نساء الممّلحة

نساء الممّلحة

قصة قصيرة ــ محمود يعقوب

 

ثمّة دافع غريب قادنا إلى هذا المكان الريفي ، الشاق ، والشحيح ، الذي يجاور مدينة    ” الغرّاف “. في الواقع ، لا يجد الإنسان عسراً في تفهّم جملة الأسباب التي تحدو بعض الناس إلى حمل عصا الترحال ، والذهاب إلى أماكن أخرى ، مثل هذا المكان ، كما يروق لهم ، أو لا يروق  .

   على امتداد الطريق المعبّد الرئيس ، الذي يترامى في مواجهة مدينة ” الغرّاف ” الصغيرة ، والذي يمرّ من الشمال إلى الجنوب ، ليربط عدداً من المدن الأخرى ؛ هنالك شريط من المياه الراكدة ، المتخلّفة عن الأمطار الغزيرة ، وعن مياه البزل . تتجمّع هذه المياه لتشكّل ما يشبه الشطوط الضحلة طوال الفصل البارد من السنة ، ثمّ تبدأ تنشف على مهل مع مقدم الصيف ، لتكشف ، في آخر الأمر ، عن طبقات من الملح الأبيض الأجاج . صار يُعْرَف هذا المكان ، الذي يمتدّ في موازاة الطريق ، باسم ” ممّلحة الغرّاف ” مع مرور الوقت . وليس بعيداً عنه ، استقرّ بنا المقام ، بعد أن كان الزمان يدحرجنا ، مثل علب فارغة ملقاة في العراء ، من محل لآخر . إن رغبة الإنسان الجامحة في الحياة ، هي التي تدفع به عبر البلدان والأماكن ، بحثاً عن لقمة العيش والأمان ، وكنّا نعي جيداً بأن الفقر يمكن أن يقتادنا إلى أي مكان .

   ثلاث نساء ، يتقدّمن في حذر ، وفي أعقابهن صبي يتسلّح بعصا طويلة ، يشقّون طريقهم في صعيد أرض بور واسعة ، خالية من أي شيء ، ما خلا طبقة سميكة من السباخ كانت تعلوها ، وهي تمتدّ حتّى الأفق ؛ كانت طبقة السباخ تلك أشبه بطبقة من الجرب . تمرّ عبر الأرض ساقية قديمة شديدة الالتواء ، باتت جافّة من الماء تقريباً ، وإلى جوارها ، انتهى بنا المطاف .

   في ذلك المكان القفر ، شرعنا ، حال وصولنا إليه ، بجمع العَرد والأشواك ، وربطها على هيأة حزم كبيرة ، ورصفناها لتحيط بنا من كل جانب ، ونحن نصنع ما يشبه المخيّم الصغير الذي يحمينا .

   ثلاث نساء كنّ برفقتي ، أمي ، وخالتي ( رابحة ) ، وشقيقتي الكبرى ( صفية ) . لم يكن بصحبتنا رجال ، ذلك لأن والدي مات ، بينما كانت خالتي مترمّلة منذ زمن طويل . ما أن ارتاحت النساء ، وهدأت خواطرهن ، نهضن من نومهن ، في غرّة فجر اليوم الثالث ، وشرعن يقلبن تراب الأرض ، بهمّة تفوق همم الرجال . كانت ( صفية ) تنقل إليهن الماء من ضحضاح الساقية ، ويخلطن التراب مع الماء في مهارة ، ثم يشرعن يدوفنه بأقدامهن الرقيقة ، حتّى يستحيل إلى طين لزج ، ورحن يبنين لنا داراً في تلك الأصقاع .

