كافكا اليابان : كوبو آبي ، في رواية ” امرأة في الرمال ” .

كافكا اليابان :

كوبو آبي ، في رواية :

روايـــــــــــــــــة : ” امرأة في الرمال “

جزء مختار من دراسة موسّعة ، لم يتم ذكر مصادرها هنا .

   روايـــــــــــــــــة : ” امرأة في الرمال “
 بدت كما لو كانت تطفو كالسمادير* أمام عينيه المخضلتين بالدموع ، كانت ترقد على الحصيرة ، ووجهها إلى الأعلى ، وجسدها كله ، باستثناء رأسها ، مكشوف للعيان ، وكانت يدها ملقاة بخفة على الجزء الأدنى من بطنها ، الذي لاح ناعماً أيضاً . كانت الأجزاء التي يغطيها المرء عادة مكشوفة تماماً ، أما الوجه الذي يسفر الجميع عنه فقد اختفى تحت منشفة أُريد بها ، دونما شك ، أن تحمي الأنف ، والفم ، والعينين من الرمل ، لكن المفارقة ، بدت وكأنها تزيد من إبراز الجسد العاري “[8] .                                                                                        …………………………………………………… ……………………………………………….                                                                                                                                                    * :  السمادير : شيء يتراءى للإنسان من ضعف بصره ، أو غشي السكر ، والدوار ، والنعاس .
                                                                                                                              
ـ الرواية بلا شك كانت بمثابة التمثيل الفني للرمز الأبدي للإنسان .
    إن بعض الروايات لها مصير استثنائي ، لا تموت أبداً ، ولا تغرق في بحر النسيان . وهذه الرواية واحدة من تلك الروايات . وقد سعت منظمة اليونسكو إلى تصنيفها ضمن الأعمال التمثيلية للتراث الأدبي الإنساني . تُرجمت الرواية إلى أكثر من عشرين لغة ، وتم إخراجها في فلم سينمائي حاز على جائزة ” كان ” في عام ١٩٦٤ ، للمخرج الياباني الكبير هيروشي تشيغاهارا . وقد كتب أحدهم متسائلاً ” عندما قرأتها شعرت بعدم الراحة من أثر الرمال ، التي يصعب التعبير عنها بالكلمات . يكاد لا يوجد تطوّر في القصة ، ما ترسمه هو بيت مدفون في الرمال … التركيز على التبادل والتغيرات العاطفية بين رجل وامرأة يعيشان في جحيم الرمال . فلماذا أصبحت تحفة فنية ، وتمّت ترجمتها إلى أكثر من عشرين لغة ؟ ” .
   تعتبر رواية ” امرأة في الرمال ” بالفعل رئيسية في أعمال كوبو آبي ، والتي فازت بجائزة يوميوري المرموقة عام ١٩٦٢ .
   ترتبط رواية ” امرأة في الرمال ” ارتباطًا مباشرًا مع خروج الكاتب من الحزب الشيوعي في ذلك العام ، وتطوره الأيديولوجي من الشيوعية إلى الفردانية ، ويغتبط الباحث الغربي لهذا الأمر ، إذ يعتبره ” انتصاراً للحرية الفردية على الديكتاتورية الشيوعية ” .
   كما هو الحال في كل ما نشره في بداية حياته المهنية ، فإننا نلمح صراع المؤلف مع الأسئلة التي تطرحها الوجودية ـ الطبيعة التعسفية لأنظمة القيم التي وضعها المجتمع ، وفقدان معنى تجارب الحياة بعد انهيار هذه القيم ، والوحدة المتأصلة في الفرد ؛ هي الموضوعات المتكررة في أعمال آبي .
   حينما يختار المؤلف باحثاً علمياً كبطل لروايته ، فهو يضفي على السرد نبرة عقلانية وموضوعية ؛ حيث تشبه دراسة البطل للحشرات دراسة المؤلف للرجال ، وإذ يسعى ( جامبي نيكي ) ، بطل الرواية ، لاكتشاف القوانين الأساسية التي تنظم السلوك الاجتماعي في مجتمع الحشرات ، وبالتالي قوانين الوجود نفسها ، ففي الواقع أنه يبحث في الحشرات ، عن وظيفة يمكن أن تتكيف مع البشر .
