في ما يشبه العادة المتأصّلة ، دأبت على مرافقة أحد أصدقائي ، لنزجي ساعات من أماسي الشتاء ، بالجلوس في محل صديقنا ( السيد غازي ) . بعد أن مضى بنا العمر ، بات الكلام من أحلى أسباب تسليتنا ، ولذلك كثيراً ما كنّا نغرق في طوفان من الحكايات . إن احتساء أقداح الشاي والثرثرة هو ما يبرّر جلوسنا لأوقات ليست قصيرة . وصديقي الذي يرافقني كان صاحب لسان مرهف ، لا يخلو من الظرافة والحلاوة ، إذا ترجّل للحديث لن يتوقف ، بل أنه لا يستطيع أن يُوقف نفسه عند حدّه ؛ وكان ( السيد غازي ) يُبغض التكلّف والإغراق في الحديث ، ولهذا كان علينا ، أنا و إياه ، أن نعمد إلى إيقافه عن الكلام عنوة .
في سوق الخيّاطين ، اشتهر ( السيد غازي ) بنوع واحد وحسب من الخياطة ، فقد اعتاد ، وعبر سنوات طويلة ، على خياطة الرايات بمختلف أشكالها ، لا سيّما رايات العشائر ، وتلك التي تُرفع في المآتم والمناسبات . كان يخيطها بإتقان وعفوية مدهشة . وكانت ألوان ورموز تلك الرايات تختلف عن بعضها البعض اختلافاً بيّناً ، وكثيراً ما ضمّت إلى صدرها نجوماً وأهلّة ً؛ بل إن البعض منها زيّنته سيوف وخناجر ، وأنواع لا حصر لها من أسلحة بدائية ربما انقرضت اليوم .
عند أصيل أحد الأيام ، أقبل على المحل رجل حازم الملامح ، قروي النظرات . كان يحمل قطعة قماش جديد بين يديه ، ويروم خياطة راية كبيرة الحجم . حينما فرش ( السيد غازي ) القماش فوق منضدة المحل فاح منه عبير خفيف طريّ . كان القماش أخضر داكناً ، وقد طويت معه قطعة قماش رقيقة أخرى ، بلون عسلي يميل إلى الصفرة . ما لبث الرجل أن مدّ يده نحو ( السيد غازي ) وناوله كيساً ورقياً ، وعندما فتحه وجد فيه كوراً كبيراً من حاشية ذات أهداب ، سطعت بلونها الذهبي البديع ، وثمة ورقة مطوية بعناية . كانت الورقة قد تضمّنت رسماً نموذجياً لهذه الراية ، إذ رُسِمَ فيها علم مثلث الشكل ، بلون أخضر غامق ، صافٍ ، وجميل . ويخترق العلم من اليمين إلى اليسار، عند منتصفه ، خط نحيل ، أبيض اللون ، وفوق هذا الخط ، عند مركز الراية ، تنتصب دبابة ، بلون بني ، يشرأب مدفعها عالياً ، في حالة من التأهب والاستنفار .
تمعّن ( السيد غازي ) في الورقة ، وتساءل :
« هل نُخيط الراية كما في الرسم تماماً ؟ » .
« نعم ، لهذا السبب رسمنا نموذجاً لها » .
انشغل ( السيد غازي ) بمطالعة صورة الراية ، وهو يداعب أرنبة أنفه بطرف إبهامه ، ثم شعّت في عينيه ابتسامة مبهمة ، وعاد يستفسر من الرجل ثانية :
« هل هذا علم وحدة عسكرية ؟ » .
« كلا ، هذه راية عشيرتي » .
لم يكن هذا العمل عملاً تقليدياً بالنسبة إلى خيّاط شعبي ، بسيط ، مثل ( السيد غازي ) لكي يخيطه في الحال ، لذلك سارع ليخبر الرجل قائلاً :
« يمكنك أن تعود بعد ثلاثة أيام لاستلام الراية » .
ومن غير تردّد ، وافق الرجل .
في مساء اليوم التالي ، شرع ( السيد غازي ) بخياطة الراية ، بعد أن أنجز تفصيل القماش وفق طلب الرجل . وشرع يخيط على مهل هذه المرّة . كان صوت مكينة الخياطة هادئاً ومتقطّع . وعندما حان فصال صورة الدبابة تلكّأ في أمرها ، ثم استكان واجماً ، متفكّراً . ولكنه لم يلبث أن نهض واقفاً وراح ينده على جاره ، في المحل المقابل له ، وكان اسمه ( خالد ) ، محاولاً أن يستعين به . وكان ( خالد ) هذا خيّاط ملابس شباب معروف جداً في المدينة . أسرع ( خالد ) ليرسم صورة الدبابة على قطعة القماش البنية ، مستعيناً بطباشير الخياطة . ثم قام بفصل رسم الدبابة عن بقية القماش ، في منتهى المهارة ، وثبّتها بدبوس في مركز الراية بصورة دقيقة . وهمّ ( السيد غازي ) بخياطتها ، ولكنه لم يزل متلكئاً ، فاستبدل خياطة المكينة ، مستعيناً بإبرة يدوية ، أخذ يخيط بها في غاية الحرص والتأني ، كما لو كان يخيط جرحاً . كانت عيناه غائرة ، ونظراته مسدّدة ، ووجيب قلبه يعلو ، مثل رماة الدبابات في التمارين السنوية . ظلّ ( خالد ) جاثماً فوق مكينة الخياطة ، وكان تركيزه منصبّاً على حركة أنامل ( السيد غازي ) ، وهي تنقل إبرة الخياطة في ثقة ومهارة خيّاط حاذق . وما أن انتهى من خياطتها بيده ، عاد ليخيطها ثانية بإبرة المكينة . ثم لجأ إلى المنضدة ليكوي الراية ، قبل أن يخيط حاشيتها المذهبة .
تنفّس ( السيد غازي ) الصعداء أخيراً ، وانبسطت ملامح وجهه ، حالما أتمّ خياطة الراية ، كما طُلِبَ منه ، وفي النهاية أخرج من درج المكينة بعض الدبابيس ، وراح يثبت الراية على طول الجدار الداخلي للمحل ، في مواجهة الباب ، فكان بعض من يمرون على رسلهم يتوقفون ليتأملوا بدهشة هذه الراية الغريبة . كان اللون الذهبي للحاشية ينعكس على القماش الأخضر ويغمره بالألق ، فكانت الدبابة تبدو طافية في بحيرة خضراء ، داكنة ، باهرة الجمال . أما صديقي فقد كفّ عن الكلام ، ونجلت عيناه من فرط الذهول ، وظلّ يحدّق بالراية صامتاً ، حائراً في أمرها ، لا يسعه قول شيء ؛ حتّى التفت صوبي أخيراً ليقول :
« أعتقد أنها المرّة الأولى التي يتم تزيين دبابات فيها بالأهداب الذهبية » ..
◘ ◘ ◘
في الأيام التالية ، عاد ( السيد غازي ) يخيط الرايات ، والشعارات ، بيسر وتلقائية ، وصوت مكينته يصمّ الآذان ، مثلما دأب ، ولكنه صار ينغمس مع صديقي بأحاديث فيّاضة ، ويسترسل في ثرثرة لا تتوقّف عن تلك العشيرة المدرّعة .