رؤى نقدية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضاء السجن في رواية “لا رياح ولا مطر” لمحمود يعقوب
د.ضياء غني العبودي (العراق)
مجلة ميريت الثقافية
العدد رقم ( 52 ) ابريل 2023
———–
تعيش الشخصية في السجن تحت الرقابة من قبل الحراس عند مراقبة السجن، أولئك الحراس الذين يعيشون السجن من دون جدران “في صباح اليوم الثالث، صرَّ باب السجن، وهو ينفتح بروية وحذر؛ ليطلَّ منه حارس كبير السن، أعزل من السلاح. وكان هذا أحد أولئك الذين يطلق السجناء عليهم اسم (الجحوش)، وفي واقع الأمر، كان السجناء يجدون في هؤلاء أشبه بالسجناء أيضًا، لا يختلفون عنهم كثيرًا، لأنهم يمضون أغلب حياتهم يعملون بين جدران السجن، في سكينة، من غير أن يعبأ بهم أحد”. ويكون السجين تحت سطوتهم، فالسجان يشعر بالمتعة من خلال إذلال السجناء، وهو من ناحية أخرى يحاول أن يحقق ذاته ووجوده في دولة تنظر اليه بنظرة دونية!
———–
المكان السجن
من المعلوم أن موضوعة السجن أخذت حيزًا واسعًا في إطار المعالجة الأدبية، لا سيما بعد توسع حالات القهر والاستبداد الذي تعيشه الشعوب في ظل الأنظمة الحاكمة. وإن تباينت الاتجاهات للسلطات فالقهر يكاد كون واحدًا منذ بداية نشوء السلطات حتى يومنا هذا. من بيان طبيعة الحكم وعلاقة الحاكم بالمحكومين، وتفشي الفساد وغياب العدالة. فلم تخرج الرواية عن المكان الواحد إلا ما ندر وهو سجن (الديماس)* إلا في مواضع قليلة يتطلبها الميتاسرد في النص، فهو المكان المهيمن على النص. فجاء النص ليعبر عن مرحلة دقيقة من التاريخ الإسلامي، متمثلة بحكم الحجاج بن يوسف الثقفي، وإن لم يصرح به الكاتب إلا أن أحداث الرواية والمسميات -لا سيما المكان- تدل على تلك المدة الموغلة في الاعتقالات والتعذيب والحرمان والتحجر في العواطف. فالتاريخ يعدُّ واحدًا من الروافد المهمة للرواية، وقد استقى الروائيون منه مادتهم السردية، التي ترتبط بالواقع الحالي الذي تعيشه الشعوب، لا سيما أن الرواية والتاريخ يلتقيان في مشترك واضح وهو السرد، وهذا ما اعتمده الروائي محمود يعقوب في روايته “لا رياح ولا مطر”. من خلال طرحه لموضوعة مهمة ألا وهي السجن وعلاقته بالسلطة الحاكمة. مازجًا بين التاريخ وواقعه وبين الخيال الروائي. “وما من شك في أن كل رواية تاريخية فيها تاريخ وفيها خيال يبدعه الروائي. ويجب أن يجتمع التاريخ والخيال معًا في الرواية التاريخية، فلو كانت الرواية كلها أحداثًا ووقائعَ تاريخية، لكانت تاريخًا وليست رواية تاريخية، ولو كانت الأحداث في الرواية كلها خيالية لما صح تسميتها رواية تاريخية”، واذا كان التاريخ لم يقدم صورة واضحة عن سجن الديماس فان محمود يعقوب استغل كل معلومة تاريخية لبناء عالمه الخيالي، مجسدًا حالة القمع لإثارة المتلقي وجعله يشعر بما يتعرض له السجين من امتهان وسحق لكرامته منذ القدم وحتى وقتنا الحاضر. معتمدًا على الوصف في تصوير ذلك لينقل لنا هول المكان “وجد نفسه وجهًا لوجه حيال صرح عظيم، يشمخ في صرامة وغموض. كان هذا هو السجن الكبير، الذي تحدَّث رجال الشرطة عنه. و في عاصفة من الذهول أخذ يتأمَّل فيه ضائعًا. كان السجن مبنًى هائلًا مترامي الأطراف، شامخًا في موضع منعزل، تحيط به أسوار شاهقة، متينة، تعلوها أبراج حراسة، وعدد غفير من الرجال المسلَّحين..