ملخص لحبكة الرواية :
   اختفى نيكي جامبي ، بطل القصة ، في يوم محدد من شهر أغسطس.  مستفيدًا من إجازته ، ذهب إلى الشاطئ على بعد نصف يوم بالقطار ، ولم يسمع عنه مرة أخرى. التفتيش الذي قامت به الشرطة والإعلانات في الصحف لم تسفر عن أي نتائج.  بالطبع ، حالات الأشخاص المفقودين ليست في الحقيقة خارجة عن المألوف. ت سجل الإحصاءات عدة مئات من تقارير الأشخاص المفقودين سنويًا. علاوة على ذلك ، فإن نسبة الأفراد الذين يتم العثور عليهم ، إثر فقدانهم ، صغيرة بشكل مدهش .
   ذات يوم ، يزور نيكي جامبي ، بطل الرواية ، قرية في الكثبان الرملية ، أثناء خروجه لجمع الحشرات ؛ وهو يحلم باكتشاف مجموعة متنوعة ، جديدة ، من الحشرات ، التي يأمل من خلالها أن يصيب الشهرة ، ويظهر اسمه في الموسوعات العلمية .                                   
   كان يعتمر قبعة واقية رمادية ، وثمة صندوق خشبي كبير ومقصف معلق على كتفيه ، وأرجل سرواله مدسوسة في جواربه ، مثل شخص يستعد لتسلق الجبل ؛ ومع ذلك ، لم تكن هناك جبال في تلك المنطقة تستحق التسلق.  حتى الحارس الذي أخذ التذكرة نظر إليه بغرابة. استقل الرجل بشكل حاسم الحافلة التي كانت تنتظر أمام المحطة وجلس في الخلف.
كانت السيارة تتجه بالضبط في الاتجاه المعاكس للجبال.  واصل الرجل رحلته حتى نهاية الطريق. عندما نزل ، لاحظ التضاريس المتموجة للمكان.  كان الجزء السفلي منها عبارة عن حقول أرز مقسمة إلى أجزاء صغيرة ، وفي الوسط كانت هناك قطع أراضي من مزارع الكاكي ، مرتفعة قليلاً ، والتي بدت وكأنها جزر متناثرة. عَبَر البلدة وواصل السير باتجاه شاطئ البحر. كانت الأرض تغدو أكثر بياضًا وجفافاً كلما تقدّم.  وصادف غابة صنوبر متناثرة ، كانت الأرض عبارة عن رمال ناعمة تشبثت بقدميه . في عدة أماكن كانت هناك شجيرة جافة تلقي بظلالها في المنخفضات في الرمال ، لا توجد علامة على أي ظل بشري.  في وقت لاحق ، على ما يبدو ، سيكون البحر ، هدف ذلك الرجل.  توقفت قدميه لأول مرة.  راح ينظر حوله ، ويمسح العرق من جبينه بكمه.  فتح الصندوق الخشبي ببطء وأخرج من الغطاء عدة عصي أحضرها في مجموعتة التي يحملها ، وما لبث أن قام بتركيب العصي لتصبح شبكة حشرات.  ثم بدأ يمشي مرة أخرى ، وهو يضرب الشجيرات بمقبض الشبكة . استقرت رائحة البحر على الرمال.  مر الوقت ولكن البحر لم يظهر.  ربما كانت التضاريس المتموجة التي استمرت فيها المناظر الطبيعية الرتيبة بلا حدود حالت دون رؤيته ؛ لكن فجأة انفتح المشهد وظهرت قرية صغيرة ، فقيرة نوعًا ما : عدد قليل من المنازل ، أسقفها الخشبية مثقلة بالحجر ، كانت متجمعة حول برج إنذار حريق مرتفع .
   كان سادراً في أفكار عالم الحشرات ، إلى درجة أن الوقت أدركه تماماً ،  وفاتته آخر حافلة يعود بها إلى المدينة . لذلك لجأ إلى أحد القرويين يطلب مساعدته في تحديد مكان نزل ، يمضي فيه ليلته . وبحجة اللطف ، وإبداء المساعدة ، يقوم القروي وزملاؤه بخداع نيكي ، وحبسه في منزل انفرادي ، يقبع في قعر حفرة رملية عميقة . يتم النزول إليها ، أو الخروج منها بواسطة وحيدة فقط ، وهي سلّم من الحبال . تعيش في هذه الحفرة ـ المنزل امرأة تشارك في نشاط إزالة الرمال ، التي تذريها الرياح ؛ حيث أن القرية  ، وهي قرية صيّادين فقيرة ، معرّضة للدفن تحت الرمال ، التي تتدفق في أرجائها من دون توقف . يلجأ القرويون ، عادة ، إلى صنع حفر عميقة تتجمّع فيها الرمال ، ويتولّى من يمكث في داخل تلك الحفر إزاحة  الرمال وحملها خارجاً . عندما تمّ إنزال نيكي إلى غور المنزل ، سُحب عنه السلّم ، وبدأ يغالبه الإحساس بأنه وقع في الفخ . وحينما تخطره المرأة  بواجبه ـ في المساعدة في استخراج الرمال التي تغمر الحفرة بالدلاء يومياً ، يغضب ، وتثور ثائرته . في مقابل العمل ، سيزودهم القرويون بحصص من الطعام والماء والتبغ وبعض الكماليات الصغيرة من حين لآخر.ـ يرفض نيكي المساعدة ؛ ويشحذ فكره لإيجاد وسيلة مناسبة للخروج من الحفرة والهرب .
