آكوتاغاوا ريونوسوكي ، ابن التنين

 

آكوتاغاوا ريونوسوكي

ابن التنين [۱] .

محمود يعقوب .

آكوتاغاوا ريونوسوكي كاتب قومي رفيع ، يُعتبر واحد من طبقة أفضل الكتًاب في اليابان . ويُنظر إلى مجمل أعماله بأنها قمّة الأعمال الأدبية اليابانية ، التي كُتِبَت في مطلع القرن العشرين ، والتي لا يزال لها بريقاً ، ورونقاً حتى اليوم . وبقيت كتاباته ملهمة للأجيال المتلاحقة . ظهرت قصصه في الكتب المدرسية اليابانية ، سواء في الدراسة الابتدائية ، أو الثانوية . وكذلك أيضاً في نصوص اللغة اليابانية لمتعلمي اللغات الأجنبية . ” إن كتابات من هذا النوع تبقى مطبوعة في عقول وقلوب كل المواطنين لا سيّما في فترة الشباب ، وتشكّل ثقافة مشتركة ، وبالتالي هوية مشتركة . ويتم نقل هذه الأعمال من المعلم إلى التلاميذ ، ومن الوالدين إلى الطفل ، تقريباً بدون سؤال ، مثل الحمض النووي يتم حفظها “[۲] .

لم يعرف الأدب الياباني العريق نجماً سطع مثله مبكّـراً ، فقد ولج عالم الأدب منذ نعومة أظفاره . وكانت حياته القصيرة زاخرة بالعطاء الأدبي . وقد اختتم تلك الحياة سريعاً حينما انتحر .

اليوم ، تُعد جائزة ( آكوتاغاوا الأدبية ) ، التي استحدثت تقديراً لمكانته الأدبية ، أعظم الجوائز التي تقدم لأفضل الإنجازات الأدبية في اليابان .

                                              ◘ ◘ ◘

  

   ولد آكوتاغاوا في ۱ / مارس / ۱٨٩۲م ، في الجانب الشرقي ، القديم ، من مدينة طوكيو ، بعد ربع قرن من بدء حركة التحديث والتنوير اليابانية ، التي بدأت بإعادة الساموراي مقاليد السلطة والحكم إلى الإمبراطور ؛ في عصر ميجي الجديد الذي يمتدّ بين ( ۱٨٦٨ ـ ۱٩۱۲م ) .

” ولد آكوتاغاوا في ساعة التنين ، في يوم التنين ، في شهر التنين ، في سنة التنين ؛ وفق التقاويم اليابانية التقليدية ، وبناءاً عليه منح اسم  ريونوسوكي ( ابن التنين ) “[٣] .

كان الابن الأكبر لوالده توشيزو نيهارا ، بائع الحليب . والدته فوكو نيهارا أصيبت بالجنون بعد ولادته ، وبقيت مخفية في الطابق العلوي من منزل والده . ولم يكد يبلغ الحادي عشر من عمره ، حتى توفيت والدته ، ليتبناه خاله متشياكي آكوتاغاوا ؛ ومن ثم حمل لقب عائلته ، حسب أعراف التبني السائدة في اليابان .

وقد ترك جنون والدته ، ووفاتها ، ظلاً ثقيلاً خيّم على حياته ، ووسم أعماله الأدبية بمسحة قاتمة .

   ينحدر آكوتاغاوا من عائلة محارب ساموراي ، خدم لدى التوكوغاوا شوغون .

عائلته كبيرة وعريقة ، خدموا كمسؤولين عن حفل الشاي في قلعة إيدو لأجيال متعاقبة . ولديهم أسلوب صارم في الحياة ، ولكن لديهم المعرفة ، ولديهم روح أدبية قوية .

ولأن عائلته هي من طبقة النبلاء ( الساموراي ) ، دامت لأكثر من عشرة أجيال ، فإن الأسلوب النبيل ، والأدب ، والفنون الجميلة ، كلها مواد إلزامية لأطفال الطبقة النبيلة . جميع أفراد الأسرة على دراية جيدة بالترفيه ( المصطلح العام لحفل الشاي ، وتنسيق الزهور ، والقص ، والموسيقى … ) ، وكان الجميع يحبون الأدب . وكانت الكتب تحيط بآكوتاغاوا في منزله ، وتصطحبه العائلة بانتظام إلى مسارح الكابوكي لمشاهدة العروض المسرحية ، على الرغم من أن العائلة لم تكن ثرية .

   التحق بمدرسة كوتو الابتدائية ، في نيسان ۱٨٩٨م ، وكان يميل إلى الخجل والضعف بسبب التوتر الطفيف ، الذي كان يتلبسه . غير أن أداءه الدراسي كان ممتازاُ . وطفحت ميوله الأدبية ، وتفتّحت موهبته منذ هذا الحين ، حتى ليقال أنه صنع هايكو عندما كان في المدرسة الابتدائية .

   وفي نيسان من عام ۱٩۰۲م ، أسس مع زملائه في المدرسة الابتدائية ، مجلة متداولة ، قام بتحرير الغلاف وكتابته بنفسه . لقد أظهر آكوتاغاوا ميولاً مبكّرة للقراءة والكتابة معاً .

   بعد تخرّجه من مدرسة كوتو الابتدائية عام ۱٩۰٥م ، انتقل إلى المدرسة الإعدادية الثالثة في ياناجاهارا ، في طوكيو . كان أداءه الأكاديمي ممتازاً في المدرسة الإعدادية ، لا سيّما في اللغة الصينية . أقبل على المطالعات الأدبية بشغف . وقرأ لأدباء يابانيين وأجانب ، وكان شديد الإعجاب بكتابات أناتول فرانس ، وإبسن .

   كان طموحه آنذاك أن يصبح مؤرخاً في المستقبل . ونشر في ذلك الوقت عملاً أدبياً في جمعية الخريجين .

   في آذار ۱٩۱۰م ، وبعد تخرجه من المدرسة المتوسطة ، أصبح طالباً في الصف الأول بـ ( الفنون الحرة ) في المدرسة الثانوية الأولى ، في طوكيو . وفي السنة التالية أقام في عنبر سكن الطلاب في المدرسة الثانوية ؛ حيث أمضى عاماً في السكن . ومع ذلك لم يكن مرتاحاً لمثل هذا السكن ، بسبب هوسه بالنظافة . وقد أحب قراءة أعمال الأدباء الأوربيين ، ولا سيّما بودلير .

وفي هذه المرحلة كتب قصة ” ماء النهر ” .

   في عام ۱٩۱٣م ، التحق بجامعة طوكيو الإمبراطورية ، لدراسة الأدب الإنجليزي ؛ وخلال تلك الفترة بدأ الكتابة . أعاد هو وصديقاه ، هيروشي كيكوتشي ، وكومي ماسا  وآخرون ، إصدار مجلة ( الاتجاهات الجديدة ) مرّتين ، ونشر آكوتاغاوا ترجماته الخاصة لأعمال ييتس ، وأرنيت فرانكس في العدد الأول . ثم نشر قصة بعنوان ( الشيخوخة ) في مجلة ( أفكار جديدة ) ، وبعدها نشر قصته ( ماء النهر ) في مجلة ( زهور القلب ) ؛ ثم نشر دراما ( الشباب والموت ) . وفي شهر تشرين الأول من هذه السنة ، توقّفت مجلة ( الاتجاهات الجديدة ) عن الصدور .

   في عام ۱٩۱٥م ، تحطّم حبه الأول مع صديقته يايوي يوشيدا ، مما أضفى عليه حالة مزاجية متعبة . في هذه السنة نشر قصة ( قناع رجال الإطفاء ) ، كما نشر قصته الشهيرة ( راشومون ) . ولكنه كان لا يزال شاباً مجهولاً .

   في عام ۱٩۱٦م ، نشر مقالاً بعنوان ( جوهر الأدب ) . ثم أعاد مع أصدقائه إصدار مجلة ( الاتجاهات الجديدة ) ، ونشر في العدد الأول منها قصة ( الأنف ) ، التي لاقت استحساناً كبيراً ؛ كما أشاد بها الكاتب الياباني الكبير ناتسومي سوسيكي ، ومن هنا بدأ خطواته الأولى كأديب معروف . وفي شهر تموز من هذه السنة ، تخرّج من قسم اللغة الإنجليزية ، في جامعة طوكيو ، وكانت أطروحته بعنوان ( أبحاث ويليام موريس ) [٤] ، وكان الثاني على دفعته .

وما لبث أن نشر قصته ( تارو كونجي ) في مجلة ( روايات جديدة ) ، لتقابل بالترحاب من القرّاء . كما نجحت قصته ( المنديل ) التي نشرها في صحيفة

( سنترال جونغلون ) ، وأثبت مكانته ككاتب جديد . وأعقبها بنشر أول أعماله المسيحية ( التبغ ) ، التي أعيد تسميتها بعنوان ( التبغ والشيطان ) عندما نشرها في مجلة ( الاتجاهات الجديدة ) .

   في كانون الأول من عام ۱٩۱٦م ، أصبح مدرساً في الأكاديمية البحرية ، وعاش في كاماكورا منذ ذلك الحين .

   في أوائل عام ۱٩۱۷م ، نشر ( فورتشن ) في مجلة ( مقال ورلد ) و نشر كذلك ( مذكرة إنهاء تشاي ) في مجلة ( أفكار جديدة ) .

وتوقّف عن إصدار مجلة ( الاتجاهات الجديدة ) . وفي شهر آيار من هذه السنة نُشرت مجموعته القصصية الأولى ( راشومون ) ، وبعدها ، بوقت ليس طويل ، نشرت المجموعة الثانية له ( التبغ والشيطان ) .