   كانت هذه الأرض خالية من البيوت والناس ، وتحوّلت عنها الأنظار إلى أماكن أخرى ، على الرغم من كونها فسيحة ، ولا تبعد كثيراً عن المدينة . ولكن كان ينتصب فيها كوخ صغير ، أقيم قرب الساقية أيضاً ، على مبعدة من محلنا . تيسّر لنا أن ندرك أن رجلاً يقيم في ذلك الكوخ لوحده . كان أشبه بالرعاة ، يقود قطيعاً صغيراً من الأغنام ؛ اقترب ، في أحد المرّات من مخيمنا ، ونظر صوبنا لبرهة ، ثم عاد أدراجه ، وهذا كل ما بدر منه . في المرّة الثانية ، شاهد النساء منهمكات في بناء الدار ، فأقترب منّا أكثر ، وعلى مسافة واضحة ، توقّف ليلقي تحية وقورة ، متّزنة ، ثم قال :                                                                                                                                                                  

ــ يبدو أنكم جئتم إلى هذا المكان ، ولا تدور أعقابكم ثانية .                                                                                                                                                                                                                                                وبعد لحظات عاد ليقول :                                                                                                                                                                       ــ هذا عمل شاق ، وأنا على استعداد لمساعدتكم في كل شيء .                                                                                                     

شكرته أمي بكلامها الرقيق ، وأخبرته قائلة :                                                                                                                                           

ــ هذا عمل سهل بالنسبة لنا ، اعتدنا عليه في كل الأوقات .                                                                                                               

نظر الرجل إلى أمي ، يطالع مظهرها الزري ، نظرة مفعمة بالعطف والشفقة ، وقال :                                                                            

ــ أنا هنا في الجوار ، إذا كنتم بحاجة إلى أي مساعدة ، نادوا عليّ في الحال .                                                                                      

ومن غير أن يدعوه أحد ، أتى الرجل مسرعاً ، حالما بلغ البناء مستوى السقوف . ليعرض خدمته علينا . كنا قد أنجزنا بناء غرفتين متلاصقتين ، وإلى مقربة منهما غرفة صغيرة ، بمثابة حمّام ومرحاض ، وأحطنا البناء بقوس على شكل نصف دائرة ، وعندما ألقيت عليه نظرة من الخارج ، لاح لعينيّ شبيهاً بإسطبلات خيول الشرطة ، أو هكذا تخيلته . أجرت أمي حساباً لما يحتاج بناء الدار من أمور أخرى ، فوجدت أنها بحاجة إلى أربعة أبواب حديد ، واثنتي عشر عمود من خشب القَوَق ، وخمّنت أسعارها سلفاً . وعندما عبّر الرجل عن استعداده للمساعدة ، شكرته أمي ، وهي تقول :                                                                                                                                                                    

ــ نحن الآن لا نعمل شيئاً ، حتّى نبتاع الخشب والحديد .                                                                                                                           

ــ حسناً ، انتظرن صباح الغد ، سوف أذهب معكنّ إلى المدينة .                                                                                                         

قال هذا وغادر من غير أن يدع أيّة فرصة لاعتذارات أمي . وفي صباح اليوم التالي ، جاءنا يقعقع بعربة خشبية يقودها حمار فتي رمادي اللون . اعتلينا أنا وأمي سطح العربة من خلف الرجل ، الذي جلس على عجزه بهدوء تام ، وأمسك بزمام الحيوان . وقبل أن تتحرّك بنا العربة ، عرفنا أن اسم الرجل هو ( غريب ) . ابتاع لنا الخشب وأبواب الحديد ، وقد أظهر حرصاً في التعامل مع الباعة . وحينما عاد بنا إلى دارنا ، خاطب أمي قائلاً :                                                                                                                                                                         

ــ بناء السقوف ، ونصب الأبواب في أماكنها المحدّدة ، عمل رجال وليس نساء ، سوف آتي صباح الغد لمساعدتكم .                              

أغدق ( غريب ) علينا معروفه من غير مقابل ، إلى حدّ أغرق فيه النساء بالخجل . وعقب انتهائنا من بناء الدار ، ظلّ يوافينا في أوقات متلاحقة ، وهو يتفقّد كل شيء ، ويمحضنا العناية والإشفاق . يطلّ علينا بملامحه الريفية الطاعنة ، وصوته المبحوح ، ومظهره النظيف ، الذي يبدو فيه كذلك ، حتّى في أوقات عمله .