حينما أنزلوه عند أبواب السجن الخارجية، كان السكون شاملًا، يهزُّ الروع، ويغمر الأعماق بالتوتُّر. ما لبثوا أن دفعوا به عبر دهليز طويل، مسقوف، رصفت أرضه بالبلاطات البرَّاقة. وعلى جانبيه اصطفت غرف كثيرة متجاورة. في إحدى تلك الغرف استنطقوه ثانيةً، ثم دوَّنوا اسمه وعنوان سكنه في جلد كبير. ما أفظع خشونة رجال الشرطة، وما أقسى فظاظتهم، تلك الفظاظة التي لم يألف مثلها يومًا من الأيام. ومن خلال لجَّتهم وجرجرتهم له، علم شيئًا واحدًا فقط.. شيئًا ألجم لسانه وشلَّ أفكاره، حينما أخبروه بأنه سجين! جرَّدوه من نعله القاسي، السميك، وفتحت له بوَّابة السجن الداخلية، في نهاية الدهليز، وألقي به إلى (الديماس)”. فقد شكل المكان “شبكة من العلاقات والرؤيات التي تتضامن مع بعضها لتشييد مواقع الأحداث، وتحديد مسار الحبكة ورسم المنحى الذي يرتاده الشخوص”، فهذا السجن لم يكن كبقية السجون المغلقة وإنما كان سجنًا مفتوحًا إلى الفضاء، وعلى الرغم من هذا الانفتاح إلا انه شكَّل عاملًا ضاغطًا على الشخصية وجعلها تواجه الطبيعة التي لم ترحمها، بل تحولت إلى سلطة قاهرة أيضًا”. في هذا الخلاء ليست هنالك واقيات تظلِّل السجناء وتحميهم من الأنواء، بل كانت أرض عارية، مكشوفة للسماء تمامًا، تُرك فيها المساجين لرحمة السماء. أخبره (الساقي) بأن الناس هنا إن لم يقتلوا أو يذبحوا فإنهم بلا شك يموتون جراء الحر، أو البرد، أو الجوع والمرض”. والسارد في كل حين يؤكد على ثيمة الأجواء وما تفعله، ليس في السجين العادي، بل بهؤلاء الثوار ليكون الشتاء وظروفه القاسية ما لا يمكن تحمله “اصطدم الثوَّار بأجواء السجن، وظروفه القاهرة. لم يتوقَّع أحد أن يجد السجن عراءً، كالبريَّة تمامًا. وحينما جلسوا في مضاجعهم، ونظروا إلى أسوار السجن وأبراجه العالية، أخذتهم رعشة البرد، وفقدوا آخر أمل لهم بالنجاة. سريعًا مرَّت أيام الخريف، هكذا تمرُّ عادة، وجدوا أنفسهم في شتاء قاسٍ. بدأت السماء فيه تتلبد بالغيوم مبكِّرًا، وتكفهر. فيما الرياح الصردة كانت تنفخ في رحاب السجن “ومثل هذا المكان يتساوى فيه كل من يدخله، فلا فرق بين ثائر وبين لص، كلهم يخضعون لتلك الظروف التي تمارس التعذيب إلى جانب رجال الشرطة ومن ثمَّ لا فرار منه، بل الأحكام متشابهة، إذ يلقى السجين في (الديماس) ثم ينسى من دون محاكمة، فيكون مصيره الإهمال إلى أن يموت، في إشارة إلى غياب العدل في الأحكام “لا يلوح في أفق الخلاص أيُّ فتيل أمل. العجيب في هذا السجن المترامي الأطراف، والمتخم بآلاف البشر أن الجميع فيه متساوون في القصاص! الشحَّاذون يتماثلون مع المجرمين، والمفكِّرون الثائرون يتساوون مع اللصوص وقطَّاع الطرق، ومسالمون من أتباع مذهب ما يتشابهون مع القتلة.. لا فرق في أحكام السجن وسننه!” لذا عدَّ الخلاص منه أشبه بالمعجزة، ارتبطت بموت الحاكم، ومجيء حاكم آخر ربما لا يختلف عن غيره، بعد وفاة الامير “اليوم فقط سقطت أسطورة (الديماس)..، أخبرهم فيه أن (أمير المؤمنين) أصدر أمره بإطلاق سراح جميع نزلاء (الديماس)، وأن السجن سوف يهدم فور خلوه منهم. قاطعه صوت، انفجر من بين جمع السجناء مفرقعًا: “لا أصدِّق ذلك يا رب الكائنات””. فهو يصور الظلم والتعسف من السلطات الحاكمة تاريخيًّا، ولكنها في حقيقتها سلطات تمتد عبر التاريخ.
