سيد الجمال
جونتيشيرو تانيزاكي
محمود يعقوب
[ إذا كان لديكِ قلب ، أبقيني بعيداً .. بعيداً عن غبار الدنيا ] .
جونتشيرو تانيزاكي ( ١٨٨٦ ـ ١٩٦٥ ) ، من عمالقة الأدب الياباني الحديث . تمّ ترشيحه لنيل جائزة نوبل للآداب سبع مرّات . ممثّل رئيسي للمدرسة الجمالية والأدب الجمالي في اليابان ؛ والمترجم الحديث للسفر الياباني الخالد ” حكاية جينجي ” ، ومبدع أعمال تمثيلية شهيرة ، مثل : ” رقائق الثلج ” ، و ” الوشم ” ، و ” المفتاح ” ، ” الشيطان ” ، و” حزن الزنديق ” ، و ” نعومي ” ، والكثير غيرها . كانت حياته انطلاقة وراء الفن ، وحتّى زواجه ، وحبّه كانا مكرّسين للسعي النهائي للفن . ويتميّز بقدرته على اكتشاف الأسرار الخفية في الحياة اليومية التافهة . وفي عملية الاكتشاف هذه استخدم الحواس البدائية بدلاّ من التفكير العقلاني . وكتب تانيزاكي يقول : ” إن القبح جميل ، والظل جميل ، والحواس والجسد جميلان ” ؛ و ” كل الأشياء الجميلة قوية ، والأشياء القبيحة ضعيفة ” . لا تزال هذه الأفكار تبدو متمرّدة ورائدة .
طوّر تانيزاكي أسلوباً جمالياً فريداً ، دمّر من خلاله المعايير الجمالية ، والأخلاقية الراسخة ، وخلق عالماً فريداً للفن ، فهو لا يخفي الجنس والقوة في مجال اللاوعي على الإطلاق . وكان يعبد النساء ، ويقدّر التحفيز الجنسي ، وراح يُعرف باسم ” بودلير اليابان ” . في الفترة الأولى من حياته احترم الجماليات الغربية ، وفي الفترة الوسطى دافع عن الرومانسية الجديدة ، وفي الفترة اللاحقة عاد إلى الكلاسيكية . يُنسب إليه قوله : ” عندما يفكّر عقلي في الفن ، أشتاق إلى جمال الشيطان ، وعندما تنظر عيني إلى الحياة ، يهدّدني جرس إنذار الإنسانية .. ” .
في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية ، شهد الأدب الياباني صعوداً كبيراً ، وحظي بإقبال ملموس من قبل القرّاء من جميع أنحاء العالم ، كما بات يمثّل اتجاهاً في عدد من البلدان الآسيوية المجاورة ، كالصين وكوريا . ومقارنة بكتّاب يابانيين مشهورين ، من أمثال ياسوناري كاواباتا ، ويوكيو ميشيما ، كان جونتشيرو تانيزاكي غير مألوف للقرّاء في الكثير من بلدان العالم ، ولكن مع التطوّر المتعمّق في دراسة الأدب الياباني في العقود الأخيرة ، أدى إلى نتائج مؤثرة ، ومع التركيز بشكل أساسي على الترجمة ، والفكر الجمالي ، والموضوعات النسائية ، والتقنيات الفنية ، وما إلى ذلك ، تبلّورت صورة الفنّان الجمالي الكبير جونتشيرو تانيزاكي كأحد أساطين الثقافة والفن الحديث .
لا يمكن فصل تجارب حياته عن إبداعه الأدبي ، سواء كان مهووساً بإظهار الجمال الجنسي في عالم منحرف وغريب ، في أيامه الأولى ، أو كان متأثّراً بعادات كانساي ، وافتقاده لوالدته في سنواته الأخيرة التي عاد فيها أدراجه لعبادة الجمال التقليدي ، فإن إبداعاته كلها تدور حوله .. حول صورة المرأة وعبادتها ، ووفق خيالاته الحسّية المتوثّبة .
