة ساذجة لا تصلح لعمل شيء . ــ الله لا يهنئها ، ولا يوفقها . أطلقت ” الطير الأزرق ” حسرة ، وراحت تلوم نفسها : ــ عُمِيَتْ عيناي هاتان اللتان لم تحرسا حقيبتي . وقالت لها صديقتها تلك : ــ من يصدّق أن امرأة بليدة ، وفي مثل سنّها تفعل هذه الأفاعيل . هل سبق وإن حصل لك التعارف معها ؟ . ــ كلا ، هذه أوّل مرّة ألتقي مع هذه الشيطانة .
أسرعت ( غفران ) في خطواتها ، وهي تغذّ السير نحو منزلها ، وقد تخضّل وجهها بالعرق والذهول ، وطوال الطريق لم تستطع أن تخفي توتّرها واضطرابها . كان ذلك عمل انغمست فيه يدها لأل مرّة في حياتها ، وهو مخاطرة جسيمة ، كان من شأنها أن ترمي بتلك الحياة إلى مهاوي الفضيحة والزلل ، وتجعل سمعتها مشدودة بخيط واهٍ إلى مخاطر الصدف . كان أي تلكّؤٍ أو خطأ ، مهما كان بسيطاً ، كفيلاً بحدوث كارثة حقيقية لها . عندما عادت إلى منزلها ، ووقفت حيال بابه الخارجي ، أطلقت زفرة عميقة ، حارقة ؛ وبدأ المفتاح الذي تمسك بطرفه يدور في قفل الباب ، وهو يلمع لمعاناً فضيّاً خاطفاً ، وعندما سمعت صوت لسان ( الكيلون ) يرجع بقوّة ، أعاد هذا الصوت الأمان إليها وطمئنهاا ، فتمالكت روعها ، وهتفت بصوت مسموع : ــ الحمد لله .. الحمد لله . كانت تصيخ السمع لوجيب قلبها ، الذي يدفّ بين أضلاعها ، وجلست فور دخولها المنزل ، لكي تستكين قليلاً ، وهي فريسة للخوف والأوهام . عبرت في رأسها الكثير من الصور المرعبة ، التي لم تزل تتراءى لها ؛ ولكنها بين الفينة والأخرى كانت تنتزع من بين أفكارها افتراضاً أو لمحة تسكّن بها من روعها قليلاً ، وها هي ، بعد أن جلست في سريرها شرعت تقول ، كأنها تخاطب أحداً : ” لم أسرق من أحد . في ذلك المتجر النقود وفيرة ، وتفوق حاجة النسوة ، وكل ما فعلته أنني أخذت نصيبي الضئيل منها ، وأنا واثقة أنهن لا يلبثن أن يعوّضن ما يفقدنه في غاية اليسر “. نفسه
كانت الهموم تثقل كاهلها ، وهي تتصارع من غير توقّف . ولبضعة أيام ، لم تقرب يدها النقود وتلمسها ، وهي تنظر إليها بازدراء وتشمّ منها رائحة الجريمة .
كان النجاح الأول كافياً لتحطيم حاجز الخوف والتردّد ، وكان لتلك المغامرة السريعة الناجحة صدى في تعزيز الثقة في نفسها ، وتطمين روعها ، وجعلها تتألّق بالفخر ، والأمل بإطلالة فصل جديد في حياتها . بالنسبة لها ، كان ذلك اليوم يوماً ثأريّاً ، أفعم صدرها بالارتياح ، وإن كان قد بدا على ملامحها بعض الندم ، إلّا أنه سرعان ما انقشع عن سمائها مثل سحابة صيف عابرة ، وعاد الخاطر الذي كان قد حفّزها على العمل ، ينقر على جدران رأسها من جديد . ابتسمت ابتسامة ساخرة يشوبها الشر ، وهي تفكّر في خوض التجربة مرّة أخرى . وسرعان ما اتخذت قرارها بالعودة إلى الأسواق ثانية .