الأبواب
شكلت الأبواب أيقونة واضحة في السجن، فإذا تحركت الأبواب والأقفال مدت إليها الأعناق والإبصار “حينما شُرِّعت بوَّابة السجن هبَّ واقفًا في غاية التوتُّر، وكل قطرة من دمه تجمَّدت من هول الترقب، واصطخب قلبه بالوجيب. ولكنه لم يرَ سوى رجلًا مدمى من كل جزء في جسده، رُمي به إلى السجن كما تُرمى القمامة. نظر (هلال الدارمي) صوبه نظرة مفرطة الخيبة، وقال، كما لو كان يخاطبه، في حمق، وسذاجة، وأنانية: “لا بارك الله فيك، جعلتني أضطرب”. وحالما أوصد باب السجن دون ذلك السجين، خرَّ (هلال) جالسًا في موضعه مثل من تفارقه الحياة”، ولعل هذه المساحة التي شغلتها الأبواب، في الحديث توحي بالحيرة والقلق، إذ إن الأبواب تحمل مع فتحها أيقونة ذات بعدين، الأول خلق المعجزة وتحول اليأس المميت إلى حياة جديدة عند الخروج منه، والآخر ما تحمله من القلق والخوف والعذاب عند دخول السجان، وما يثيره في نفوس السجناء، فكان الباب المرتكز الأساسي في حديث السجن، فهو البداية/ والنهاية، الحياة/ والموت، ولعل إخفاء صفات المنعة والحجم الكبير على هذه الأبواب يعكس حالة اليأس القاتل في الخروج منه. “لا تنفتح بوَّابة السجن الداخلية عند المساء إلَّا لأجل الموت. حينما تُشرَّع البوَّابة بمصراعيها، يندلق وهج الأضواء الباهرة التي تملأ دهليز السجن، ويأخذ بالانتشار في مقدم باحة السجن، على شكل سديم سحري مشع، أبيض، مُصفَر، يقبض الأنفس، ويغلف مشاعر السجناء وأحاسيسهم بأكفان لا يطاق بياضها. كان تشريع بوَّابة السجن ليلًا، أقرب الشبه إلى فتح باب قفص طيور أليفة، ومداهمتها من قبل هرٍّ متوحش، جائع، يمتشق براثنه، ويغمدها في أجساد رخصة، ولا يخرج من القفص إلَّا وهو يحمل طيرًا، أو طيرين، أو حتى ثلاثة طيور!” فشكلت بوابة السجن في (الديماس) الموت المحتم من خلال الصورة الوصفية، مستخدمًا مجموعة من الأوصاف والألوان من السديم الذي يتشكل من الرطوبة والغبار والدخان والبخار، ليشكل غيمة سوداء شديدة الحرارة، ثم يأتي اللون الأصفر وما يحمل من دلالات الحزن والهم والذبول والموت والفناء. لتكون تلك الألوان بمنزلة الأكفان، ثم يأتي بصورة وصفية سردية متحركة تثير مشاعر الوحشة والنفور والشعور بالتعاطف مع السجناء، ليشبه السجن بقفص لطيور أليفة والسجان بهر متوحش ينشب مخالبه في أجساد لينة ويسوقهم إلى الموت من دون رحمة أو شفقة. فهذه الأبواب تجلب معها الموت حين تفتح، وتؤكد ثنائية الصوت والصمت الحركة والسكون، فما إن يسمع صرير تلك الأبواب حتى تصمت الأفواه عن النطق وتتطلع الأبصار إلى المصير المحتوم، “انفرجت البوَّابة عند الضحى، ليدخل شرطيان وقد شهرا سيفيهما. شرَّعا مصراعي البوَّابة على وسعهما. ثم وقفا متأهبين على جانبي البوَّابة، واحد منهما انتصب إلى اليمين، والآخر إلى الشمال، وكانا يحدِّقان في كل شيء من حولهما في منتهى اليقظة والصرامة. على أثر ذلك خبت أصوات اللغط، الداوية في أركان السجن، ثم انطفأت تمامًا. كانت هذه المراسيم تنذر بالخطر عادة. شخصت جميع عيون السجناء صوبهما”. فهو يؤكد على الصور الوصفية المتحركة لتشكيل المكان الذي تدور فيه الاحداث.