ᵜᵜᵜᵜᵜᵜ
في أواخر القرن التاسع عشر ، عصر ميجي في اليابان ، تسيّد المذهب الطبيعي المشهد الأدبي والثقافي العام في البلاد . وهو نوع مهم من الأدب الياباني الحديث ، يشير إلى إبداعات مجموعة من الكتّاب ظهروا في ” الحركة الأدبية الطبيعية ” ، وخاصة في مجال السرد القصصي والروائي ؛ ومن بينهم شيمازاكي فوجيمورا ، وتاياماهانا بوكورو ، وتوكودا أكيو ، وإيوانو أومورا ، وماساموني شيراتوري وآخرين . والأدب الطبيعي الياباني هو أدب جديد ، ظهر استجابة للواقعية ، وساد في أواخر عهد ميجي ، وشكّل التكوين الأساسي للأدب الياباني الحديث . تمّ إنشاء هذا المذهب الأدبي في اليابان ، بفضل أفكار المدرسة الطبيعية في الغرب ، التي روّجت لها أعمال بعض الأدباء الغربيين ، وعلى رأسهم الروائي الفرنسي إميل زولا (١٨٤٠ـ ١٩٠٢ ). ويربط كتّاب هذه المدرسة الأحداث والشخصيات بالطبيعة لا بأشياء خارقة ، أو أسباب إلهية ، وهم يحملون إيماناً بقوى العقل والملاحظة الموضوعية . وفي اليابان دعا هؤلاء الأدباء إلى التخلّص من كل المُثُل العليا وكتابة ” الواقع ” بموضوعية ووفقاً لما هي عليه الأمور ، ويجب ” اكتشاف الواقع ” ” بدون باطل ” ، ” اتركْ كل نفاق ، انسْ كل ادعاء ، وحدّقْ بشكل مؤلم في واقعك ” .
في فجر القرن العشرين ، باتت سياسة اليابان منفتحة تماماً على الغرب ، ولاح كما لو أنها تودّع الشرق وتراثه العريق . وواكب ذلك وفود الكثير من المذاهب ، والأفكار التجريبية الحداثوية في الفن والأدب ، التي وجدت لها مرتعاً في البيئة الثقافية اليابانية الخصبة ، وبدأت تظهر العديد من المؤلفات الأدبية التي تحمل نكهة التغريب وآثارها ؛ وفي خضم هذا التجاذب ، والتنوّع الثقافي ، بدأت ملامح مذهب جديد آخر تتبلّور في الأفق ، ويستقطب نحوه كتّاباً بارزين ، وهوى الكثير من القرّاء ، ألا وهو المذهب الجمالي الحديث .
يعارض الأدب الجمالي الياباني المذهب الطبيعي ، ويدافع عن سيادة الفن ، ويسعى إلى الانغماس في الجمال الذي يمكن إدراكه عن طريق الحواس البشرية ، ولا ينطوي على أي عوامل أخرى مثل الأخلاق والأعراف الدينية ، وغالباً ما يفيض بالعادات الغريبة ، وعبادة الجمال الأنثوي . وقد هزّت موجة أدب الجمال المكانة المهيمنة للأدب الطبيعي ، في إطار الثقافة اليابانية ، في العقود الأولى من القرن العشرين . وعلى الرغم من كونه لم يستمر سوى لفترة قصيرة ، إلّا أن مفاهيمه الجمالية ، وتقنياته الإبداعية أثّرت بعمق على الإبداع الأدبي الياباني . وقد كُتِبَ له أن يتطوّر سريعاً ، مستمدّاً دم الحياة من الأدب الجمالي الغربي ، بعد أن استلهم اليابانيون أفكار كانط ، وشوبنهاور الجمالية . وقد نشأت الجمالية في إنجلترا ، وغيرها من الدول الأوربية ، كردّ فعل من الفنّانين ، ومقاومتهم للمجتمع ، وصيانتهم ، وحبّهم للفن . وانطلقت الجمالية من أفكار الفيلسوف ايمانويل كانط ، التي ترى أن الأنشطة الجمالية البحتة هي عملية تأمّل لا تنطوي على الواقع والقيمة العملية الموضوعية والأخلاقية لموضوع التقدير . تسعى الجمالية إلى استكشاف الجمال وتحقيقه ، وتدعو إلى اكتشاف الجمال من القبح والغرابة ؛ ويعتبر الكاتب أوسكار وايلد من أنصارها وممارسيها المتعصّبين .
في نهاية القرن التاسع عشر ، وأوائل القرن العشرين اتخذ الفنّانون الغربيون شعارهم الشهير ( الفن من أجل الفن ) ، مّما أدى إلى وصول الحركة الجمالية إلى ذروتها . وفي هذه الفترة أيضاً ، تبلّورت العديد من المذاهب التي عارضت الطبيعية والواقعية ، مثل المدرسة الجمالية ، والتصوّف ، ومذهب المتعة ؛ وقد تمّ الترويج لهذه المذاهب الأدبية الجديدة على نطاق واسع ، وكان لها في النهاية بالغ الأثر على عالم الأدب الياباني الحديث ، وبزوغ نجم الحركة الجمالية . وكان هذا الإشراق الجمالي قد تساوق إلى حدّ كبير مع الرومانسية اليابانية في الإبداع ، وأدى إلى تبلّوره ، بحيث أصبح اتجاهاً سائداً في الأوساط الأدبية .