   بذلت أمي جهوداً عظيمة ، وهي تبكّر في النهوض إلى العمل من أوّل الصباح ، وتستغرق فيه حتّى اختلاط ظلام الغسق ، على نحو يدعو للشفقة . بدا أن عملها لا نهاية له ، وهي تطوف حول المنزل ، لتردأ كل خلل في البناء ، أو تعمل على تحصين كل عورة فيه . كنت أنظر إليها وكأنها كائن حر ، وقد كانت كذلك كما أعرفها دائماً ، ورائحتها البريّة الخالصة عطرة ، عبقة ، كنت أشمّها فتنزل إلى أعماق صدري في الحال . وحين انتهينا من البناء ، لاحت تلك الغرفتين مثل ذراعين بازغتين من الأرض ، احتضنتنا بحنو وأمان ، على الرغم من عدم وجود رجل برفقتنا . كان يتعيّن على كل من يقترب من تلك الدار أن يؤمن إنه إزاء نساء لا تنقصهن الرجولة ، والشجاعة ، وهن يعملن في هذا المكان .  وفي إثر فراغ الجميع من أعمالهم ، وقفنا نسبغ على ( غريب ) شكرنا ، واعترافنا بجميله ، وحسن صنيعه ، إلّا أنه رفع كفّه في وجوهنا ، وهو يقول :                                                                                                                                                                     

ــ أنا من أكون ؟ الفضل كل الفضل لهاتين المرأتين الممتلئتين بعجائب الله .                                                                                   

توثّقت عرى صداقتنا مع ( غريب ) ، وبات بمثابة اليد اليمين التي تمدّنا بالعون ، وكانت عربته الخشبية لا تنفكّ عن نقلنا إلى المدينة متى ما تطلّب الأمر . وحينما شرعنا بحفر بئر ماء قرب منزلنا ، سارع ليتولّى العمل بنفسه ، وهو يختار الموضع المناسب له .

   أصحو من نومي  مبكّراً أيضاً ، على أصوات النسوة ، وهن يتحدّثن معاً ، وكلامهن مثل سيل مطر ينهمر . أخرج إلى العراء ، حيث الهواء والضوء الجميلان ، وأسمع أصوات القبّرات الحزين ، وعيناي تقفو أثر الطيور التي تقترب من بيتنا ، لتراقبنا برهة من الوقت ، قبل أن تطير مبتعدة في البر الفسيح . كان كل شيء من حولنا ينمّ عن البساطة في ذلك المراح ، ويبعث على سكون النفس وانشراحها ، على الرغم من كوننا جئنا نعيش هنا وفق تصوّر مبهم ، وأمل غير مؤتمن . كان هذا السكن غربة في بادئ الأمر ، إلّا أنه لم يلبث أن أفعمنا بمشاعر الحريّة  . ما أن يحلّ الضحى ، يغدو المنزل شديد الحرارة ، ومن حوله يبدو شعاع الشمس مثل دخان أبيض . تنادي علي أمي ، وتناولني علبة صفيح ، لأذهب صوب شياه ( غريب ) ، وأجمع فضلات الحيوانات ، بينما تذهب هي لجمع الأشواك ، وكان هذا عماد وقودنا . هكذا درجنا نبذل جهدنا طوال ساعات النهار ، أمّا في الليل ، فلم نكن نسهر قطعاً ، فحين يحلّ الدجى ، نسمع الظلام يقول لنا ناموا ، فننام سريعاً .

   كانت أمي امرأة من سلالة الشمس ، وجلّ نشاطها ، ووعيها ، كانا مكرّسين لعملها ، من أجل أن تعيش ، وتعيل ثلاثة أنفس ، في ظروف امتازت بالقسوة والجدب . وبالنسبة لي ، كانت تسعى لتثبيت ودعم وجودي في مدرستي ، وتخشى كل الخشية من أن ينظر إليّ الآخرون بمنظار قاتم . كانت تقاتل قتالاً مجيداً ، وفي نهاية اليوم ، وحالما تمتدّ على البساط ، تروح تشعر بعشرة ألاف ألم في جسدها النحيل . ولم تكن خالتي لتفرق عنها كثيراً ، فقد كانت تهبّ معها ، وتستكين معها أيضاً . تجلس بانتظار ما تروم أمي القيام به ، وهي تشبك كلتا كفيّها في باطن حجرها ، ومن خنصرها يلوح خاتم الفيروز المنطفئ ، وعلى أديم وجهها انطبع أثر الفقدان .. وأكثر من هذا لا أريد أن أقول عنها شيئاً .