ᵜᵜᵜᵜᵜᵜ
كان وجهها المعتمّ يشي عن دخيلتها . بدأت حياتها الجديدة وهي تدور بين جموع النساء اللائي كن يختلفن إلى المتاجر والمحال في أوقات الصباح ، وما بعد الظهيرة . ولأن أبدت ، بعض الأحيان بطئاً في تنفيذ عملها بادئ الأمر ، إلّا أنها أصبحت قادرة على النشل بخفّة ، وسرعة خاطفة ، وبمهارة لا تجعل أحداً يدرك ما تفعله ، أو تتيح للعيون رصدها .
لم يكن لأقدامها وقعاً على الأرض ، ولم يكن لملابسها حفيفاً أو قرقعة تذكر ؛ كانت تسير خلف النساء مثل الهواء ، وربما كانت هواء لا غير . ومع مرور الوقت لم تعد الجموع ، ولا الأضواء المنيرة تخيفها ، بل إن براعتها ، وسرعتها في التنفيذ يجعلانها تتستّر بتلك الجموع ، وتخفي فعلتها بين الأضواء الساطعة . كانت نظراتها متحديّة ، وساخطة ، حينما تظهر على أبواب المتاجر التي تضيئها عشرات المصابيح ، يغالبها شعور غريب ، وغاضب حول قذارة هذا العالم وظلمه ، وتروح تدور من محل إلى آخر كمن فُقِدَ منها شيئاً ، وهي تبحث عن المرأة المناسبة ، ويا ويل من تقع بين براثنها ! . تدور مقلتيها شطر النساء وحسب ، وهي تلزم الصمت المطبق ، وثوبها البنفسجي الغامق يضفي على سمارها الداكن ظلالاً غير مريحة ، وتبقى في إطار مظهرها ، وصمتها ، وسكونها شيئاً لا يثير الانتباه ، أو يشغل بال أحد . كانت تأتي من خلف الصفوف ، وتقتحم الزحام وتندسّ وسط جمع من الفتيات المتبرّجات ، الساهيات ، وما تلبث أن تخرج بصحبة الشيطان ، وقد نالت نصيبها ؛ مخلّفة الهمهمات الحائرة ، التي تماثل النقيق ، خلفها ، وقد عكّرت بهجة المساء . كانت تحمل في يدها منديلاً كبيراً ، لتزيل عرقها الغزير ، كما تستغله للتغطية على سرقاتها في أغلب الأحيان .
تمتّعت ( غفران ) بقدرة عجيبة على أن تبقي أصابعها في حالة مرنة ، ومسترخية ، تعمل بخفّة ورشاقة ؛ وكانت يتهيأ لها أثناء مغامراتها في حرّ الصيف اللافح ، عندما تغطس أناملها في حقيبة مليئة بالنقود ، فكأنما هي تغطس في إناء ماء بارد ، سرعان ما يعقبها تصاعد البرودة إلى حنايا صدرها. اعتادت عيناها على رصد كل شيء من أكثر من زاوية ، فكانت تلك العينان أكثر دقّة من كاميرات المراقبة التي ترصد كل زاوية وجهة في المتاجر . وحتّى عندما تمعن في نظرتها من زاوية محدّدة ، فإنما هي تخترق السطح وتعاين الأعماق أيضاً . ومع مرور الزمن ، باتت تمتلك موهبة التصرّف الناجح في أقصى سرعة ، لمحاولة التغلّب على الوقت بمهارة ، وثقة لأنها تجد نفسها حيال لحظة واحدة .. لحظة ينبغي أن تستغل مرورها بأقصى ما لديها من خفّة وفنون .. في تلك اللحظة التي تكون فيها حقيبة الزبونة لم تزل مفتوحة على سعتها ، وهي تمدّ يدها ، لتسلّم إلى البائع ثمن مشترياتها . كانت ( غفران ) تنقضّ على ما في جوف الحقيبة ، وتختفي عن الأنظار ، وهي متشبّثة بما وفّره لها الحظ من نصيب . وفي أحد المرّات ، وقفت بعيداً لتعاين النقود التي نشتلها من إحداهن ، فإذا بها رزمة من وصفات دواء لا غير ، فتبسّمت في سخرية ، ورمت بها بين الأقدام ؛ أحياناً يعاندها الحظ ، وكم من النساء فلتن من قبضتها .