   عمل جامبي والمرأة يشبه أسطورة سيزيف  ثمة مهمة شاقّة ، وعمل غير مجدِ . لا نهاية في الأفق ، الرواية تمثل الشكل الفني للرمز الأبدي للإنسان حيث يجري تمثيل أسطورة سيزيف الحديثة .  حكم الآلهة اليونانيون على سيزيف أن يدحرج حجرًا إلى قمة جبل ، ولكنه ما أن يفعل ذلك ، حتّى تسقط وتعود متدحرجة إلى الأسفل ،  وراح يكرر العملية نفسها على الدوام ، لكنه كان يجد سعادة حقيقية في اللحظة التي يصل فيها الحجر إلى أعلى نقطة. استخدم ألبير كامو مثاله في كتابه ” أسطورة سيزيف ” ، حيث قدم فلسفته عن العبث وحيث يستنتج أن الحياة البشرية ليس لها معنى في حد ذاته ، بدلاً من المعنى المعين المعطى لها من قبل كل فرد محدد. لكن هل عالم الحشرات هذا يمثل سيزيف حقّاً ؟ هذا ما يمكن التساؤل عنه ، بجد ، في نهاية الرواية . الرمل يغزو الحفرة والمنزل يوميا.  بغض النظر عن عدد المكعبات التي يستخرجونها ، تعود الرمال بلا هوادة.  يتعلم جامبي أن القرويين يستخدمون تلك الرمال لبيعها للبناء ، على الرغم من أن ملوحتها لا تشجع على مثل هذا الاستخدام .
   حاول نيكي الهروب من الحفرة في خمس مناسبات ؛ تتضمّن محاولته الأولى تجريف الرمال بصورة متكرّرة من أسفل الجرف الذي يحيط بالفتحة ، على افتراض أن مستوى الأرض تحت قدميه سيرتفع تدريجياً ، وسوف يصل في نهاية الأمر إلى مستوى قمة الحفرة . محاولته الثانية هي كبح جماح المرأة ، وتهديد القرويين . المحاولة الثالثة ، هي الهروب من الحفرة والمرأة نائمة ، باستخدام حبل صنعه بنفسه . تتضمن محاولته الرابعة القبض على غراب ، واستخدامه باعتباره حمام زاجل . المحاولة الخامسة هي محاولة التفاوض مع القرويين للسماح له بتسلّق الجرف والنظر للحظة فوق البحر . ومع ذلك فإن جميع محاولاته تبوء بالفشل . محاولته الثالثة للهروب كانت مثيرة بشكل استثنائي ، حتّى أنه نجح مؤقتاً . ومع ذلك فقد وقع في حفرة أخرى أكثر فظاعة  ؛ وكانت حفرة رمال متحرّكة ، أوشكت على ابتلاعه ، لولا أن هرع القرويون لنجدته  ، وإعادته ثانية إلى حفرة  ، بكامل الازدراء ، ومظاهر السخرية .
   وعلى الرغم من كل ما جرى معه ، لم تخر عزيمته ، ولم يضرب الاستسلام أعماقه ؛ فقد بدأ محاولاته لعقد اتصال مع الأناس الذين يعيشون خارج القرية  ، ولأجل هذه الفكرة ، نصب نيكي مصيدة لغراب كان يزور الحفرة من آن لآخر ؛ ولكنه عجز عن الإمساك به ، وبدلاً من ذلك ، توصّل إلى إمكانية الحصول على الماء المستخلص من الرمال الرطبة . وهكذا ينغمس ، كلياً ، في هذه الفكرة ، التي يعتقد أنها ستمنحه الاستقلالية عن القرويين ، الذين طالما قاموا بالامتناع عن تزويده بالماء ، جراء مواقفه العنيدة تجاههم . في هذا الأثناء ، كان لدى القرويون انطباع بأن نيكي سيتخلى في النهاية عن فكرة الهروب من الحفرة ، لأنهم يعتقدون أنه سيقيم علاقة جنسية ثابتة مع المرأة ، مع مرور الوقت ، ولسوف تكون بمثابة زوجته في نهاية المطاف . وبهذا التوقع يجعلون الاثنين يعيشان معاً حتّى النهاية . وكما هو متوقع ، بدأ نيكي علاقته الجسدية مع المرأة ، كانت حصيلتها الحمل . حينما بدأت المرأة في المخاض ، قام القرويون بإنزال حبل من أعلى الحفرة لنقلها إلى المستشفى . لسبب ما يبقى السلّم المصنوع من الحبال في مكانه ، ويحصل نيكي ، أخيراً ، على فرصة مؤاتية للهروب ، غير أنه لا يفعل ذلك ، ويقرّر البقاء! . ويعود لينهمك في في متابعة عمله مع مصيدة الماء .
