( لا رياح ولا مطر ) ، رواية نُحِتَت بإزميل من صُلب .
حسن مروح جبير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا رياح ولا مطر ، رواية من تأليف محمود يعقوب .
صدرت عن دار أزمنة للطباعة والنشر ، عمان ، الأردن ، 2022 .
هكذا يجد المتلقي نفسه منذ بدء الرواية ، بصحبة ” هلال بن معلى الدارمي ” ؛ هكذا وبلا مقدمات تثقل على العمل الروائي ، أو تأخذ بيده على مهل ، إلى مأساتها ، ومتونها الموغلة في الشقاء ، واليأس . قد يشعر المتلقي بشيء من المسرّة ، أو يحتفي باسمه ( هلال ) ، غير عابئ ، أو مكترث بخشونة بدنه ، وأوصافه البدوية في بيئة قاسية قسوة حصاتها ، ورمالها ، ونباتها الشوكي العرد .
ومثلما بدأ السرد بـ ( كان ) وأوحى بماضٍ تبدّد مع الريح ، والغبار ، إلّا أنه أشرق موفقاً ، وخالصاً ، كمعدن ثمين ، من قسوة الرمال . حتى تيسر للمتلقي الإحساس بعذوبة ما يُروى ، أو الدخول حالاً في صميم ما يُراد له أن يروى . وبعيداً عن الشفقة ، والإحساس بالوجع ، وبلا إطناب ، أو اكثراث ، أو تلكؤ. هكذا بدأ ( هلال ) وهو محور الرواية ، وقطبها الراسخ في تسهيل الطريق أمام مهمة الراوي ، واكتشاف الأحداث الجسيمة ، ثم مواجهة أهوالها ، وبصلابة ، وقوة احتمال ( هلال ) نفسه ؛ القوة التي جسّدتها الظروف القاسية للصحراء ، ولذا كان الدخول إلى عالم الرواية دخولاً موفقاً ، بل رائعاً .
والحبس في حقيقته ، وواقع تصاريف الأيام ، في مثل هذا المكان ( السجن ) الرهيب ، هو الدخول إلى عالم الجحيم الأرضي ، وسجن ( الديماس ) كما وكّد التاريخ ، كان بحق قطعة من هذا الجحيم ، والذي خاض غماره ( هلال بن معلى الدارمي ) بجرأة وصلابة ؛ وهو يطأ في كل خطوة يخطوها فوق جراحه ، وكانت لا تُرى ، وهي بادية للعيان على مظهره ، وكأنها في طريقها إلى الشفاء والتماثل من علل تلك الجراح على مختلف ألوانها ، ومع تبدلات حالات الطقس ، الذي لا يرحم ، وأحوال الحرّاس الوحوش .
وفي مضاء ، متحدٍ ، يرتفع ، أو يضج ، متعاطفاً ، صرير يراع الكاتب ، إلّا أن جرأته تأخذ بيده ، فلا يراه يترك أثراً لارتفاع صوت هذا الصرير . بل يتخلّى له عن المضي ، وبلا توقف ، أو رغبة التقاط الأنفاس ، نرى ذلك حتى في ارتفاع لحظات مشاعر ( هلال ) الأبوية ، والإنسانية ، والتي وقف خلالها على واقعه متطيّراً ، وأحياناً متردّداً أو مستسلماً ، وهو يمضي إلى مصيره المجهول في الديماس ، من غبر أن يسهو خاطره عن نعله السندي الجديد ، وبضاعته ، وفرسه التي تركها للمجهول ، ثم أعزّ ما يملك في الحياة زوجته وابنته الصغيرة .
إلّا أن يراع الكاتب لا يتوقّف ، ويمضي منطلقاً في فضاء رحيب ، وتمضي الأعوام ، حتى يكتشف المتلقي أن هذا اليراع ليس إلّا إزميلاً يملك الصلابة ، والحدّة ، والمواظبة في النحت في حجر قاسٍ ؛ ويواصل رسم سيرة مأساوية للمسكين ( هلال ) ومن معه . ولكنها سيرة حافلة بالرجولة ، والصبر العجيب على الشدائد .. سيرة متماسكة ، ومفكّرة ، ومتحدية ، وحتى جميلة ، ورائعة الملامح ، استطاعت أن تمنح المتلقي متعة منبثقة من فظاعة الألم ، والمعاناة ، الألم اللا إنساني وقد نهض به الطغاة ، والسفلة من أراذل أبناء آدم ، حتى كاد ( هلال ) أن ينسى كل حلم يمر ، أو يأخذ بباله إلى أيامه الأولى التي قضاها حرّاً ، كطائر في الصحراء الفسيحة .
لقد كان ( هلال ) شجاعاً ، شهماً ، قُدّ من معدن لا يلين ، ولا يصدأ . هكذا تجلّى بوضوح كما صاغه قلم الكاتب .
◘ وبذلك لم يؤثر في حاله ما نصحه الرجل وابنته ، اللذان سقياه الماء في الطريق : ( ولكني أنصحك أن تحذر شرطة المدينة ) ، إلّا إن ما كان مقدّراً أن يصيبه أصابه ، ووقع في باحة الديماس الرهيب ! .
◘ ومع كل هذا العذاب يسرح ( هلال ) بخياله ، وكأن ما جرى بفعل اليأس المكتوم في الصدر ، حين تأمّل : ( عبرت في السماء سحب خريفية ، شفّافة ، ومتباعدة ، وضائعة ، نظر إليها مليّاً ؛ وأحسّ أن دخانها يملآ صدره )… وهكذا ضاع ( هلال الدارمي ) ، كما غّب صديقه في الحبس ( الساقي ) : ” يندر أن يكون بين السجناء من أتى جرماً يستحق الحبس ، ومع ذلك فالموت معقود بنواصيهم أجمعين ” .
◘ هكذا يسترسل الكاتب مع شخصية هلال الدارمي ، وفي ورطته ، التي ابتدع شخوصها من الخيال ، في سجن وصفه المؤرخون بـ ( سرب الظلام ) ، وبلغة عذبة ، متماسكة تماسك زمن الرواية ، والتي يندر على الكثير من الرواة امتلاك القدرة ، والصبر على الاستحواذ عليها ، لغة اقتربت من لغة الجاحظ ، وابن المقفّع في بلاغتها ، ورقّة مفرداتها ، وتماشت منسجمة مع لغة العصر ، بل واكبت موضوع الرواية التاريخي ، وضخّت في روحها روح ذلك العصر البدوي ، وقسوة وجلافة الحكّام الأمراء .
◘ وبقي بصر ( هلال ) معلّقاً في السماء ، وكأنه ينتظر أن يكبر الهلال ويصبح قمراً منيراً . ويتذكّر رؤية الفتى ( هرون ) التي رواها له : ( كان يجلس بجلال ، والقمر فوق رأسه ، والحرية بين شفتيه ، فتغمره السكينة والاطمئنان بحق ) . أو رؤيته ابتسامة ( سيّار ) : ( الغامضة ، تترقرق على صفحات مياه البرك التي خلّفتها الأمطار ) ص ٢١٠ .
◘ وبتلك اللغة يمضي الكاتب إلى نهاية مأساة ( هلال ) حتى يشجي قرّاءه ، ومتلقيه بعودة الدارمي إلى الصحراء ، فيكتشف أنها ليست الصحراء التي عاش فيها ، إنها صحراء أخرى ، وأنه سيضيع في شعابها ضياعاً مشهوداً ، وأكثر قسوة ! .