ᵜᵜᵜᵜᵜᵜ

   انحدر ( غريب ) أصلاً من القرية التي تطالعنا ذوائب نخيلها من بعيد . رجل رحيم القلب ، هكذا تأكّد لي . صوته مليء بالشجن ، ويبتسم بعينيه . أخبرنا ذات يوم ، بأنه هرب من الخدمة في الجيش ، أثناء الحروب الطاحنة ، وسكن هذه البريّة ، ولم يعد يزور قريته إلّا لماماً ؛ ثم ما لبث أن اعتاد العيش فيها مع توالي السنين ، وآثر سكناها . كان يشبه الأغنام في هواه ، فقد أُلقي بحبله السرّي في المراعي أيضاً . يخال لي بأن هذا الرجل امتلك ما يجعله يعيش عيشة رضيّة ، ولكنه اختار السكن منعزلاً ، في حياة زاهدة ، بعيدة عن الترف ، وأشبه بحياة الرعاة . ومع شرف وعفّة النساء ، لاح هو الأخر عفيفاً وشريفاً ؛ يبدو أن سُكنى هذه الأماكن العذراء تضفي على ساكنيها النقاء والفضيلة ! . في تلك الأثناء ، كنت فتى غضّ الإهاب ، حين يقترب بأغنامه من منزلنا ، أسعى إليه وأنا أحمل له قدح شاي . وكانت أغنامه تسرح وتمرح من الفجر حتّى حلول الظلام ، وما من شيء يعكّر صفوها . أسرع راكضاً لألعب معها ، وحالما أقترب منها ، كانت تنكفئ إلى بعضها البعض محتمية منّي ، فأسأله في الحال قائلاً :                                                                                                                                      

ــ لمَ تفعل شياهك هكذا ؟ .                                                                                                                                                        

فيجيبني ضاحكاً :                                                                                                                                                                                 

ــ إن شياهي خجولة .                                                                                                                                                                        

كان سريع الابتسام والضحك ، ولم تكن ابتسامته ريفية خالصة ، فهي ابتسامة مُزيّنة بأسنان ناصعة البياض . وكان يثير إعجابنا دائماً . يعرف هذا المكان وخفاياه ، وأدركنا عقب بعض الوقت بأنه يمتلك تصوّر بدوي خالص  لكل واردة وشاردة في تلك الأرض الرحبة التي تحيط بنا . 

ᵜᵜᵜᵜᵜᵜ

   في إثر استقرارنا ، واطمئنان نفوسنا ، خرجت النساء إلى العمل . نهضن معاً في الصباح الباكر ، ومن أعماقهن يشعّ نور الحياة ، وكانت شقشقة الطيور تتصاعد بين أركان المنزل . كان استعدادهن للذهاب إلى العمل بسيطاً للغاية ؛ هرعن إلى ارتداء سراويل سود سابغة تحت ثيابهن ، وأقحمن في أقدامهن جوارب سود سميكة ، وانتعلن أحذية من المطاط الرخيص ، ثم حملن زكائبهن وهن يتوكّلن على الله ، وشفاههن تهمس بكثير من الصلوات . في كل زكيبة ثمة قنينة ماء ، وبعض حبّات من التمر المجفّف . سرعان ما أتتنا عربة ( غريب ) ، فأستقبلتها في مرح ، وأنا أداعب عرف الحمار ، وأتأمّله وهو يهزّ بذيله من دون توقّف . اعتلين العربة لفورهن ، وأخذت كل منهن مكانها ، وهن يتشبّثن بحافتها ، ممسكات بها في حذر واحتراز . وكنت أنظر إلى كف أمي المنقوش بالوشم الأزرق ، فتلوح لي متصلّبة بلا حراك في جلستها . كان ( غريب ) ينقلهن إلى مكان الممّلحة ويعود أدراجه في الحال .

   في الصباح ، تبدو برك المياه وما حولها ، الممّتدة مع  الطريق المعبّد الرئيس آسنة اللون ومهجورة . تكتسي المياه فيها بطبقة رقيقة ، بيضاء من الملح ، بينما الحواف الراكدة منها تتوهّج بطبقة ملحية سميكة ، تتلألأ في ضوء الصباح كالثلج . تتنهّد خالتي ، وتقول :               ــ أرض الله أشفق ممّا نتصوّر ..                                                                                                                                                      تضفي الشامة السوداء فوق ذقنها الصغير الكثير من الاستبشار على ملامحها ، وتدعمها بمسحة من البراءة .

   تبدأ كل منهن تنسلّ إلى الماء وهي محترسة كل الاحتراس ، وتحمل بين يديها مشخلة ، لترفع بواسطتها الملح من الماء ، وعلى مقربة من المياه ، فرشن ملاءة من البلاستك فوق موضع نظيف ، ورحن يجمعن فوقها الملح ، ومع احتدام عزيمتهن في العمل ، تبدو مشاخلهن تلهث مع نور الشمس بلونها الفضي .

   كن يعملن في منتهى الحشمة والوقار ، وهن يولين ظهورهن إلى الطريق ، الذي يزدحم بالمركبات الغادية والمروّحة ، حيث تطل عبر نوافذها العيون ، وهي ترنو إليهن بكثير من الفضول ، وهن يجوسن في تلك المياه الضحلة ، بسيقانهن الرفيعة والطويلة ، مثل ثلاثة من طيور الكراكي . كان منظرهن يوحي بالكفاح أكثر من أي شيء آخر ، بالنسبة لمن يشاهدهن على هذا الحال . يواصلن العمل ، بقلوبهن المتحمّسة ، حتّى الساعة الثانية ظهراً ، وفي أوقات الظهيرة ، كنّ يستجمعن بقايا قوتهن ، وتجلّدهن من أجل تحمّل سورة الشمس الفوّارة ، وتمسي مناخرهن مفتوحة على وسعها وهي تسفّ الهواء الساخن ، بينما العرق الغزير يسيل على أبدانهن ، وقد هدّهن التعب ، وقرصهن الجوع .

   لم يكن أحد يعرفهن حق المعرفة ، كي يدرك كيف تستمر الحياة في غمرة الموت . كان عملهن هذا قد هزّ وجداني منذ الصغر . في خلال بضعة أيام من عملهن ، بات بالإمكان ، عبر الطريق المعبّد ، رؤية أكوام كبيرة من الملح ، متوهّجة مع أنوار السماء .

   بعد الظهر من كل يوم ، كان ( غريب ) يذهب بعربته إلى ذلك المكان ، ليعود بهن . وما أن يصبح بحوزتهن محصولاً وفيراً من الملح ، يأخذ بنقله إلى أحد التجّار في المدينة المجاورة . كان هو من يتولّى بيعه ، إذ كانت أمي تطلب منه ذلك ، وهي تقول له :                         ــ أنت شاطر جداً ، ولن يغلبوك في تعاملهم معك .                                                                                                                         

عندما تعود أمي من العمل ، كنت أراها مجهدة ، منهكة ، كانت تحني جذعها ثم ترفعه ، وهي تشكو التعب بطريقة حلوة ، عذبة ، فتقول ” يا أمّاه ” وكأنها طفلة متعبة . ولم يكن حال خالتي وشقيقتي بأفضل من ذلك . على الرغم من ضعفهن وهزالهن كنّ بمثابة القوة ذاتها ، التي تندفع في مثابرتها ، وتحدّيها الحقيقي ، وثمة تساوق ، وانسجام مبهر بينهن أثناء العمل . عند انسدال الليل ، يبقى المنزل مغلقاً على البر المحيط بنا ، ولا يُسمع أدنى صوت من أركانه .