   يجد البعض في هذه الرواية كقصة رمزية ليابان ما بعد الحرب ، كعالم مصغّر ، ينطوي على مختلف الصراعات : الصراع بين الرجل والمرأة / والصراع على الفضاء الحضري مقابل الفضاء الريفي ، والصراع الفردي مقابل المجتمع ، والصراع الحضاري  مقابل الطبيعة .
   تتحدث الرواية منذ بدايتها عن الفقد ، حيث يستهلها كوبو آبي بعبارة ” اختفى رجل ، ذات يوم من أيام أغسطس “[9] . ذهب الرجل إلى شاطئ البحر في إجازة قصيرة لا، وكان الهدف من وراء رحلته جمع نماذج من الحشرات . وطُرحت الكثير من التكهنات حول سرّ اختفائه ، ولكن ظل هذا الاختفاء غامضاً في النهاية . وبما أنه لم يتم العثور على الرجل ، أو على ( جثته ) ، بقيت تلك التكهنات من غير أساس . وكان اختفاء الرجل لمدة طويلة  ، فقد انقضت سبع سنوات من دون أن يعلم أحد بحقيقته ؛ حتّى اعتبر أخيراً ـ وفق القانون المدني الياباني ـ في عداد الأموات .
   ومنذ البداية ، أيضاً ، تم تعبئة الرواية بالعزلة ، حيث ينخرط كوبو آبي في جرد حقيقي لأحوالنا البشرية  ، التي تميّزت بهشاشتها : حيث الضعف ، الفوضى ، العنف ، والجنس ، والزواج ، والموت ، والأمل ، والزمن ، والوحدة ، وصعوبة التواصل ….                                                                                                                                                              وتسمح له نظرته الفلسفية العميقة بالتعبير عن مختلف الموضوعات النفسية ، والاجتماعية ، والوجودية ، بطريقة تميّزت بغرابتها الملفتة للنظر .
   ” من الملاحظات الجديرة بالاهتمام ، إن المرأة ، والحفرة ، والقرويين ، لا توجد لديهم أسماء في الرواية ، أي باختصار هم كيانات مجهولة الاسم . ومن المثير للاهتمام أن بطل الرواية لا يحاول الاستفسار عن أسمائهم ، ولو لمرة واحدة . وكاد نيكي أن يفقد اسمه هو الآخر بعد أن حُوصر في الحفرة في النهاية . ومن المحتمل أيضاً ، أن يصبح رجلاً مجهول الاسم تماماً بسبب زواجه من امرأة لا اسم لها  . وهذا سيناريو يتعارض مع طموحه الذي كان يسعى إليه في بداية الأمر ، حينما كان يحلم بظهور اسمه في موسوعات علم الحشرات المصوّرة “[10] .
   سيقضي جامبي الليلة مع امرأة تجعله ، منذ لحظة وصوله تقريبًا ، يفهم أنها تتوقع منه البقاء معها إلى الأبد.  وبالفعل ، فإن الرجل يقر محاصراً في قاع الحفرة ، التي تمسك به مثل عنكبوت الرمال .
ومع ذلك ، فإن امرأة الرمال ليست حيواناً مفترسًا بقدر ما هي طُعم يتم وضعه في قاع الحفرة الرملية ، ويستخدم جزئيًا كإغراء للرجل من أجل إبقائه في قرية معرضة لخطر ابتلاع الكثبان الرملية.  تعتبر “امرأة في الرمال” رواية ما بعد حداثة بلا ريب ، لكنها تعلمنا شيئًا عن العناد وعدم جدوى بعض الوظائف. أيضًا حول القدرة البشرية على الاستسلام لما لا يمكن تخيله وينتهي الأمر بقبول الظروف التي تمكنت يومًا بعد يوم من فرضها. القرويون ، بمن فيهم المرأة ، مصممون على حماية قريتهم وإبعاد الرمال التي تهددهم. إنهم يكدحون يومًا بعد يوم في وظيفة ، على الرغم من أنها لا تتراجع ، إلا أنها لا تتقدم أيضًا.  وهم على استعداد لارتكاب أي عمل من شأنه مساعدتهم على مواصلة قتالهم. الإنسان ، من جانبه ، لا يستسلم لوقوعه في شرك تلك الحياة المؤلمة.  ومع ذلك ، حتى رغم إرادته المصممة على الفرار في جميع الأوقات ، فإن روابط العادة والانتماء تحاصره دون أن يدرك ذلك. إنها لعبة الإرادات التي كشفها كوبو آبي بنجاح وضبط النفس .  يرغب الرجل في الهروب من أسره ولا يتنازل دقيقة واحدة عن جهوده. لكن في الوقت نفسه ، تسجنه قيود الحياة اليومية دون أن يدرك ذلك.
   ربما تكون ” امرأة في الرمال ” هي أشهر أعمال كوبو آبي ، ومن أكثر الروايات قمعاً وشدّة ، مع دلالات كافكوية واضحة النهج ، حيث يتعين على الشخصية أن تواجه موقفاً غريباً أو سخيفاً ، وهو الموقف الذي يستخدمه آبي ليطرح هراء الوجود .
   في رواية آبي ، الرجال ليسوا أكثر من حشرات تقاتل ضد مصير محدّد سلفاً . إذا كان هناك شيء ما يميّز هذه الرواية ، فهو الشعور بالقمع والعزلة . كتب كوبو آبي يقول  ” يجب ألّا يهرب الناس من الشعور بالوحدة ، ما هو ضروري ليس التعافي من الوحدة ، ولكن قبولها كشيء لا مفر منه ، واستكشاف المجهول في الوحدة ” . ” امرأة في الرمال ”  رواية منوّمة ، حيث الرمل يغزو كل شيء . حينما تواصل قراءة الرواية لا تشعر بأي نمو وتطور يُذكر في أحداثها ، ثمة صراع داخلي ، وآخر خارجي ، يتأجّج أواره ، ثم يخفت منحسراً ؛ ” بينما يجادل البعض بأننا بحاجة إلى قراءة كتاباته غير الخيالية لفهم أفكاره تماماً ، وكأنها عبارة عن مجموعة من التأملات المتصلة ، مرتّبة في بعض الأحيان في شكل سؤال وجواب فضفاض “[11] .
   الرمل هو المجاز الحاكم في الرواية ، كونه موجوداً في كل مكان ، ويتخلّل الأفكار ، والإيحاءات ، والتخيلات ، والتأملات ، وأفعال بطل الرواية . هي ترمز إلى الواقع المتغير ، الذي يحتاج فيه بطل الرواية إلى أن يتصالح مع نفسه ، ومع واقعه ومحيطه ؛ والذي يحتاج فيه إلى ترسيخ الجذور ، لترسيخ وجوده . فسّر العديد ممن درس ، أو كتب عن هذه الرواية أهمية رمزية الرمال بطرق متنوعة .  لماذا الرمل ؟ ” من المؤكد بأن الرمل ليس بالوسط المناسب للحياة ، ومع ذلك أ ليس هو بالشرط الثابت الذي لا غنى عنه لصورة مطلقة للوجود ؟[12] .
   الرواية ، إجمالاً تدور في قرية يتحكّم فيها قانون الرمال ، التي تهدر ، وتتدفّق مثل شلال . الرمال في كل مكان ، ليس حوله فقط ،  بل حتّى في الماء الذي يشرب منه ، وحتّى في فمه . وتبدأ أفكاره وأحاسيسه تتناوب بين الغضب والعنف ، وبين التأمل الفلسفي .
   يتيح له العزل في قاع الحفرة ، وقتاً للتفكير ومراقبة الرمال جيداً . إن الحصول على معرفة أفضل لهذا العنصر هو دائماً شيء ينتزع من العدم ؛ ” بنظرة واحدة أصبحت المرأة تمثالاً مغطّى بالرمل الناعم ” . يمكن أن يكون لأثر طفولته في منشوريا تكرار استخدامه لصور الرمال ، والصحراء ، والخلط بين الطابع الحضري والريفي ، والطابع غير الواقعي لليابان وثقافتها ( الغربية ) ، والسعي وراء الهوية ، والشعور بالغرابة الذي يميّز شخصياته .