عارضت المدرسة الجمالية أنصار المذهب الطبيعي الذي يمثّله شيمازاكي فوجيمورا والآخرون ، واعتقد أقطاب المدرسة أن الأدب الطبيعي يكشف الكثير عن قبح الطبيعة البشرية ، ولا يعكس السعي وراء الجمال الحسّي . يدعو الأدب الطبيعي إلى التحليل الموضوعي ، والهادئ للحياة والأشياء المحيطة ، بينما يتخلّى كتّاب الجمالية عن واقع الحياة والتاريخ الاجتماعي في إبداعاتهم ، ويتّبعون الجمال ، ويشيدون بجرأة بالمتع الحسّية ، وتحرّر الحب ، والحرية الفردية . ومع ذلك ، يرى العديد من الأكاديميين أن الجوهر الروحي ، والجذور الأيدلوجية لا تزال متّسقة مع الأدب الطبيعي ! . إن الطرح الأدبي لهذه المدرسة هو الخيال وليس الواقعية ، والسعي وراء القيم الجمالية وليس القيم الأخلاقية ، على الرغم من أن فكرة الجمال فكرة مراوغة بطبيعتها ، والأحكام الجمالية في نفس الوقت ذاتية . إنهم يعتقدون أن الغرض من الأدب والفن هو توفير المتعة الحسّية والجمال ، ولا ينبغي له أن يخضع لقيود المجتمع والأخلاق . فنانو الأدب الجمالي لديهم فكرة سلبية عن الهروب من الحياة الواقعية ، يخلقون ملاذاً روحيّاً من وجهات نظر متعدّدة ، مثل العواطف ، والأفكار ، والأجواء في إبداعاتهم ، فهم يعتبرون الاستمتاع المنحطّ هدفاً للهروب الروحي . ويستخدمون المتعة الحسّية لكسر أغلال الروح ، واعتبار الفرح والحب الحسّيين هو السعي الوحيد في الحياة ، والإشادة بالإيقاع الجسدي للمرأة الساحرة ، مّما يجعلها تتدهّور تدريجياً ، وتقع في دوّامة التحفيز الحسّي .
تحت تأثير القِيَم والنظرة المنحطّة للحياة ، يفتقر هذا النوع الأدبي إلى المسؤولية الاجتماعية الجادة ، والرعاية الإنسانية ، ويفصل من جانب واحد العلاقة بين الفن والمجتمع والحياة ، ويطلق الوحدة في القلب باسم الفن . يمكن للروح أن تحصل على نوع من الراحة من خلال السعي وراء الجمال ، لكن هذا لا يمكن أن يجلب لهم الراحة الروحية ، كما أنه يجعل من المستحيل على مبدعي الأدب الجمالي أن يشيروا إلى الاتجاه الفنّي الصحيح ، لذلك لم يدم هذا الأدب طويلاً . وغالباً ما سعى مبدعو أدب الجمال المتأخّرون إلى الإفراط في استخدام المحفّزات الحسّية ، من دون النظر إلى المفاهيم الأخلاقية السائدة . وهي أعمال جمالية تبحث عن التحفيز الحسّي في ” الشر ” و ” القبح ” ، وغارقة بالمؤثرات الجنسية المكشوفة ، مع المفاهيم الجمالية الميتافيزيقية ، والمساعي الفنية الأكثر سطحية ، وفقدت العمق الذي تتمتّع به الأعمال الأدبية الجادة . وعلى العكس من ذلك تماماً ، ترى بعض الدراسات الأدبية إن الأدب الجمالي قدّم أسلوباً أدبياً أكثر جمالية وتعبيراً من الأدب الطبيعي الياباني ، خاصّة من حيث الوعي الجمالي ، والاهتمام ، والشكل الفني ، والتقنيات . وكان الأدب الجمالي أكثر سخونة من الأدب الطبيعي الذي يدعو إلى الوصف السطحي ، والوصف الصريح ، وليس له مُثُل ، ولا يبحث عن حلول ، ويسجّل الحياة اليومية العادية والتافهة . لقد أثرى الأدب الجمالي الأدب الياباني الحديث ، وأكمل السعي وراء الجمال الحسّي الذي كان مفقوداً في الأدب الطبيعي . وعلى الرغم من أن عالم الأدب الجمالي المزدهر لم يدم طويلاً ، إلّا أنه كان يتمتّع بتأثير عميق في الإبداع الأدبي اللاحق ، وانعكس ذلك ، في صورة جليّة ، في إبداعات كتّاب يابانيين مرموقين من أمثال ياسوناري كواباتا ، ويوكيو ميشيما .
قدّم الأدب الجمالي ملاذاً لكثير من الفنّانين ، الذين كانوا تحت وطأة أجواء اجتماعية مظلمة وكئيبة ، في ذلك الوقت ، للهروب من الواقع ؛ ومن منظور ” الفن من أجل الفن ” اعتقد أدب الجمال وممارسو الفن أن الجمال الفني ليس كذلك فقط لا علاقة له بالحياة ، بل على العكس من ذلك . وفوق كل شيء آخر ، يريدون استخدام جمال الفن لمواجهة القبح في الواقع المبتذل . ومن ناحية أخرى ، تأليه وإثراء الصور الأنثوية ، وتعزيز الوعي الأنثوي . وقد تطوّر الأسلوب الجمالي في العقود المتأخرة ليصبح جزءاً من أسلوب عمل في الثقافة الشعبية اليابانية ، معبّراً بشكل أساسي عن المشاعر الجمالية ، لا سيّما بعد انتشار العلاقات المثلية وشرعنتها في المجتمعات الغربية ، ومن يدور في فلك ثقافتها .
ᵜᵜᵜᵜᵜᵜ
غالباً ما تبدو النساء اليابانيات في الأدب الياباني التقليدي ومعظم الروايات الرومانسية متحفّظات ، وسلبيات ، ولطيفات ، ومتجاوبات ، وهو أمر رتيب . علاوة على ذلك لعبت المرأة اليابانية ، دائماً ، دوراً ضعيفاً في هذه الأعمال الأدبية ؛ حيث تُعرَض أمام أنظار القرّاء على أنها ” طيور صغيرة تتشبّث بالناس ” ، ذات طبيعة تابعة قوية . ومع ذلك ، في الأدب الجمالي تغيّرت صورة المرأة التي ابتكرها الكتّاب ؛ فخلال سعيهم وراء المتعة الحسّية ، ألّه هؤلاء الكتّاب جمال الأنثى ، وأكّدوا تفوّق المرأة ، واحتقروا المفهوم الإقطاعي المتمثّـل في تفوّق الذكور . وممثّـل تأليه الأنثى في الأدب الجمالي الياباني هو سيد الجمال جونتشيرو تانيزاكي ، الذي كان دائماً عنيداً في إظهار سيادة الجمال الأنثوي ، ويصرّ على السعي المرَضي للجمال ، وينغمس في عناد الرجال تجاه العجز الجنسي من جمال الأنثى .
كان جونتشيرو تانيزاكي أكثر سعياً وراء الجمال من غيره من كتّاب الجمالية اليابانية ، من أمثال ناجاي كاريكازي ( ١٨٧٩ ـ ١٩٥٩ ) .ولم يجد صعوبة في مناقشة الخلفية الاجتماعية لنهاية القرن التاسع عشر ، ويعتقد أن ” كل جميل قوي ، وكل قبيح ضعيف ” . اتبعت أعماله المبكّرة متعة السادية والماسوشية ، وأظهرت جمال المرأة في قسوة الجسد ، وعارضت قمع الحب والجنس بالأخلاق الإقطاعية ، وسعى إلى حرّية الحب ، وأخذ على عاتقه تحرير الذات والإنسان ، والولاء المطلق للجمال الأنثوي والجمال الحسّي ، والكثير مّما كتب يبحث عن الجمال في أقسى القبح ، لذلك تعرف كتاباته وأفكاره بـ ” الشيطانية ” .
نشر تانيزاكي عام ١٩١٠ قصته الطويلة ( وشم ) ، التي ترجمت فيما بعد بعنوان ( الوشم ) ، وله من العمر ٢٤ سنة ، وقد أودعها مجمل نظرته الجمالية : ” كل جميل قوي ” و ” كل قبيح ضعيف ، و ” الجمال الجسدي للمرأة هو رمز القوة في عالمه ، بينما الرجال مثيرون للشفقة ، وعاجزون حيال جمال النساء القوي ، إنهم على استعداد للتخلّي عن كل شيء ، وليس لديهم كرامة أو ذات ، ويصبحون عبيداً للجمال ؛ وهذا يثبت حجّة تانيزاكي بأن الجمال رمز القوّة . إن الجمال الذي يصفه تانيزاكي على نطاق واسع ، ويتابعه في أعماله ، يشبه السعي الروحي الديني ، ومن خصائص كليهما أنهما يمكن أن يكونا قريبين إلى ما لا نهاية ، ولكن لا يمكن الحصول عليهما . إن عبادة تانيزاكي للنساء هي عبادة لمفهومه الخيالي عن الجمال الأنثوي . وفي نظره لا تمثّل المرأة نوعاً معيّناً من الناس ، بل تصبح مفهوماً ” للجمال ” . وبعد أن انتهى سعيه وراء الجمال بالعديد من الإخفاقات ، أخبرته النهاية أنه لا يمكن الحصول عليه ، فأصبحت النساء اللواتي كتب عنهن وجمالياته الفريدة شيئاً معقّداً ..
