إثر غياب طويل ، هيأت لي سانحة التجوال مساءاً ، اللقاء مع صديقي الكاتب عارف حميد ، وهو كاتب أدبي كسول جداً . ـ كيف تواريت طوال هذا الوقت ؟ . سألني ، وهو يطبع على وجهه ابتسامة مثلومة الأسنان . بدا متقدّماً في العمر ، وذبل عوده .
كان برفقته رجل في الثلاثين من العمر ، قصير ونحيف ، وعلى وجهه فاضت تعابير الريبة والفزع ، وقد زاد من حدّتها ، تلك البذلة التي كانت تغمره ، والتي تلوح مثل قطعة عشب نال منه العطش ، وهي تفيض عليه بشحوبها من غير إنصاف . ولم يكن واقفاً بقربنا تماماً ! ـ أعرّفك بصديقنا القاص ( ب . ع ) . ومددّت له يدي مصافحاً ، ورحبّت به ، وأنا أخبره بأنني اطّلعت على بعض قصصه التي ينشرها في صفحته الإلكترونية . حينذاك ، نظر في وجهي وقد تفاقمت تعابير فزعه ، وقال : ـ الحق ، أنني كنت أكتب الرواية في بدايتي ، غير أنني جافيتها الآن ، واكتفيت بكتابة القصة القصيرة جداً . رفع نظارته إلى أعلى قصبة أنفه ، وحدّق في عيني ، واستطرد قائلاً : ـ كتابة الرواية ترهقني ، وهي ، بعد ، تأكل الوقت بأكمله . يمكنني أن أكتب القصة القصيرة بيسر ، بل أنني ، الآن ، أكتب في كل يوم ثلاث قصص قصيرة جداً . ـ ماذا ، ثلاث قصص في اليوم الواحد ، هل هذه وصفة طبيب ؟ . ـ وهل تعدْ ذلك كثيراً ؟ .. إنها مجرد شذرات من بضع كلمات ، لا تربو على سطرين أو ثلاثة أسطر لكل قصة . ـ ولكن الإفراط في الكتابة قد يهلهل الأفكار ، ويصيب المعنى بالضحالة . في دخيلتي ـ تبادر إلى ذهني ، أنه ربما في سيولة كتاباته ما يسدّ النقص من كسل صاحبنا عارف حميد !
في الواقع ، كان اعترافه صادماً لي ، فكّرت أنه يستطيع كتابة تسعين قصة في الشهر ، على هذا المنوال ، ولذلك سألته بخبث : ـ هذا يعني أنك قادر على إنجاز كتاب قصصي كل شهر تقريباً ؟ ـ يُفترض ذلك ؛ ولكن إخبرني ، كيف وجدت قصصي التي قرأتها ؟ . ـ نعم ، تيسّر لي قراءة بعض ما نشرته في المواقع الإلكترونية منها ، وليس جميعها .. ـ قلْ لي بصراحة ، هل أعجبتك ؟ . ـ ذلك يتطلّب مني إعادة التفكير … ولكن إجمالاً ، يمكنني التنويه إلى أنك ، بل وأغلب من يكتبون القصة القصيرة جداً من أقرانك ، درجتم على أن تحوموا حول المعنى طويلاً ، وهذا سيء .. ـ وما السوء في ذلك ، إذا كانت القصة تنجح في إخراج المعنى ؟ .. ـ يا عزيزي ( ب . ع ) ، إنكم تتشبثون بفيض من العبارات في سبيل إيضاح أفكاركم ، وتقديم معناها ، وهذا التفريط يخل بفرادة القصة القصيرة جداً ومزاياها ، إن سرّ هذا النمط من القصص هو التمسّك بالحد الأدنى المطلق من الكلمات ، والتي تحمل بين طياتها معنى غزيراً . خذْ مثلاً هذه القصة التي كتبها إرنست همنغواي ، صاغها الرجل من ست كلمات فقط ، وكسب بها رهاناً مع بعض من زملائه ؛ والتي قال فيها ” للبيع ، حذاء طفل ، لم يُلبس أبداً ” ، وكانت فكرتها الحزينة صادمة ، جعلت الدموع تخرّ من متحديه في الحال . أو خُذ قصة الغواتيمالي أوجوستو مونتير وسو ، القصيرة جداً ، حينما كتب يقول : ” عندما استيقظت ، وجدت الديناصور ما زال هنا ” ، لو تعلم يا ( ب . ع ) كيف ألهمت هذه الكلمات السبع نقّاد الأدب بالكثير من التفسيرات الوجودية . ولكن مهلاً يا عزيزي ، لمَ أنا أذهب بعيداً هكذا ، ولا أحدّثك عن حكاية ، لم تزل ذاكرتي تحتفظ بها منذ عقد الخمسينات من القرن الماضي ؟ .. عندما أراد أحدهم العودة من مدينة بغداد إلى ضواحي مدينة ( الناصرية ) *على متن قطار كان يصل ليلاً إلى محطة هذه المدينة ، وحيث تقفر المحطة في مثل هذه الأوقات ، وتمسي خالية من أية وسيلة لنقل المسافرين إلى داخل المدينة أو ضواحيها ؛ فأرسل برقية إلى أهله يطلب منهم الاحتياط للأمر قبل أن يستقل القطار ، إذ أبرق لهم أربع كلمات لا غير .. أربع كلمات كانت تضم بين جنباتها حكاية عودته من السفر كاملة ، حين كتب يخبرهم : ” فرس ـ محطّة ـ حسين ـ يركب ” . وغرب ( ب . ع ) في ضحكة عميقة ؛ كان جسده النحيف يهتزّ ، وتناثرت تعابير فزعه على وجهي ويديّ . ولكنني أوقفته ، وأخبرته أن هذا ما حدث حقّاً ، ولست أروي نكتة ساذجة . وقلت له بحزم : ـ كانت تلك قصة قصيرة جداّ ، من أربع كلمات فقط ، كّتِبَت قبل أن يكتب همنغواي قصته .
◘ ◘ ◘
وفي أعقاب مدة وجيزة ، تيسّر لي أن أقابل صديقي ( عارف حميد ) ثانية ، وكانت أحاديث الأدب تستحوذ على لقاءاتنا عادة ؛ وقد بادرته بالقول : ـ قرأت ثلاث قصص قصيرة جداً ، نشرها صديقك ( ب . ع ) في صفحته الإلكترونية منذ يومين . تهلّلت أسارير صديقي ، وابتسم بلطف ، ثم قال : ـ حقّاً ، لم ألاحظ ذلك ، ما تقييمك لهذه القصص ؟ . ـ يؤسفني أن أقول لك أنها قصص تفتقر إلى التماسك والمعنى ، مشوبة بالعديد من الأخطاء . وفي الحال غامت ملامح وجه صديقي ، لكنني استطردت أقول على سجيتي : ـ إنك تعلم يا صديقي ، أن تواتر الأخطاء في أقاصيص لا تزيد عن بضعة سطور سيجعل منها مسخاً . نكّس صديقي رأسه ، وقال بشيء من الأسف : ـ كنت أنصحه على الدوام أن يتريث في النشر ؛ وأطلب منه أن يعرضها علي ، أو يعيد قراءتها مرّات ومرّات ، لكنه ما يلبث أن يتسرّع في نشر قصصه مع تِّبْنها . وأسبغت الكلمة الأخيرة ، التي تلفّظ بها ، المرح على موقفنا ؛ فابتسمت وقلت له : ـ إنك تعترف بأن كتابته غالباً ما تكون ممزوجة مع التِّبْن .. في هذا اللقاء أدركت أنهما يشيران إلى كل ما يشوب النثر من سفاسف ، وأخطاء برمز التِّبْن الذي يشوب محصول البيدر .. يا لمرحهما !
في مساء آخر ، كانت لي إطلالة على صفحة ( ب . ع ) الإلكترونية ، وقد وجدته قد أعاد نشر تلك القصص الثلاث ، بعد أن نقّحها وصحّحها ثانية . وحسناً ما فعل . ولم تكد تمضي ساعة من الوقت حتّى اتصل بي صديقي ( عارف حميد ) ، عبر التلفون ، ليبلغني بأمر هذه الأقاصيص . فخاطبته قائلاً : ـ نعم ، قرأتها للتو ، وهي خالية من الشوائب . ـ وهل أعجبتك الآن ؟ .. في الواقع ، صدمتني رغبة صديقي الملحّة ، للتعرّف على موقفي من تلك الأقاصيص ، مثلما أثارت لدي بعض الشكوك . غير أنني لا أعلم ، لغاية هذا الوقت ، لمَ أسرعت في الردّ على سؤاله بمثل تلك الفجاجة وذلك الحمق ، عندما أجبته قائلاً : ـ كلا ، لم تعجبني .. ـ لماذا ؟ .. واكتست نبرة صوته بما يشبه الحشرجة .. ـ لأنها أمست بلا طعم . ـ كيف ؟ .. ـ كيف ؟ .. ألا ترى أنها خالية من التِّبْن ؟ .