   وجد نيكي جامبي نفسه مجبراً على ملأ الدلاء بالرمال ، أيضاً ، حيث يتولّى القرويون رفعها ، ونقلها بعيداً .. ” لكن هذا يعني أنك على قيد الوجود لا لشيء إلّا لإخلاء الرمل ، أليس كذلك ؟ ” [13] . وحين يتأمّل نيكي المرأة التي تشاطره العيش في الحفرة ، يجدها مستسلمة ، مذعنة لقدرها ، ويرى أن العمل الذي اعتادت المرأة القيام به مناف للعقل ، عبث ، كان كل شيء مفارقاً للمعقول ، ومخيفاً للغاية . صار ينظر إلى المرأة على النحو التالي : ” امرأة تشبه الحيوان … لا تفكّر إلّا في اليوم ، لا أمس .. لا غد ، وقد حلّت نقطة محل قلبها . عالم اقتنع فيه الناس بأنه من الممكن محو البشر كعلامات الطباشير من فوق سبورة . لم يكن بمقدوره في أكثر أحلامه جموحاً أن يتصوّر أن هذه النزعة البربرية لا يزال لها وجود في أي مكان من العالم “[14] .                                                                                                                                                                                       وعندما سألها سؤالاً جارحاً عن سبب عدم تفكيرها بالخروج من المنزل هذا إلى فضاء القرية ، أجابته بقولها أن ليس هنالك سبب يدعوها للخروج ! .
   عانى معاناة رهيبة ، حينما وجد نفسه عالقاً ، بل مدفوناً في تلك الفجوة الغائرة بين الرمال ؛ وبات عاجزاً عن فعل شيء ، وتوقّف عن الحركة . لم يعد بوسعه إدراك ما يجب أن يفعله ، فقد أعمى اليأس بصيرته . ولكنه تمالك نفسه في نهاية الأمر ، وأخذ يجرّب بضعة محاولات تمكنه من الهروب . فشل فيها جميعاً . في كل مرّة كانت آماله تخيب ، لكن الخوف لا ينبغي أن يستبد به ، وقاوم الانهيار ، ” الهزيمة تبدأ بالخوف من أن المرء قد خسر الصراع “[15] .
   حينما عاد من مغامرات هروبه خائباً ، أخذ يلوذ بالمرأة ، ويرتبط معها بعلاقة جسدية شبه منتظمة . كانت المرأة حزينة وبائسة ، وكان في سلوكها ، وأقوالها ما يعني أنها تواسيه ، وتدافع عن إخفاقاته .                                                                                                                                                                                                                       ” قالت له : هل أغسل لك ظهرك حينما يسخن الماء ؟ .                                                                                                                                                                                      فجأة تدفّق في أعماقه أسى بلون الفجر ، بمقدورهما على حدّ سواء أن يلعق أحدهما جراح الآخر ، ولكنهما سيظلان يلعقان إلى آخر الدهر ، ولن تبرأ الجراح أبداً ، وفي نهاية المطاف سيهترئ لسان كل منهما . لم أفهم الأمر ، لكن الحياة ، فيما أظن ، ليست بالشيء الذي يستطيع المرء أم يفهمه “[16] .
   مرّت الأيام عليه ، وهي حبلى بالرمل والليل . كان يحاول أثناءها التأقلم مع عالمه الجديد هذا . وبدأ يكرّس اهتمامه بالتفكير في تحسين ظروف حياته ، بما في ذلك تطوير جهاز بدائي اخترعه لتجميع الماء النقي من أعماق الرمال الرطبة ؛ وقد أنعشته هذه الأفكار كثيراً ، معتقداً أنه لم يعد يخضع لأوامر وسلطة القرويين ، حتّى لو امتنعوا عن تزويده بالماء ـ كعقاب له . وهذا ما راح يدفعه إلى الشعور بالتحرّر ، نوعاً ما ، كما لو أنه بات خارج محبسه ” وربما كان قد وجد جنباً إلى جنب مع الماء في الرمال ، ذاتاً جديدة “[17] . عندما اكتشف شخصيته ، تغيّرت حياته ، فجأة ” شعر بنفس الروح كما لو كان على قمة برج سامق ” ؛ وانقلب العالم  رأساً على عقب بالنسبة له .