   في عام ۱٩۱٨م ، واصل كتابة القصص القصيرة ونشرها ، كما نشر سلسلة من قصائد الهايكو . وفي هذه السنة تزوج من فتاة تدعى تسوكاموتو وينزي ، التي كانت تبلغ من العمر تسعة عشر عاماً ، وتدرس في مدرسة  للبنات .

   في شهر كانون الثاني من عام ۱٩۱٩م ، نُشِرَت له مجموعة قصصية ثالثة بعنوان ( السيد دمية ) . وقد توفي والده في هذا العام ، بسبب الأنفلونزا . ولم يلبث آكوتاغاوا حتى استقال من عمله التدريسي ، في المدرسة البحرية ، لينظم للعمل في صحيفة أوساكا ، وتكريس وقته للكتابة .

ورغبة منه في الاطلاع على آثار المسيحية في بلاده ، التي ظلت على صراع طويل مع السلطات ، زار مهدها ، وعرينها ، مدينة ناغازاكي ، برفقة أقرب أصدقائه هيروشي كيكوتشي .

   في عام ۱٩۲۰م ، نشر مجموعة قصصية جديدة بعنوان ( فانوس الظل ) ، وفي شهر آذار من هذه السنة ولد الابن الأكبر له ، وأطلق عليه اسم صديقه الوفي هيروشي . وقد ذهب إلى كيوتو ، وأوساكا ، لغرض إلقاء المحاضرات الأدبية ، برفقة عدد من أصدقائه الأدباء .

   وفي آذار من عام ۱٩۲۱م ، صدرت مجموعته القصصية الخامسة ( عطر المساء ) ، وعقب صدورها تم إيفاده إلى الصين ، من قبل صحيفة أوساكا ، في رحلة عمل . وقد أضرّت هذه الرحلة كثيراً بصحته ، ومرض بعد عودته منها إلى منزله .

   في عام ۱٩۲۲م ، ولد الابن الثاني له ، وفي هذا الوقت يضعف جسم آكوتاغاوا تدريجياً ؛ ويعاني من وهن عصبي ، وطفح جلدي ، وتشنجات في المعدة ، والتهاب الأمعاء ، وعدم انتظام دقات القلب ، وأمراض أخرى .

   في مطلع عام ۱٩۲٣م ، أسّس صديقه هيروشي كيكوتشي مجلة ( أدب الربيع والخريف ) ، ونشر في عددها الأول ، وعلى صفحتها الأولى قصة آكوتاغاوا

( كلمات القزم ) . وفي شهر مايس من هذا العام نشر مجموعته القصصية السادسة ( تشونغو ) . وقد توفي أحد أصدقائه ، في هذه الفترة ، ليصيب فقده آكوتاغاوا بصدمة شديدة .

   وفي شهر كانون الأول ، سافر إلى مدينة كيو ، ونشر قصة قصيرة بعنوان

( أها ها ها ) ، وهو ما يمثل تبدلاً في أسلوب كتابته .

   في كانون الثاني من عام ۱٩۲٤م ، نشر ( يوميات خادمة ) في سنترال جونجلون ، و ( قطعة أرض ) ، في مجلة ( الموجة الجديدة ) ، و ( الذهب ) في مجلة ( إعادة الإعمار ) البروليتارية . وفي تموز من هذا العام ، صدرت المجموعة السابعة من قصصه القصيرة الموسومة ( رياح الأوريول ) .

وكان العام التالي متعباً بالنسبة له ، ففي هذا العام ، قابل هيروكو يامايا ، وهي امرأة موهوبة ، وكتب فيها قصائد غزل غنائية ، ولكن علاقتهما انتهت قبل أن تتطوّر . وفي شهر أيلول ، نشر سلسلة جديدة من مقالاته . وقد تعرّض في هذا الأوان إلى نزلات البرد ، وأصبح جسمه أكثر ضعفاً ، وبدأ بتلقي العلاج بالينابيع الساخنة ، في أحد الفنادق . وفي تشرين الثاني نشر ( ملاحظات السفر الصينية ) في مجلة ( إعادة الإعمار ) .

   في عام ۱٩۲٦م ، مكث في منطقة يوغاوارا ناكانيشيا حتى منتصف شهر شباط ، لعلاج أمراض المعدة ، والوهن العصبي ، والبواسير ، وأمراض أخرى . وفي شهر نيسان من هذا العام ذهب إلى كوانوما ، التي ولدت فيها زوجته ، ليمضي وقتاً للراحة برفقتها ورفقة ولد الصغير ، الثالث ، ولكن أثناء ذلك أصبحت معاناته من الأرق أشدّ خطورة عليه . وقد نشر مجموعة جديدة من المقالات في هذا الوقت .

   في شهر كانون الثاني من عام ۱٩۲۷م ، عاد من كوانوما إلى طوكيو ، وفي هذا الوقت احترق منزل شقيقته ، واشتعلت فيه أزمة حادّة ، مما أدى إلى تفاقم الانهيار العصبي عند آكوتاغاوا .