تمثّل أعمال تانيزاكي الجمالية نموذجاً حيّاً لهذه المدرسة ، وهو يتخلّى عن الجانب الروحي النبيل للعلاقة بين الرجل والمرأة ، ويبرز فقط الجانب الجميل من الشعور . إن إبداعات تانيزاكي يابانية للغاية ، ويسمح للقرّاء ، لا سيّما القرّاء الأجانب ، رؤية أشياء يابانية خالصة ، وهي ميزة من مميّزات أدبه . إنه يكتب ، في المقام الأول لشعب حسّاس جداً ، وممعن في هوسه بالجمال .. شعب يذرف الدموع حالما يعجب بالزهور . أدبه في الواقع ، محاولات مستمرّة لتجريد البيئات الخارجية المختلفة من أجل استخلاص ما يعتبره أنقى الجمال ، أي الجمال المطلق . وأعماله الأدبية ، في نظر الدارسين ، ليس لها أية فائدة اجتماعية ، والمعيار الوحيد للحكم على أعماله هو الجمال ، أعماله لها قيمة جمالية فقط . ومن أجل تحقيق هذا الهدف ، لم يتردّد في استخدام وسائل جذرية مختلفة للقضاء على كل شيء آخر ؛ وهناك فوارق بينه وبين كتّاب آخرين مثل ميشيما يوكيو ، في البحث عن الجمال على طريق السعي وراءه .
يُقال أنه عندما كان جونتشيرو تانيزاكي على قيد الحياة ، كانت المجلات التي نشرت رواياته غالباً ما يتم منعها من النشر ، لأن المحتوى والرسوم التوضيحية كانت فاضحة . وحتّى ترجمته لرواية ( حكاية جينجي ) من اللغة اليابانية القديمة إلى اللغة الحديثة ، خلال الحرب ، تعرّضت أيضاً لانتقادات لكونها ” غير محترمة لجلالة الإمبراطور ” ، وقد اضطرّ إلى حذف بعض محتوياتها مسبقاً . وتمّ حظر روايته الأكثر تمثيلاً ( رقائق الثلج ) ١٩٤٣ ـ ١٩٤٨من النشر بسبب المحتوى غير المحكم ، الذي تمّ كتابته أثناء فترة الطوارئ في البلاد . وبعد الحرب ، أثار فيلمه ( المفتاح ) ، المأخوذ من روايته التي تحمل نفس العنوان نُشرت عام ١٩٥٦، والذي يصوّر بشكل سافر الرغبات الجنسية المنحرفة لرجل عجوز مجنون ، جدلاً عميقاً في البرلمان الياباني آنئذٍ ، وجرى نقاش محتدم حول ما إذا كانت كتابات تانيزاكي ” فن أم فحش ؟ ” .
كتابات جونتشيرو تانيزاكي مليئة بالذكاء ، وتعكس أعماله التمثيلية بشكل كامل مفاهيمه الإبداعية والجمالية ، وكانت أعماله اللاحقة ، مثل ( المفتاح ) ، و ( مذكرات رجل عجوز مجنون ) ١٩٦٥ ، استكشاف عميق لخفايا علم النفس الجنسي البشري . كان يسعى إلى التجديد والإثارة ، والمرأة في أعماله قابلة للتغيير دائماً ، وهو يسعى جاهداً لخلق نساء متمرّدات ، وتظهر حرّية المرأة وتحرّرها جلية في كتاباته . ومن أجل الفن يظل تانيزاكي يبحث دائماً عن امرأة جديدة تكون منبعاً للإلهام الفني ، لأن العيش مع زوجة فترة طويلة يحوّلها ، وفق نظرته ، إلى امرأة عادية أكثر بكثير من زوجها ” معظم حياتي مكرّسة بالكامل لفنّي ، زواجي يهدف في النهاية إلى تعميق فنّي بشكل أفضل ” .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقال جزء من دراسة موسّعة بنفس العنوان .