   نتيجة لعلاقته المتواصلة مع المرأة حملت منه . وذات يوم بدأت تنزف ، وداهمها المخاض ، وتمّ تشخيص حالتها بحمل خارج الرحم ، وتوجّب إخلائها في الحال . وحينما تم رفعها من الحفرة ونقلها ، تُرِكَ السلّم في مكانه ، وبذلك توفّرت لنيكي فرصة الهروب ، غير أنه لم يفعل ذلك ! تراجع عن استثمار تلك الفرصة ، وفضّل البقاء ، إلى جنب تلك المرأة ، التي أعطته ما لم تعطه له زوجته في طوكيو . تُرى هل سجنه يولّد حريته ؟ . إنه بدون شك وجد معنى جديداً لوجوده . ومثل هذا الموقف الصادم ، هو جزء من المواقف الصادمة ، والهويات المشوّشة ، والمنهارة ، لشخصياته ، التي تشكّل سمة مميزة لأعماله ، التي شُحنت بالمضايقات الإنسانية ، في المجتمع المعاصر . ” يصرّ كوبو آبي على أنه حتّى قبل أن ينتمي الإنسان إلى نفسه ، فهو ينتمي إلى الوقت ، أي أنه يظلّ معرّضاُ بشكل أساسي لظهور تغيير يتفوّق عليه مراراً وتكراراً ، ويحدّده بطريقة أخرى [18] .
   ربما كان قدومه إلى القرية نهائياً ، هكذا عبّر عنه :                                                                                                                                                                                           ” ـ ابتعت بطاقة سفر بلا عودة ، وو … وو                                                                                                                                                                                                           إذا أردت أن تغنيها فغنّها … وما بطاقة السفر بلا عودة إلّا حياة مفكّكة الأوصال ، تفتقد الروابط بين الأمس واليوم ، واليوم والغد “[19] . يبدو أن الحفرة نجحت أخيراً في القبض عليه . واستسلم ليمضي فيها حياته ، ليعيش كما تعيش حشرات الرمال . ” هذه قصة تحوّل جامع الحشرات إلى حشرة “[20] . وبهذا المعنى فإن رواية كوبو آبي تعبّر عن رؤيا كافكوية خالصة ترى أن الرجال ليس أكثر من حشرات تتقاتل ضد مصير محدّد سلفاً .
   تحمل الرواية بين ثناياها نقداً للمجتمع الياباني الذي بدأ يتشكّل بعد الحرب العالمية الثانية : مجتمع قائم على نظام رأسمالي ، وجماعي ، حيث تأتي منفعة الأمة قبل أي شكل من أشكال الفردية . وهي رواية تتجلّى فيها مظاهر الوجودية بحدّة ، عندما أثار قضايا مثل الوحدة ، والعزلة ، والهوية الفردية ، في مواجهة الاغتراب الجماعي ، أو حتّى تجريد المجتمع من إنسانيته . يلعب البطلان الرئيسيان أدواراً متعارضة في سيناريو الاغتراب هذا ، إذ تمثّل المرأة امتثال القطيع ، بينما يمثّل جامبي الفردية والطموح .
                                                         ◘◘◘
الأسلوب الذي كُتبت به الرواية مريح للقراءة ، هكذا يصفه العديد من القرّاء في تعليقاتهم ، وهو بدون شك أسلوب رصين . وفيه ينحى كوبو آبي منحى التفصيل الدقيق في جميع أنحاء الرواية ، تمكّن الكاتب من طبع مرونة ملموسة على النص . آبي مهووس بالتفاصيل ، في بعض الأحيان بخيال مزعج ، أو ساخر ، أو يشبه الحلم .الرواية مليئة بالإشارات إلى الحواس ، للحرارة والروائح واللمس وطعم الرمال .
   هناك استخدام دقيق لضمير المتكلم ، والزمن الحاضر ، في قصة مكتوبة عموماً في الماضي ، كما يثري النص بفروق دقيقة  . إنه يتعامل في غاية الدقة ، ويبدو أن فترة دراسته وعمله في مجال الطب ، والمجالات العلمية الأخرى ، قد جعلته يصف المواقف ، والكثير من المشاعر المتنوعة بدقة متناهية ؛ ناهيك عن إيراده للكثير من الحقائق العلمية أثناء السرد .
   ورواياته غنية بالتأثيرات الرمزية ، والميتافيزيقية ، وتستخدم مزيجاً مثيراً للفضول من الواقعية التفصيلية ، والخيال الغريب المرعب . وتفتقر أعماله إلى السمات التي يمكن تصنيفها على أنها يابانية حقّاً . فهي تفتقر إلى الهدف ، والشكل ، ونمط العمل الأدبي الذي صاغه ووصفه أسلافه اليابانيون . كما أنه لم يتابع ، ولم يتأثر بالأشكال الثقافية التقليدية مثل مسرح النو في أعماله . وكان أن أعرب العديد من دارسي الأدب الغربيين عن خيبة أملهم بسبب افتقار أعماله للعناصر والصفات اليابانية التي تصوّر أشياء يابانية حقّاً ، وهو شخصياً لم يرَ في نفسه كاتباً يعكس الثقافة والتقاليد اليابانية ، لأنه لم يكن يعرف سوى القليل عنها .
   كان ماهراً في استخدام التشبيهات  ، وهي ظاهرة مرتبطة ارتباطاً بطريقة النظر إلى العالم ، والموقف تجاه المجتمع والطبيعة ” طريقة التفكير تتجلّى في التشبيهات ” . لوحظ أنه يستخدم بنية تشبه السلسلة من التشبيهات ، وعادة ما يصف الشخصية بعدة طبقات من الوصف ، في شكل منظّم .
   قد يكون من الصعب فهم محتوى عمل آبي ، لكنه يتميّز بعنصر إستعاري قوي ، في منظور العالم غير الواقعي ، يتم الانتهاء منه بأسلوب يمكنك أن تشعر به مثل الدرس . بالإضافة إلى ذلك فإنه يستعمل لغة تحليلية يهتم بتركيب الجمل فيها كلمة كلمة ، إضافة إلى ثرائها بالمفردات التقنية ، وكلها أمور رائعة .
” حاول التفكير في شيء آخر ، وعندما أغمض عينيه ، أقبل عدد من الخطوط الطويلة ، متدفقة كالتنهدات ، طافياً نحوه . كانت هذه الخطوط تموّجات رمال تتحرّك فوق الكثبان ، ربما كانت الكثبان تحترق متغلغلة في شبكة عينيه ، لأنه كان يحدّق فيها بشكل ثابت طوال أثنتي عشرة ساعة . لقد ابتلعت تيارات الرمل ذاتها مدناً مزدهرة ، وإمبراطوريات عظمى ، وألحقت الدمار بها ، ويطلقون على ذلك ، ابتلاع الرمال للإمبراطورية الرومانية ، إذا ما أصاب فيما تذكّره . والقرية التي لا يذكر اسمها ، التي قال عمر الخيام شعراً فيها ، بخياطيها ، وجزاريها ، وأسواقها ، وسككها ، المضفورة كطيّات شبكة لصيد الأسماك . كم من السنين انقضت في الكفاح وتقديم الملتمسات لتغيير ضفيرة واحدة ! المدن القديمة التي لا يشكّ أحد في رسوخها .. غير أنها بدورها عجزت ، في نهاية المطاف ، عن مقاومة قانون الرمال المتدفق ، ذات القطر الذي لا يتجاوز ثُمن المليمتر “[21] .
   على الرغم من كونه كاتباً ” مستقلاً ” ينأى بنفسه عن الأدب الياباني الذي استحم ، وما زال مغموراً في المذهب الطبيعي ، وأدار ظهره إلى الأسلوب الجمالي ، والمدرسة الحسية الجديدة ، التي أنجبت ياسوناري كواباتا ؛ إلّا أنه ـ بحكم يابانيته المترسخة في دمه ولحمه ـ لم يخلُ أدبه من تلك الحسية الرائعة التي ميّزت اليابانيين عن غيرهم من الأدباء ، حيث تجود أعماله بما تعبّر عنه الحواس الخمس . وفي روايتنا هذه ، ينجح لآبي في بناء عمل يفيض بالحسية الملموسة ؛ حيث يمكن للقارئ تقدير قوام الجلد ، والرمل ، والجفاف ، ولا سيما في وصف فم بطل الرواية . إن لآبي دقيق في إعادة تكوين الصور الحسية : حرارة الشمس ، نعومة الجلد العاري للمرأة ، العطش ، الإرهاق ، الخوف … وفي غضون ذلك يصف مرور الوقت بإيقاع الساعة الرملية .
   وثمة أمر آخر جدير بالذكر ، وهو أن كوبي آبي يشترك مع زملائه من الكتّاب اليابانيين بميزتهم في التقاط الصور ، واللمحات الجنسية الغريبة ، أو الغير مألوفة ؛ وعرضها بطريقة طبيعية جداً تذهل القارئ ، وتضفي على أجواء العمل الأدبي متعة أكثر ؛                                                                                                                                             ” ـ أمستيقظ أنت ؟                                                                                                                                                                                                                                        سألته ، على استحياء ، ومن ركني عينيه نصف المغمضتين لاحظ استدارة ركبتها ، تحت سروال عملها ، ردّ بأنّة لا تخلو من الكلمات “[22] .
  
                                                         ◘◘◘
تنويه : إثر قراءتي لرواية ” امرأة في الرمال ” ،  نبع في ذاكرتي قول لأحد الكتّاب :                                                                                                                                           ” ما يتدفق من الكتب هو المرض العميق الأثر ” .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *