وجنات التفّاح الحزين
قصة قصيرة ــ محمود يعقوب
غالباً ما يكون الذهاب إلى النزهة سهلاً للغاية . يستحمون ثلاثتهم ، ويرتدون أفخر ثيابهم ، ويملؤون كيساً بالطعام الجاهز، ويرفقونه ببعض الحلوى وثمار الفاكهة ، وهم يتراقصون مرحاً . كلٌ منهم يذكّر الآخر ، وهو يقول : ـ لا تنسَ هذا ، احملْ ذاك معك .. ثلاثة طيور تشقّ السماء إلى الحدائق . أسفل شجرتين وارفتين من أشجار الألبيزيا ، تأخذ كوثر مكانها المعتاد ، على مصطبة غبراء ، برفقة طفليها الصغيرين ، مساء كل يوم جمعة في الأسبوع . وعلى بعد أقدام من محل جلوسهم في الحديقة العامّة ، ينتصب هيكل لعبة ، بديعة الألوان ، مضلّعة الشكل ؛ يتسلّق إليها الأطفال بسلّم معدني مدهون باللون الأصفر ، ويطلّون برؤوسهم من تحت القبة الزرقاء التي تعلوها ، وهم يثيرون صخباً ناعماً بأقدامهم الغضّة ؛ ثم لا يمكثوا حتّى يأخذون بالتزحلق عبر المجاري التي تنحدر من أركانها الخمسة . كان تكرار التسلّق والتزحلق يفعم الأطفال بالمتعة المتناهية ، ويحرّك ذوائب الأشجار في حبور وسعادة ، فيسري في وجنات المساء دم الحياة . وفي كثير من المرّات التي يبادر فيها ولدي كوثر إلى اللعب ، يقبل عليهما أطفال آخرون من بين أشجار الحديقة ، ليشاركوهما اللعب ، فتغلب روح الطفولة النضرة على جمال الحديقة .
من آن لآخرَ ، تنهض كوثر لتقف إلى جوار اللعبة ، وتشارك طفليها لعبهما ومرحهما ، فتغشى الطفلين سعادة غامرة ؛ ويسرعان في الثرثرة واللعب ، ويصخبان أكثر ، وهما يكركران ، ويستعرضان حركاتهما أمام أمهما ، وقد نضح على وجهيهما الكثير من العرق ، لتجد المرأة نفسها وقد اكتنفتها السعادة هي الأخرى .
راحت كوثر تزحف نحو الثلاثين من العمر ، وفي إطار ملابسها الفضفاضة ، لا يلوح سوى وجهها الصغير ، الذي يشبه وجه قطة أليفة . ومع ذلك كان متناسقاً وأبيضَ . هجرها زوجها منذ بضعة سنوات ، فأمسى الطفلان كل شيء بالنسبة لها في هذه الحياة ؛ التفّت حولهما بمنتهى الخوف والحرص ، ولم يعد ما يمكن أن يشغلها عنهما .
كانت تبدو أصغر من سنّها الحقيقي ، وهي تقف إلى جوار الطفلين ، وتنهمك في ملاعبتهما . تفترّ شفتاها عن ابتسامة مراراً ، وتريد منهما أن يبتسما ، غير أن ابتسامتها تبدو عكرة ، غابت عنها لذّة الصفاء .
في الأصيل الجميل ، كان ذهب الشمس في الحديقة ، يسيل على وجوه الأطفال ، ويلمع بوهج بالغ الروعة على حبّات عرقهم ، ليجعل كلاً منهما كائنين لا يقدّران بأي ثمن ! . وحين تعود كوثر لتجلس ثانية في مقعدها ، يمتلأ صدرها بأنفاس الحديقة ، ورائحة المساء الطريّة ، فتشعر بالانشراح ، ويمسي وجهها الغض بازغ البياض . إن إيحاء الشجرتين الضخمتين ، المتجاورتين ، له صدى عميق في نفسها الحائرة ، وكانت في فرحتها تطفو مسحة من الحزن .
اعتادت كوثر الخروج إلى هذه الحديقة برفقة طفليها ، وبالنسبة لها ، كانت تعثر فيها على ما يشبه المواساة لقلبها المكلوم .
يهبط الطفلان إلى أرض الحديقة ، ويبدءان الركض والمطاردة ، واللف والدوران حول بعضهما البعض ، وهما يتصارخان ، ويبدو أن هذا الصراخ هو شيء لا يمكن فصله عن المرح والحبور الذي يغمرهما ، وهما يلفتان نظر أمهما في كل برهة لترى مهارتهما في اللعب . وكانت الأم تتابعهما بنظرات تغدو شاحبة وهي تنعكس على حشيش الحديقة المُصْفَر ، ومع ذلك سرعان ما تنشرح جراء مرأى الشجيرات المزهرة التي تصطف من حولها ، والتي تبدو مثل جمع من الصديقات . يلعب الطفلان ويلعبا ، كانا يدّخران روح نشاطهما الأسبوعي لمثل هذا اليوم . وأحياناً تطيل كوثر التأمّل ، والانشغال بحالها ، فتنصرف دقائق من الوقت عن ملاعبتهما ، أو التحدّث معهما ؛ في ذلك الحين يتصدّى لها أحدهما ، وقد تنبّه ، بحكم غريزته ، إلى ملامح القلق التي ارتسمت على قسمات وجهها ، فيصيح بها ضاحكاً : ـ أنظري لي يا ماما ، أنظري لي . ويروح يتشقلب على العشب ، محدثاً جلبة من حوله ، فتندّ عنها ابتسامة خجولة خاطفة . يمسي منظرهم عائلياً ولطيفاً ، وكان الولدان أشبه بالتوأمين .
في إثر استغراق الطفلين في اللعب ، يرين عليهما التعب ، فتحمرّ وجناتهما ، ويجلّل العرق جسديهما ؛ وعندئذ تطلب الأم منهما أن يجلسا إلى جوارها على المصطبة ، وتبدأ تسقيهما الماء ، وتغسل وجهيهما ، ثم تفتح الكيس ، وتبدأ في إطعامهما ، وكانا يستغرقان في ذلك وقتاً طويلاً . يتناول الطفلان وجبتهما الشهية هذه بتلذّذ وهناء .
أثناء تناولهم الطعام ، تغمرهم السكينة ، وتتقارب وجوههم من بعضها البعض ، فكانوا آنئذٍ يلوحون مثل طبق سكّر تعلوه الحلوى الحمراء . وفي ذلك الوقت تبدأ قطط الحديقة بالاقتراب والتوافد تباعاً نحوهم ، فيبتهج الطفلان منتهى الابتهاج ، لتوقفها قريباً منهما ، فيلتهم كل منهما الطعام بلذّة وشهية لا توصف وهما يرميان فتات الخبز وبقايا الطعام إليها ، وينغمسان في مناداتها ، ومخاطبتها كما لو أنها جمع من أطفال قادمين للّعب معهما ، وكوثر تنظر في وجه طفليها ، وتمعن النظر إلى آيات السعادة والبشر فيها ، ثم تنشغل في حرص على أن يتناول كل منهما كفايته من الطعام . في بعض الأحيان تتفحّص عباءتها ، وتهبّ على عجلة ، واقفة ، لتزيل ما علق بها من غبار ونثار الحديقة ، بخفّة ورشاقة . كانت المرأة تتفادى نظرات الآخرين المستطلعة ، بالالتفات إلى طفليها والانشغال بهما . كانت تجفل من الأنظار المسلّطة عليها ، وتسارع لتسوّي من جلستها وترد طرف عباءتها على جسدها .
ᵜᵜᵜᵜᵜᵜ
كانت كوثر تتأمّل طفليها بنشوة لا تخلو من الألم والحسرة ، و منبع ذلك رغبتها الدفينة في زوج يشاركها الحياة ، بعد أن باتت وحيدة . وفي كل مرّة تقصد فيها النزهة تبدأ تلك الأفكار تهاجمها ، وترسم صورة الإنسان الذي يمكن أن تركن إليه في غدوها ورواحها .ولكنها ، إذ تصحو فجأة على تلك الأفكار التي تُداهمها خلسة ، لم تلبث أن تجاهد بمحو طيف الزوج من بالها ، فهنا ، ورغماً عنها ، تهاجمها الأفكار ، تنطلق منها الزفرات من تلقاء نفسها ، حين تتصارع فكرة الزوج مع أفكار الخوف والرعب من الانفصال عن فلذّات كبدها ؛ وهي تردّد بصوت مهموس ، يكاد يسمعه الطفلان : ” اللعنة على الشيطان .. اللعنة على الشيطان ” . مع كل خطوة تخطوها ، كانت ترزح تحت ثقل تلك الأحاسيس . ومهما حاولت مغالبتها ، إلّا أن تلك الأفكار المُعذّبة كانت تباغتها من حيث تعلم أو لا تعلم ؛ لا سيّما حين تراقب الطريق الذي يوازي الحديقة في امتداده ، حيث ترى العربات المنتشية ، تسرع منطلقة بلا انقطاع ، وتشاهد النساء والأطفال برفقة الرجال ، في مواكبهم العائلية الأنيسة . تلك المناظر تشعرها بالضعف والهشاشة ، إلى حدّ الإحساس بوهم المرض ، وهو إحساس ينتابها من حين لآخر . ففي واقع الأمر ، كان ضرب من التهيؤات ، يهيمن عليها عندما تستحم ، وتغادر المنزل ؛ وما أن ينفح الهواء وجهها ، في الخارج ، حتّى تهجم عليها فكرة المرض ! وفي تلك اللحظات ، تخرّ عزيمتها ، ويهاجمها الوهن . ذلك الإحساس يعاودها منذ أن هجرها زوجها . وفي تصوّرها هي ، إن حالتها الصحية ليست على ما يرام ! . كانت مرآة الطريق التي تحدّق فيها أشبه بالسراب .
ᵜᵜᵜᵜᵜᵜ
في أكثر الأحيان ، تحاول الأم أن تُغري الولدين بتناول المزيد من التفّاح والبرتقال ، إلاّ أنهما سرعان ما يهبّان ثانية لمواصلة اللعب ؛ وحينها تلتقط واحدة من التفّاحات ، وتقضم منها شيئاً ، ثم تعود لمعاينتها ، تجد أن وجنة من التفّاحة صفراء شاحبة ، والوجنة الأخرى حمراء باهتة فيخطر في بالها أن التفّاحة على الرغم من كونها تفّاحة لكنها حزينة ! .
وبعد أن يمرّ الوقت ، ويتعب الأولاد من اللعب ، تناديهما متهيئة لمغادرة الحديقة ، وبعض من علامات الإنجراح بادية على محيّاها . في ظلمة المساء يعودون ، غالباً ما تكون العودة من النزهة ثقيلة للغاية ! .