من الصعب جداً معرفة كيف واتتها الشجاعة والجرأة ، وكيف سوّغت لها نفسها لتفعل ذلك بجسارة وإقدام ، ومن دون أن تقع صيداّ لتبكيت الضمير . كانت تعود إلى منزلها دائماً وقد اعتلت شفتيها ابتسامة الظفر ؛ وهكذا أصبحت في نظر ابنتها كما لو أنها سفينة جنحت وغيّرت مسار رحلتها .
ᵜᵜᵜᵜᵜᵜ
لم تعد مشاعر الغيرة تخالط أفكارها . صارت تسرف هي الأخرى في اقتناء الثياب والأثاث المنزلي ، منافسة جميع صديقاتها ، وكانت ابنتها تظهر بأبهى الحلل ، وهي تتوجّه إلى مدرستها . حين تقصد المحال التجارية لغرض النشل ، كان ينتابها السرور ، وكأنها ذاهبة إلى حديقة للترويح عن النفس ، ونفض الهموم بعيداً عنها . تقصدها متجوّلة بكل لؤم ونذالة ، لا ينال منها الكلال . مع مرور الأيام ، باتت امرأة محترفة ، لا يطرف لها جفن ، وهي تقدم على عمل خطير كهذا . تعود لتغير على المتاجر بوجه صلف ، من غير تردّد أو نكوص . حين تتأهّب للذهاب إلى عملها ، ما فتأت تفكّر تفكيراً مرحاً ، بأنها ذاهبة لجلب حصتها من الأموال ، بهذا الخاطر الإنتهاكي صارت ترتاد المتاجر والأسواق ، لا يرعبها شيء ، ولا يردعها رادع ، كانت سعيدة ، وشعلة الحماس تتأجّج في صدرها . لم يدركها الملل ولا الكلل ، كانت تنظّف المنزل ، وتطبخ ، وتنهب في آن واحد . وعلى الرغم من تكرار جولاتها ، إلّا أنها لا تطيل التسكّع في تلك الأماكن ، لم تزل متشبّثة بالحذر والانتباه ، وهذا ركن أساس من أركان عملها . كانت تدخل إلى المتجر ، ثم ما تلبث أن تتوارى في لمحة عين ، كأنها شبح من الأشباح .
لاحت ( غفران ) أفضل حالاً في الثياب والفساتين الحديثة ، التي بدأت باقتنائها . وأمضت شهور فصل الصيف ، في رفاهية وسعة ، إلى الحدّ الذي أصاب جميع صديقاتها بالدهشة ، وألجم أفواههن بالحيرة . إلّا إنها كانت تسارع لتقول لهن ، وملامح وجهها المُراوَغة لا تبدي أي شكّ وريبة : ــ أن هذه الخيرات من أفضال شقيقتي الصغرى . تبتسم باسترخاء ، وتشعر برغبة ممعنة للتحدّث عن الحلي والثياب . وأخذت تسرّي عن نفسها ، وعن ابنتها ، ونفسها تهفو لامتلاك كل ما هو جميل . لم تعد ( غفران ) كما كانت ، بل صارت امرأة أخرى .. امرأة تهوى الحياة وتقبل عليها بلهفة ، تتوق إلى التمتّع بكل ألوان الهناءات . ولاح وجهها ، لأنظار صديقاتها ، أكثر إشراقا ، مكتسياً بالسناء البهي ، ومن غير أن يتسرّب إلى نفوسهن الشك والريب .
ولأول مرّة في هذا الصيف ، أمست تتنعّم بقيلولة عميقة ، مسترخية تمام الاسترخاء ، وهي تستمتع بالهواء المبرّد . فما أن تتناول غداءها حتّى تبدأ بالتثاؤب ، وتخلد سريعاً إلى النوم ، وتبقى غافية حتّى الوقت الذي لا ينبغي أن تكون نائمة فيه . وكانت أثناء ذلك تسترجع كل حكايات زوجها الراحل ، الذي كان يسرد على سمعها كثيراً من المتاعب التي تعترض عمله كل يوم في متجر الملابس ، وكان يخصّ بالذكر أؤلئك النفر من النساء السيئات ، اللواتي يجئن لأجل السرقة وحسب ، حيث كن يمثّلن مشكلة جسيمة تهدّد عمل المتجر . حدّثها مليّاً عن هؤلاء النسوة الشقيّات ، وقصّ عليها قصصاً طريفة عنهن ، غير أن الفقر الذي كانت عليه ، جعلها لا تبالي بتلك الحكايات ، وتوليها اهتمامها . ولكنها اليوم ، وهي تسترسل في مغامراتها ، جعلها تتذكّر جيداً مقولة لزوجها ” إن المرأة التي تسرق في المتجر أكثر من مرّة يسهل اكتشافها من قبل الزبونات أنفسهن ، في المرّات الأخرى القادمة “. كانت تلك المقولة أشبه بالتحذير ، والنصيحة أيضاً ، ولهذا جعلتها نصب عينيها ، وراحت تتسربل بغلالات الحذر ، وتحترس كثيراً أثناء تردّدها على أي مكان ، بل إنها وجدت أن المبالغ التي حصلت عليها يمكن أن تكفيها حتّى نهاية فصل الشتاء القادم .
في أعقاب عملها ، الذي بدأته في فصل الصيف ، آثرت أن تعود إلى الاعتكاف ثانية مع ابتداء موسم الشتاء ، وهي تفكّر بأن زوجها ثامر كان يقول لها أشياءَ ذات قيمة عالية . هذه أول مرّة تجد فيها نفسها تُذعن لوصايا ذلك الرجل الراحل ، خصوصاً وأن ابنتها ، التي كانت تتوجّس الخيفة ، وتخشى على أمها ، باتت تلحّ عليها بالتروّي ، والتوقّف عن الخروج إلى الأسواق ، بعد أن صار في حوزتهما ما يكفيهما من المال .
فكّرت ( غفران ) في الأمر مليّاً ، ووجدت نفسها ، توافق رأي ابنتها ، في النهاية ، ورأت أن من المناسب لها أن تقرّ في بيتها وتلزمه أثناء موسم الشتاء الطويل . وذات مرّة ، نهضت إلى خزانة ثيابها ، وأخرجت منها صندوقاً صغيراً ، أودعت فيه ما تدّخره من مال ، وشرعت في عدّه على مهل ، كان المبلغ وفيراً بحق . وما أن أتت على حسابه ، مكثت شاخصة في هذا الصندوق حتّى سرت في أوصالها رعشة ، وما لبثت أن انخرطت جاهشة في البكاء من أعماق ما في أنوثتها من رقّة المشاعر ورهافتها .. بكت من غير أن تدرك سبباً لهذا البكاء ! . ولا عجب إن خاطبت ابنتها ببعض كلمات الأسرار ، وهي تخبرها قائلة : ـ هنالك شهور عديدة قبل انتهاء الشتاء ، وطوال هذه الشهور ، سوف يتبدّل حال الأسواق والمتاجر كثيراً ، بل ويتغيّر عدد كبير من الزبونات أيضاً ، لننتظر ونرى ، إذا ما كانت الأيام الآتية طيبة سأذهب بكل تأكيد ، فما مقام تلك المتاجر إن لم أذهب إليها ؟ .