   عندما يعود ( غريب ) بأثمان الملح ، كانت أمي تنفحه حصّة منها ، إلّا أنه يمتنع ، من أعماق نفسه السمحاء ، عن القبول بها ، لكن المرأتين تنقضّان عليه بألسنتهن ، وتجبرانه على قبولها . وكانت أمي تقول له :                                                                                       

ــ أنت رجل وحيد ، وتحتاج إلى كل شيء صغير كان أم كبير . ولولا عربتك لصعب العمل علينا كثيراً .                                                     

كان يمدّ يده ، على استحياء ، ويأخذ منها النقود ، وهو يقول لي باسماً :                                                                                                 

ــ ساعدك الله على هذه النساء .                                                                                                                                                   

   وظلّت العربة ، طوال الصيف تحملهن ، بوجوههن المسفوعة ، اللامعة ، وأياديهن المسودّة ، الخشنة ، في أفواف ريف غمرته الآمال . وكانت والدتي تلحّ عليه في أغلب الأحيان ، وهي تقول له :                                                                                                                    

ــ يا رجل ، سمِّ باسم الرحمن ، وصلِّ على نبيّك ، ودعني أجد لك زوجة صالحة ، تسعدك ، وتملأ عليك وحدتك .                                       

فكان الرجل يضحك ، وقد اصطبغ وجهه بحمرة الخجل ، ويردّ عليها بقول غريب :                                                                                    

ــ يا امرأة ، ماذا تريدين أن تقول الناس عنّي ، هل جننت ؟ .                                                                                                                 

لقد طوّق ذلك الرجل أعناقهن بجميله ، ومعروفه ، وكنّ يتحمّسن لرد هما إليه .

   مع انغمارهن في الكفاح ، أصبحن مثلاً أعلى لي في حياتي ، سكبن في قلبي إيمانهن الساطع ، ولم أكن أشعر بالوضاعة أو الحطّة ، جراء عملهن ، بل دأبت أشعر بالفخر والاعتزاز ، وقد حضّني ذلك كثيراً على بذل الجهود الخالصة في دراستي ، فكنت لا أقبل على مطالعة فروضي المدرسية وحسب ، إنّما كنت أغزو السطور والكلمات بقوّة ، ورحت أنجز دراستي بتفوّق سنة بعد أخرى .

ᵜᵜᵜᵜᵜᵜ

   عملت أسرتي في جمع الملح طيلة أشهر الصيف ، ولمّا  بدأت الأجواء تعتدل ، ويقبل الخريف ، توقّف عملهن تماماً . أعلنت والدتي بأنها ادخرت من المال ما يكفينا لمدّة لا بأس بها . خلدن إلى الراحة والاسترخاء ، ولم يعدن إلى العمل ، وبات يتوفّر لهن وقت طويل ، مُمِلّ وبطيء . يفرشن أبسطتهن الغارقة بالتهاويل والنقوش في حوش الدار ، ويأخذن في استذكار معارفهن وأصدقاءهن جميعاً . وهن يثرثرن بلكنتهن المشرّبة بمياه الأهوار . وعند حلول المساء ، تنتأ أرواحهن بعيداً ، وهي تناجي الأموات ! .

   ذات يوم ، أقبل علينا ( غريب ) بوجه مستبشر ، وخاطب أمي قائلاً :                                                                                                     

ــ اليوم وجدت لكنّ عملاً تنشغلن به طوال موسم الشتاء .                                                                                                                      

ــ خير ، إن شاء الله .                                                                                                                                                                               

ــ هناك الكثير من الأصواف في القرية ، وهم يبحثون عن من يعمل على غزلها ، وسوف يدفعون أجراً مجزياً .                                  

ابتسمت أمي ، وقالت :                                                                                                                                                                         

ــ كيف نضمن ذلك ؟ .                                                                                                                                                                          

ــ لا عليك ، أنا سأرتّب الأمر معهم .                                                                                                                                                    

في ضحى اليوم الثاني ، قاد عربته إلى باب دارنا ، وهي تغصّ بجزز الأصواف ، لم تلبث النسوة أن جلسن حول الصوف ، وفي يد كل منهن مغزل ، ورحن ينهمكن في غزله .  كان بالإمكان رؤيتهن يعملن بنشاط لا ينضب حتّى المساء . ثم يخلدن إلى النوم وتحت وسائدهن أكفان جلبنهن من النجف الأشرف ، ومن حين لآخر ، تقوم الواحدة بفضّ كفنها وتطالعه كأنه كتاب المستقبل الذي تقرأ فيه مصيرها ! .       كان ( غريب ) ينقل الغزول إلى القرية فور إنجاز عملها ، ليعود محمّلاً بالأصواف ثانية .

ᵜᵜᵜᵜᵜᵜ

   تواصلت حياتنا على هذا النحو ، وكنت أصعد في سلّم دراستي بنجاح كبير ، وأخيراً أنهيت دراستي في معهد المهن الصحيّة ، وتسلّمت وظيفة مهنية ممّتازة . طوال ذلك الوقت كانت عائلتي تكدح ، لم تتوقّف عن الخوض في مستنقعات الملح ، ولا غزل الأصواف من الصبح حتّى المساء ، وقد أعياهن العمل ، وأثقل عليهن الزمن ، وخارت قواهن ، ووهنّ إلى الحدّ الذي أصبحت فيه ثرثرتهن تشبه سقسقة فراخ الطيور .

   في هذا الوقت ، تزوّجت شقيقتي ( صفية ) من أحد الرعاة ، وكان قريباً لصاحبنا ( غريب ) ، وذهبت لتعيش معه في قرية نائية . بينما أقبل ملك الموت وخطف خالتي من بيننا ، بعد أن سمعها تردّد ذات يوم قولها ” إن هذا المكان أفضل وأليق مكان يمكن للمرء أن يموت فيه ” .

   فور تسلّمي لوظيفتي المهنية ، أحسّت والدتي بأنها أنجزت آخر أعمالها العظيمة خير إنجاز ، بعد أن خاضت غمار الحياة بما يشبه الجهاد ، من أجل أن نعيش ونحيا أوّلاً ، ومن أجلي أنا ثانياً . أرادت أن ترتاح راحة أبدية ، فاستسلمت لمرض عضال ، ألزمها الفراش بضعة شهور ، حتّى فاضت روحها ، ورأسها ملقى في حجري .                                                                                                                                       كان عليّ أن أسكن المدينة ، وأهجر ذلك المكان ، وهذا ما فعلته .

   لا تبلغ الشكوك مخيلتي في أن أحد من الناس ينكر عمل والده أو والدته في دعمه ، وتهيئته للحياة ، أغلبنا يقع تحت هذا التأثير ، ولا يمكنه أن ينسى فضل الوالدين ؛ وهذا هو حالي ، ولكنّه حال ليس على هذه الشاكلة أبداً ، فأنا حينما كنت أشاهد أمي ، في نضالها المرير ، وهي تنتزع لنا لقمة العيش انتزاعاً ، بألم وشقاء ، كنت أسعد بذلك ، أبتهج ما دمنا نحيا معاً ، مثل الآخرين ، ولم أكن أحزن أو أتوجّع لها ، وهي تزحف على ركبتيها الداميتين ، تدفع بي عالياً فوق سلّم النجاح . فقط ، حينما ماتت بين يديّ ، هجمت عليّ تلك الذكريات المريرة ، وراحت تنهش راحتي وسكينتي ، وأحس بها مثل سكين يجوز في حشاشتي . رحت أحسّ بأنها حطّمت نفسها ، وأنهت حياتها من أجلي أنا . كان جلّ طموحها ، أن أفرغ من دراستي ، وأتوّجه بعمل يضمن لي حياة طيّبة . كما يُقال عادة ، عملت المستحيل من أجل بلوغ هذا الطموح . وفي كل سكناتي ، كنت أتفكّر بأنني قتلتها ، وظلّ الوجوم ، والهمّ مطبوعاً على ملامحي ، ويزداد رسوخاً مع الأيام ؛ لقد تركت أمي تموت لأجلي ، ولم أفعل شيئاً لأجلها ، وحتّى بعد فوات الأوان ، لم أزل أشغل تفكيري في شيء أكفّر فيه عن سهوي وخطئي ، ولكنني لا أمسك به ، ولا يسعني العثور عليه .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ                                                          

 

* :  فصل من رواية بعنوان ” نساء الممّلحة ” .

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *