
الإحساس بجمال الفصول الأربعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمود يعقوب .
وحدة الإنسان مع الطبيعة أزلية ، لا يمكن نكرانها . كلاهما يكمّل بعضهما البعض ، ويتبادلان التأثير وفق ظروف كل منهما . والطبيعة ذاتها ليست على حال ثابت ، بل تتغير أثناء رحلة الأرض حول نفسها ، وحول الشمس ؛ فلابدّ إذن أن يكون حال الإنسان متغيراً كذلك . كلٌ منّا يحب موسماً معيناً ، ويفضّله على غيره من المواسم ، يمكن القول أن هناك آراء مختلفة . وهذا التفاضل ينبع من خيارات عدّة ، تأتي الخيارات الجمالية ، المحدّدة بالموضوع الجمالي ، في مقدمتها . وثمة خيارات صحية لها ارتباط وثيق بعمل ونشاط أعضاء الجسد البشري ، تحدّد الملائمة المناسبة لفصول السنة . ولا ننسى أن هنالك خيارات اقتصادية ، معيشية ، تغلّب حبّ فصل من الفصول بعينه ؛ وربما يكون هذا الخيار من أهم الخيارات الأخرى ، فمنذ صغري ، وأنا أسمع أن الصيف هو صديق الفقراء ، والموسم القريب إلى نفوسهم ، على الرغم من لهيب حرارته ، وقسوة طقس أيامه الطويلة . ذلك لأنه يزخر بالعمل ، والعطاء ، ويبسط بين أيادي الناس موائد عامرة بمختلف صنوف الطعام ، والفاكهة ، والخضار ، ناهيك أنه يدفع عن كواهلهم نفقات الملابس الثقيلة ، والدثار السميك ، والوقود ، وما إلى ذلك ..
الفصول الأربعة التي تمرّ على الطبيعة ، تعطي للإنسان أحاسيسَ ومشاعرَ مختلفة ، ولكن بمجموعها تجعل الإنسان يشعر بالحياة وجمال فرصتها التي منحها لنا الله. وقد يذهب الإحساس بالطبيعة ، والتناغم مع جمالها ، وتبدّلات أحوالها إلى حدّ مذهل ورهيف للغاية عند بعض الأقوام والشعوب ، كما هو الحال بالنسبة للشعب الياباني ، الذي لا ينفك عن تقديس طبيعة بلاده الغنّاء . فاليابانيون ، ومنذ القدم ، كانوا حسّاسين بفطرتهم حيال الطبيعة ، وما تشهده من تنوّع في رونقها ، جرياً مع تبدل أحوال الطقس والمناخ ، إلى حدّ أنهم وضعوا تصنيفاً ، قديماً ، يُسمّى (الفصول الأربعة والعشرون ) الذي يقسم السنة إلى أربعة وعشرين مناخاً ، وفقاً لحركة الشمس فوق الأراضي اليابانية . وهو تقويم استخدمه اليابانيون منذ فترة هييان ( ٧٩٤ ـ ١١٨٢ ) ، وما زال اليوم يستخدم كمؤشر موسمي . وكذلك الحال ، أيضاً ، اعتمد التقويم الصيني القديم على أربعة وعشرين مصطلحاً شمسياً .
الطبيعة زاخرة بمظاهر الجمال الذي يجلبه كل فصل من فصول السنة ، والإنسان يستشعر بقدر وآخر هذا الجمال ، وما يجلبه للنفس البشرية من طمأنينة وراحة . وعندما يتعلّق الأمر بالإحساس الجمالي حيال فصول السنة ، نرى أن فصل الشتاء فصلاً حالماً . يحب الصغار بمشاعرهم البديهية ، الحسّاسة هذا الفصل ، حيث الانزواء بين جدران المنزل ، وقرب المواقد ، وانغماسهم باللهو بأمان ، بعيداً عن أهوال الطقس . جميع الأطفال يبهرهم مراقبة المطر النازل ، عبر نوافذ الدار ، كما يبهجهم مرأى رقائق الثلج ، وهي تتجمّع فوق بعضها على أرض العراء ؛ إنهم جميعاً يهرعون للعب بحماس فوق الثلج . الأطفال يحبون الشتاء إلى درجة أنهم لا يهتمون إلى البرد . ولكن حبّ الشتاء ليس حكراً على الأطفال وحسب ، فهنالك أعداد من البالغين الذين يستهويهم هذا الفصل أكثر من غيره ، وهناك الكثير ممن ينجذبون في هذا الموسم إلى مزاولة رياضتهم الشتوية التي يفضلونها على غيرها ..
تتأثّر الثقافة بشكل حسّاس تجاه تبدّل فصول السنة ، ولا أدل على ذلك أكثر من تبدّل المطبخ مع تلك الفصول ، فالإنسان ـ وهو يولي عناية بالغة لطعامه ـ يتهيأ لكل فصل من فصول السنة بأنماط من الغذاء ، تختلف كثيراً أو قليلاً من موسم لآخر . كذلك يوقظ التبدل الموسمي بعض أنواع الحرف المهنية ، التي توصف بأنها حرف موسمية ، تنتعش في موسم واحد من السنة وحسب . فمثلاً باعة المرطبات والمثلجات ينتظرون الصيف بصبر فارغ ، بينما باعة الحطب والوقود تظل عيونهم تصبو لموسم الشتاء دائماً .
لجميع الفصول رونق خاص بها لدى الناس . والألوان التي تولد مع فصول السنة يتردّد صداها في الروح . إن الجلوس في الداخل والنظر إلى الخارج لا يكفي لفهم المواسم والتمتع بمزاياها ؛ لا بدّ من الخروج إلى ربوع الطبيعة ، والنظر إلى سحرها عن كثب ، وتنسم عبقها ، وسماع صدى أنفاسها .
وعلى المستوى الشخصي ، أنا عاشق لموسم الخريف ، الذي يقبل علينا في هذه الأيام من السنة . لا يوجد فصل يكون فيه التغيير ملموساً مثل الخريف . في هذا الفصل تتدفّق الألوان على سطح الأرض ، من تلك الأوراق الرطبة التي تتساقط من الأشجار ببطء ، لتغطي الأرض بألوانها الذهبية ، والصفراء ، والبُنية ، الجميلة المنظر , في صباح الخريف ، يلتقط المرء أنفاساً صافية وعليلة ، وفي المساء تشتعل النيران السماوية في الأفق ، عند الغروب ، في غاية الروعة ..
يكتب أحدهم قائلاً :
” لدي قلب خريفي ، ناري وعاطفي ، برّي وفوضوي ” .
المتأمل بعمق في جوهر موسم الخريف ، يمكن أن يخلص إلى فكرة يستلهمها من تجرّد الأشجار عن أوراقها ، وهي أن يستعد المرء للتجرد عن ذاته القديمة ، ويلبسها حلة جديدة ، أكثر رونقاً وجمالاً ، بين أبناء مجتمعه ؛ وهذا هو نوع من الإلهام الروحي الجليل ، الذي يقوّي وينمّي الأيمان العميق في نفوسنا .