( حَطَب )
قصة قصيرة
محمود يعقوب
لا أخال أن ثمة شيء حسن ، وجميل ، يمكنه أن يكحّل الناظر ، من حول تلك الفلكة الصغيرة ، الجرداء ، التي تتوسّط تقاطع شارعين مديدين في حي المعلمين ، الذي أسكن فيه الآن . يبدو كل شيء متسخاً ، ومغبراً ، وغير مريح ؛ وحتّى رجلي الشرطة الذين توقفا جنب عربتهما العسكرية ، وهما بأبهى حلّة ، ظهرا وكأنهما بملامح رعاة الأغنام .
أذهب كل يوم إلى فرن ، يحتل ركناً بارزاً مقابل الفلكة . أذهب أحياناً في الصباح ، وأحياناً أخرى عند المساء . أقف في الدور ، فوق الرصيف ، لأجل ابتياع حاجتي من الخبز . في الأوقات التي يزدحم فيها الزبائن عند الفرن ، يطول انتظاري ، فأنشغل بمراقبة تقاطع الطرق من حولي .
مقابل الفرن ، في الجانب الآخر من الشارع ، هناك محل لشواء الأسماك ، ثمة موقد واسع ، معبأ بشظايا الخشب ، يحترق من وقت لآخر ، وكان الجمر يتطاير منه يميناً وشمالا . وعلى قرب أمتار قليلة منه فقط ، وعند ركن الشارع ، ينتصب محوّل كهربائي كبير ، يبدو مثل بقرة سمينة ترتفع على أربعة أعمدة كهرباء ، وتشتبك مع ضروعها الكثير من الأسلاك ، وها هي تُحلب إلى حدّ الموت .
إلى الأسفل من ذلك المحوّل الكهربائي ، جثم صندوق خشبي كبير ، بسقف يُفتح ، ويُغلق ، لا لون له ، حيث غطّته الزيوت والأتربة . كان الصندوق يضم عدداً من العلب التي مُلئت بالبنزين . وتجلس إلى جواره فتاة صغيرة في حدود الثانية عشرة من العمر . كانت هذه الفتاة بائعة بنزين . تجلس فوق رصيف الشارع ، وعيناها سارحتان عبر الطريق ، تلوّح بقنينة بلاستيكية فارغة ، كانت تستعملها كعيار لملء هذا الوقود . يتسرّب الذهول عبر نظراتها ، وهي تراقب سير العجلات المعربدة ، وحركة الناس التي لا تتوقّف أبداً . ولكن نظراتها البريئة كانت تنهمر ، وتبلّل الصبيان والفتيات الصغيرات ، الذين يعبرون الطريق في مرح ، قريباً منها .
كان جلّ زبائنها من راكبي الدراجات النارية . من جوار الفرن ، يبدو لي موقد السمك المضطرم ، والمحوّل الكهربائي ، ومن تحتها صندوق البنزين ، كحزم من الحطب الجاهز للاحتراق عند أية غفلة .
من أول الصباح ، كانت الفتاة تلوذ بظل الصندوق فوق الرصيف ، هرباً من صهد الشمس ، وتنتقل في جلوسها مع انتقال الظل ، لتصبح في النهاية جزءاً من ذلك الظل . إنها تلتحم بالظل لتغدو كائناً لا مرئياً أمام الناس ، فلا غرو أن لا يعيرها أحد بالاً ؛ إن أعداد لا حصر لها من الناس ، يمرّون من أمامها ، ومن جانبها ، من غير أن يأبه بها أحد بالمرّة . كانت تجلس بسحنتها الشاحبة لا تبارح محلها ، ساكنة مثل وردة شعثاء متمسكة بغصنها . وكلّما أطيل النظر إليها تلوح لي أشدّ سكوناً من الوردة .
كان عملها هذا سهلاً غاية السهولة ، ولكنه مجحفاً غاية الإجحاف . ما من شيء رقيق من حولها ، ولا شيء طفولي يمكن أن يؤاسيها ، ولا شيء لطيف قد يُلهيها : العجلات تدمدم من حولها منذ طلوع الشمس وحتى غروبها ، والمحركات تصرّ صريراً يصمّ الآذان ، و تنشر الغبار في حركتها العجولة ، وتثير الروائح المنفرة التي لا تُطاق ، والتي لا يشعر بها عابر السبيل ، مثلما يحسّ بها من يبقى تحت سحبها وقتاً طويلاً . وأحياناً تبلغ حدّاً من الملل ، فتنهض واقفة ، وتبدأ في قرع الصندوق الخشبي بطرف القنينة التي تحملها ، كما لو كانت تُعلِن عن ضجرها واحتجاجها .
بعد الغروب مباشرة ، تغلق صندوقها الخشبي وترحل . استغرق فيها متأملاً ؛ أعتقد أنها لا تستمع في ليلها كذلك ، ليس هنالك بقايا من اليوم يمكن أن يكون ملكاً لها ، لأنها ، بالتأكيد ، سوف تلتهم عشاءها سريعاً ، وتهوى إلى فراشها في الحال جراء الإعياء .
كنت أطيل تأملي في ذلك المشهد ، وأنا ألج إليه من زاوية مظلمة كأداء ؛ حيث أقف والكآبة تخيم فوقي ، لأنه يرسم لمشاعري وأحاسيسي لوحة فظيعة ، أفظع ما فيها هو جلوس الفتاة عند صندوق البنزين ، أسفل محوّل كهربائي ، وقرب موقد جمر ، فكنت أنظر إليها كما أنظر إلى اضمامة جميلة وناعمة من الحطب ، لا يقيها شيء من شرار اللهب !