   في أوائل شهر نيسان نشر مقال ( فني ، أدبي جداً ) في مجلة إعادة الإعمار ، وراح يخوض سجالاً أدبياً ، طويلاً ، مع الكاتب الكبير جونشيرو تانيزاكي حول فكرة الرواية . وكان أن التقى في اليوم السابع من هذا الشهر مع الكاتب هيراماتسو ماموتوكو، وحاول الانتحار في فندق إمبريال . وفي شهر حزيران ، نشرت مجلة ( أدب الربيع والخريف ) مجموعته القصصية الثامنة الموسومة

( مروحة هونان ) .

   في يوم ۲٤ / تموز / ۱٩۲۷ ، انتحر آكوتاغاوا ، بعد أن تناول جرعة مميتة من الحبوب المنوّمة في غرفة نومه في تياندوان . 

عُثِرَ على الكتاب المقدّس فوق وسادته ، وترك رسالة مقتضبة إلى زوجته وأصدقائه ، يعرب فيها عن تخوفه من مستقبله الغامض . وفي السابع والعشرين من الشهر ، تم حرق جثمانه ، واحتفظوا برماده في ( معبد سومي فاهوازونغ سيان ) .

                                                                                                                 ◘ ◘ ◘

       كانت أعماله المبكّرة عبارة عن روايات تاريخية بشكل أساسي ، مستعارة من الماضي ؛ وهي تشرح مجازياً العلل الحالية . يمكن تقسيمها إلى خمس فئات :

۱ ـ الكتابة عن شخصيات وحوادث تعود إلى الفترات الإقطاعية ، مثل قصة

( راشومون ) ، وقصة ( الأنف ) ، وهي مقتبسة من القصص القديمة .

۲ ـ كتابات تقوم على الأنشطة التبشيرية للكنيسة الكاثوليكية ، مثل قصة

( التبغ والشيطان ) ۱٩۱۷م ، و ( موت المؤمنين ) ۱٩۱٨م ، و قصة

( ابتسامة الآلهة ) ۱٩۲۲م .

٣ ـ  وصف الظواهر الاجتماعية في فترة إيدو ، ثم شرح فلسفة الكاتب عن الحياة وراء الواقع المبتذل والقبيح .

٤ ـ القصص التي تصوّر المجتمع الياباني خلال فترة ما بعد استعادة ميجي للرأسمالية الصاعدة ، مثل قصة ( منديل ) ۱٩۱٦م ، و قصة ( بروم ) ۱٩۲۰م .

٥ ـ أعمال مبنية على الأساطير الصينية القديمة ، مثل ( الجسد الأنثوي ) ،

( الحلم الأصفر ) ، و ( أداة البطل ) ، وجميع هذه الأعمال كُتِبَت عام ۱٩۱۷م ، و ( صورة جبل الخريف ) عام ۱٩۲۰م .

   بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا عام ۱٩۱۷م ، بدأ الأدب البروليتاري بالظهور في اليابان ، ومعه انتشرت الصحف والمجلات ” الحمراء ” ، واحتدمت الأجواء الثقافية ؛ وكتب أغلب كتّاب اليابان في هذا النمط من الأدب . ولم يتأخّر آكوتاغاوا عن الكتابة أيضاً ، فكتب قصصاً بروليتارية عديدة منها

( برتقال ) ۱٩۱٩م ، و ( الخريف ) ۱٩۲۰م ، و ( الترولي ) ۱٩۲۱م ، وقصة

( قطعة أرض ) ۱٩۲٣م ، و ( شوغون ) ۱٩۲۰م ، و ( القرد ) ۱٩۱٦م ، وقصة ( ثلاثة كنوز ) ۱٩۲۷م .

   تعكس أعماله المتأخرة خيبة أمله من الواقع الاجتماعي للتفاوت بين الأغنياء والفقراء . في أوائل عام ۱٩۲۷م ، نشر قصة ( بيت أكسون الجبلي ) التي كشف فيها التشابكات داخل الأسرة ، من خلال وفاة الرسام القديم ، مما يعكس الحالة المزاجية القاتمة ، واليائسة للحياة . ويدلّ على انحطاط وسقوط الأشياء القديمة

وظهور عصر جديد .

   كان آكوتاغاوا قد طوّر أفكاراً انتحارية تمهيدية ، مما جعل أعماله الأخيرة مفعمة بالأجواء القاتمة . تكشف قصته ( الترس ) ۱٩۲۷م ، وكذلك قصته

( حياة أحمق ) ، الحالة الذهنية المشوّشة والمريضة له .

   آكوتاغاوا كاتب متشكّك ، وتتخلّل شكوكه أغلب أعماله الأدبية . كان قد نشاً في حقب من التغيير السريع من التقاليد القديمة إلى الحداثة في اليابان ، في نهاية القرن التاسع عشر ، وكان في فترة دراسته المتوسطة ، والثانوية على تواصل مع النظريات الأدبية الغربية ، ويقرأ لعدد من الفلاسفة ، والأدباء الغربيين من أمثال : بودلير ، ونيتشه ، وأوغست ستريندبرغ ، والذين تأثر بشكوكهم الفكرية كثيراً . 

وتعكس مواقف التناقضات ، والانقسامات حول الدين ، والموت ، والطبيعة البشرية ، الذي تقدمه قصص آكوتاغاوا شكوكه تلك .

   آكوتاغاوا يُعد من أدباء العمل الواحد ، فهو كاتب قصة قصيرة على وجه التخصيص ، وهو بارع حقّاً في كتابة القصص القصيرة .

نظراً لمحدودية مساحة القصة القصيرة لا يمكنه وصف الحياة الاجتماعية الواسعة ، وتقلبات العصر ، لكن تفرّد آكوتاغاوا يكمن في حقيقة أنه يبدأ بالتفاصيل ، أو يستمد مادته من الواقع ، أو يستلهمها من الأساطير التاريخية ، اليابانية والصينية أيضاً ، ولا يلتزم بالعصر ؛ حيث يصوّر الساموراي ، والنبلاء ، والرهبان ، والحرفيين ، واللصوص ، والمدنيين … الخ .

وصف آكوتاغاوا للحالة النفسية للإنسان ، نابع من تجربته الشخصية ، وملاحظته للمشاعر الاجتماعية . إنه جيد في الوصف النفسي ، والتنقيب العميق عن الطبيعة البشرية . ويمكن اعتبار قلة من أبطاله أناساً محبوبين .

منذ بدايات ( راشومون ) و ( الأنف ) إلى الراحل ( كابا ) فإن تحليل قلب الإنسان ، والقلق ، وضيق البقاء على قيد الحياة ، هي دائماً موضوعات تدور حولها قصصه . هذا التشاؤم والضيق هما أيضاً أسباب رئيسة في موته المبكر . ولكن هذا لا يعني عدم توقه إلى اللطف في بعض كتاباته ، مثلما وصف المسيحيين في أعماله الأولى ، والدفء والعاطفة التي انعكست في قصته    ( برتقال ) . ومع ذلك ، فلم يزل يُظهر موقفاً متشائما عند وصف الخير، والقوة الأخلاقية للطبيعة البشرية . فهو يعتقد أن الأخلاق والعقل لم يعد بإمكانهما كبح جماح سلوك الناس اليوم ؛ ودائماً ما تدفع مصلحة الناس الذاتية بهم إلى القيام بأشياء فظيعة . هذا الشك في الأخلاق والإنسانية أدى إلى تشاؤمه ، وأغرقه في قلق عميق .

                                                                                                                          ◘ ◘ ◘   

   هناك مجموعة أعمال كتبها آكوتاغاوا في المرحلة الأولى من حياته الأدبية ، وهي الأعمال المسيحية . والتي تتضمن مجموعة من القصص القصيرة ، التي تصف موضوعات مسيحية على وجه التحديد .

لا يمكن إنكار أن أعمال آكوتاغاوا هذه تعكس ثقافته المسيحية ، ولكن آكوتاغاوا لم يكن مؤمناً مسيحياً بمفهوم الكلمة ؛ على الرغم من أنه صوّر العديد من المؤمنين المتدينين ، في أعماله ، بطابع مسيحي مثالي .

حاول آكوتاغاوا أن يكتسب التحرّر الروحي من خلال الإيمان بالمسيحية ، والسعي إلى إنسانية كاملة لا يستطيع رؤيتها في العالم الحقيقي . لكن هذا التوق الوهمي نفسه لم يتطابق مع شخصية آكوتاغاوا الجامحة ، والمتحمسة ، والعقلانية في آن ، وسرعان ما اكتشف أنه لا يستطيع الحصول على الخلاص والتحرر بالمعنى الدقيق للكلمة .

   لم يؤمن آكوتاغاوا بالمسيحية أبداً ، يتوافق إنكاره وشكّه فيها مع شكوكه حول الأخلاق والإنسانية في العالم الحقيقي ، والنتيجة نفسها هي يأس أعمق في العالم .

وبمناسبة الحديث عن المسيحية اليابانية ، أود أن أشير إلى أن مجموعة من الأدباء اليابانيين قد كتبوا عن إشكالية الديانة المسيحية في اليابان ، وصراعها الطويل من أجل تثبيت جذورها في تربة هذا البلد ، ذي التقاليد الصارمة ، الضاربة في القدم . ولكن آكوتاغاوا كتب عنها قبل هؤلاء بعقود من الزمن . وكشف في قصصه عن عملية تبنّي ، وتكييف ، وتعديل في تفاصيل الدين الأجنبي ، ليتناسب مع أذواق وأسلوب حياة اليابانيين . ومن الممكن أن نتذكّر هنا أن البوذية خضعت لنفس العملية ، عندما قدمت إلى اليابان ، قبل المسيحية بقرون .

   ومن بين القصص التي جذبت انتباهي ، والتي كتبها عن معاناة المسيحيين ، واضطهادهم في اليابان قصة ( أوغين ) ، التي تحكي قصة فتاة صغيرة تدعى أوغين ، يتركها والدها وحيدة ، في قرية غريبة ، إثر وفاتهما معاً . فيتولى رعايتها فلاح رحيم وزوجته الطيبة ، وكان هذان من الذين اهتدوا سرّاً إلى الدين المسيحي الجديد . وفي بيته يصب الفلاح ماء المعمودية على جبين الصبية ، ويمنحها اسم ( ماريا ) . ولكن موظفو الحكومة يفاجئون هذه العائلة المسكينة ، في ليلة عيد الميلاد ، ويقتادونهم إلى سجن في باطن الأرض . ولكن هؤلاء الفلاّحين يبقون متمسكين بعقيدتهم بعناد ، ولا يتزحزحون عنها ، ممّا جعل الحاكم يتفكّر ملياً بأمرهم قبل الإجهاز عليهم :

” ولأن الحاكم لا يعرف بالطبع ديانة رب السماء ، فإنه لم يستطع بتاتاً فهم إصرار الثلاثة على ذلك العناد ، وكان يظنهم أحياناً مجانين . ولكن عندما اقتنع بعدم جنونهم ، أحسّ أنهم أفاعٍ أو حيوانات وحيدة القرن ، وحوش لا علاقة لهم

بأخلاقيات البشر . وفكّر في أن ترك مثل هؤلاء الوحوش أحياء لن يكون مخالفاً للقوانين فحسب ، وإنما خطر يهدّد مصير الدولة بأكملها “[٦] .

وترد في قصصه بعض المفاهيم التي كتب عنها بتركيز وقوة تفوق ما كتب عن الشؤون الأخرى ، سواء في قصصه الواقعية أو الخيالية . ومثال على ذلك :

مفهوم الأنانية ، سواء أكانت موضوعاته ، تاريخية أم واقعية ، تلك التي كتبها عن قبح الأنانية بوصفها مصدر قبح الواقع ، وتجسيد قبح الطبيعة البشرية ، أراد آكوتاغاوا أن يجد الحقيقة ، والخير ، والجمال في الحياة الواقعية . ولكن الواقع القاسي جعله يشعر بخيبة أمل ؛ بل وحتى غشي بصره مراراً ، بحيث لم يعد يستطيع أن ينظر إلى الحياة المشرقة والحيوية . وفي تقديري أن قصته الشهيرة

( خيط العنكبوت ) ۱٩۱٨م ، أفضل عمل كتبه عن قبح الأنانية . حيث تدور أحداث القصة بين الجنة والجحيم . فبينما كان بوذا يتجوّل في الجنة ، وهو يتأمّل أزهار اللوتس ، وزنابقها الفوّاحة بالعطر ، شدّ انتباهه ثقب صغير ، إلى جانب الزهور . ومن خلال هذا الثقب يرى بوذا ما يحدث في الجحيم . فيشاهد بركة من الدماء في قاع الجحيم ، يطفو ويغوص فيها المذنبون . ومن بين هؤلاء تقع عينه على اللص (كيندادا )  ، الذي قتل الكثير من الناس ، وحرق بيوتهم . ولكن بوذا تذكّر أن هذا المجرم عمل عملاً حسناً ذات يوم ، حينما رفض أن يطأ بقدمه عنكبوتاً ويقتله . ولأجل هذه الحسنة عزم بوذا على إنقاذه من هول الجحيم . فأرسل له عبر الثقب خيط عنكبوت ليمسك به ويتسلق نحو الجنة . وبينما كان اللص يجاهد في التسلق إلى الأعلى ، توقّف هنيهة لالتقاط أنفاسه ، ونظر إلى الأسفل ليتفاجأ بتسلق عدد كبير من المذنبين ، من بعده خيط العنكبوت . أصيب اللص بالفزع لخوفه من انقطاع الخيط ، وصرخ بهم أن يدعوا الخيط له وحده . وفي تلك اللحظة انقطع الخيط وسقطوا ثانيةً في الجحيم .                                                                                                                                                                                                 ” لقد سقط كيندادا إلى جهنم مرّة أخرى بسبب أنانيته ، وخلو قلبه من الرحمة ، لأنه أراد أن ينجو بنفسه فقط من جهنم . شعر بوذا بأن سلوك كيندادا كان مخجلاً ، وأنه كان شديد الأنانية ” [۷] .

كم يكره الأنانية هذا الأديب ، الحسّاس ! إنه يتحدّث عنها حتى في العالم الآخر ، كما في قصة ( ما بعد الموت ) .

   في مثل هذه الأعمال الفنية  تبرز سمات القصص الأخلاقية ، التي تعتمد الحكمة والموعظة ، وهي سمات شاعت في الكثير من القصص القصيرة ، في أواخر القرن التاسع عشر ، وأوائل القرن العشرين ، ومن الأمثلة عنها الكثير من

قصص أوسكار وايلد ( ۱٨٥٤ ـ ۱٩۰۰ ) .

أما المفهوم الآخر فهو الموت .

الموت ، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحياة ، وخلق آكوتاغاوا . كان الموت هو الذي

ألهمه في فهم الوضع المأساوي للناس وله . وقدّم ببطء وعي الموت هذا إلى القرّاء في عالمه الفني . قال يوجين أونيل ، الكاتب المسرحي الأمريكي الشهير

( ۱٨٨٨ ـ ۱٩٥٣ ) : غالباً ما يخلط الناس بين المأساة والتشاؤم . بالنسبة لي ، المأساة فقط لها جمال المعنى الحقيقي ، وهذا الجمال هو الحقيقة . إذن المأساة تجعل للحياة والأمل معنى .

   يولي آكوتاغاوا اهتماماً للروح البشرية في عالم مقفر ، ويسعى إلى مملكة السماء المثالية ، اليائسة .

جعل موت والدته ، ووالده ، وأخته ، ومعلمه ، وصديقه ، آكوتاغاوا خائفاً ، ومليئاً بفهم الموت . وبتوقه  . ولأجل خلاصه الذاتي  ، في سنواته الأخيرة ، وجد في المسيحية تلهفه إلى عالم شاعري وجميل ،  ومتسعاً لحرية الفكر والروح . أخيراً يختار الانتحار  كطريق للخلاص .

ثمة هاجس آخر ، يجذب انتباه المتتبع لكتاباته ، ألا وهو الكتابة عن سيرته الشخصية ، كما  يفعل أغلب الكتّاب عادة . فقد تحاشى آكوتاغاوا الحديث عن سيرته تماماً ؛ بينما كانت رغبات القرّاء ، وميولهم تتضخم مع مرور الأيام لمعرفة المزيد عن هذا الكاتب الصاعد ، صاحب الأدب الفريد . ولكنه في نهاية المطاف ، وتحديداً في شهر تشرين الأول من عام ۱٩۲٥م ، كتب يتحدّث عن سيرته الشخصية ، ونشر ( سجل الموت ) يحتوي على أول كشف علني عن جنون والدته .                                                                                                                                                      ” ومن هنا فليس عجيباً أن نجده يكتب عن والدته ، مستحضراً تلك الذكريات المريرة التي ترتبط بها ، بعد سنوات طويلة ، حيث يقول : كانت أمي تجلس منفردة ، على الدوام ، في دار العائلة في شيبا ، وشعرها ملفوف حول مشط ، وهي تنفث دخان غليون طويل . وكانت ضئيلة الجرم ، صغيرة المحيا للغاية ، وكان وجهها ـ وليس بوسعي تفسير هذا ـ على الدوام رمادي اللون ، مجرّداً من كل ما يوحي بحيوية تنبض بالحياة ” [٨] .

وعلى الرغم من القتامة ، والتشاؤم ، واليأس ، الذي طغى على حياته ، وأدبه ؛ إلّا أن هنالك لمحات مرح ، وأخرى رومانسية لا يخلو منها مزاجه . فيذكر الموسيقي ، والروائي الياباني ، المعاصر كازويوكي سيكيغوتشي : ” أن الروائي لم يكن مجرد رجل كئيب ، بل كان لديه جوانب رومانسية أيضاً . مستشهداً برسالة بعثها آكوتاغاوا إلى فومي تسو كاموتو ، التي أصبحت زوجته ، والتي

عبّر فيها بحماس عن مشاعره تجاهها . يقول أحد السطور التي اقتبسها سيكيغوتشي ” أنت لطيفة للغاية ، لدرجة أنني أود أن أكلك من رأسك ” [٩] .

                                                                                                                                     ◘ ◘ ◘                                            

   ذكرت في معرض حديثي عن سيرة الكاتب ، أنه أختير من قبل صحيفة أوساكا للسفر إلى الصين ، والكتابة عنها ، وذلك في عام ۱٩۲۱م . والحقيقة غالباً ما يهمل مؤرخو الأدب هذه الرحلة ، باعتبارها لم تجلب له سوى المرض والإرهاق ، بسبب مشاق الرحلة الطويلة ؛ فهو فور وصوله إلى شنغهاي بدأ يعالج نفسه من أعراض التهاب الرئتين الحاد .

” ولكن هذا المرض ، سواء من حيث الوضع الشخصي لآكوتاغاوا ، أو كقراءة لمعنى رحلته إلى الصين ، هو أحد أعراض التوترات الكامنة مع الصين ، والتي أصابت ليس المؤلف فحسب ، بل اليابان نفسها “[۱۰].

   كانت رحلة آكوتاغاوا إلى الصين ، مبدئياً ، وراء الثقافة الصينية الكلاسيكية .

لمئات السنين ، ظلّت المعرفة بالكانبون ( الكلاسيكيات الصينية ) ، والكانشي     ( الشعر الصيني ) لاعتبار الصيني متعلماً جيداً . انحدر آكوتاغاوا من عائلة متواضعة ، تقدّر الثقافة ، وتعلّم أبناءها كيفية قراءة  وتأليف الكانشي منذ الصغر.

ومنذ صغره ، كان آكوتاغاوا مغرماً بالأدب الصيني ، وكان يقرأ بشغف الكلاسيكيات ، مثل ( رحلة إلى الغرب ) ، و ( حافة المياه ) ، و ( سجلات الممالك الثلاث ) ، وغيرها . وفيما بعد صارت الحكايات الصينية من أغنى موارد آكوتاغاوا الأدبية .

ويُذكر أنه بعد مماته ، تم جرد ممتلكاته الشخصية ، فوجدوا بينها من الكتب حوالي ( ۱۱۷۷ )  كتاباً صينيّاً . وقد صاغ آكوتاغاوا من العديد من الحكايات الخيالية الصينية قصصاً حديثة ، ورائعة .

ولكن رغم هذا الهدف الأساسي ، الذي ساق آكوتاغاوا سريعاً إلى الصين ، فإن تلك الرحلة أورثته آثاراً عميقة ؛ في نفسه وأدبه معاً .

   أجرى آكوتاغاوا في مدينة شانغهاي مقابلة مع الفيلسوف ، والسياسي الصيني البارز تشانغ بينجين ( ۱٨٦٩ ـ ۱٩٣٦ )  ، في منزله . تفاجأ آكوتاغاوا بسماع النقد السياسي لليابان الذي تمحور حول نقد شخصية خرافية في الأدب الكلاسيكي الياباني تدعى ( موموتارو ) أو ( صبي الخوخ ) . وبدلاً من إدانة أشهر قادة

اليابان العسكريين أو الصناعيين ، هاجم تشانغ شخصية ( موموتارو ) الأسطورية . وقد استغرق الأمر من آكوتاغاوا وقتاً لاستيعاب هذا النقد . وأثّرت هذه المقابلة في آكوتاغاوا تأثيراً شديداً ، وكتب ، بعد ثلاث سنوات يسترجع فيها كلمات تشانغ  :

” ما زالت ترن في أذني ” .

   وفي عام ۱٩۲٤م ، نشر آكوتاغاوا مقابلته مع تشانغ ، حيث راح يثني على بصيرته . وفي وقت لاحق من هذه السنة ، ذهب لكتابة رواية ساخرة لقصة       ( موموتارو ) ، التي حوّلها إلى احتجاج صارخ ضد الامبريالية اليابانية ، تخللتها صور بيانية تربطها بالحرب والإبادة الجماعية ، والاغتصاب الوحشي ، الذي كانت تمارسه الجيوش اليابانية في المناطق التي سيطرت عليها في الصين .

كان آكوتاغاوا  معروفاً بوعي اجتماعي معين ، لكن من الواضح أنه لم يكن جزءاً من الحركة البروليتارية السياسية ، ونادراً ما كان يراه النقّاد كاتباً سياسياً ، ومع ذلك بعد عودته من الصين كتب سلسلة من مقالات الهجاء السياسي المفاجئ ، وبدأ بكتابة بعض القصص القصيرة ذات الطابع السياسي . كتب ( موموتارو ) ، وتخيّل أشهر بطل شعبي خرافي ، في اليابان ، على أنه غازِ إمبراطوري ، وحشٍ ، لا يحركه حب الوطن بل الجشع .

   هناك قصص أخرى إلى جانب هذه القصة ، مشحونة بالنقد السياسي من مثل :

( شوغون ) ۱٩۲۲م ، وقصة ( العداء بين القرد والسلطعون ) ۱٩۲٣م  ، ويمكن القول نفسه عن قصة ( كابا ) ۱٩۲۷م ، التي حظيت باهتمام واسع ؛ وهي حكاية ساخرة عن مخلوق متقشّر بحجم طفل . من الفلكلور الياباني . له وجه مثل النمر ، ومنقار حاد مدبّب . اشتهرت بأنها قصة دقيقة ، ورائعة ، وواحدة من كلاسيكيات عصرنا . وتعبّر عن استهزاء حاد بالمجتمع الرأسمالي .

عندما وصل إلى الصين ، بدأ بإرسال انطباعاته إلى صحيفة أوساكا ، التي خصّصت لكتاباته عموداً خاصاً . وكانت الصين حينئذِ في قمّة ضعفها السياسي ، والعسكري ، والاقتصادي ، وكانت تترنّح جراء الضربات اليابانية .

ولكن إيمان آكوتاغاوا بعراقة هذه الأمة الخصبة ، المعطاء ، دفعه ليكتب :

” حتى عندما تسقط الصين على الأرض ، مثل شجرة قديمة ، فإن براعم الحياة الصغيرة تتفتح فيها ” [۱۱] .

إن صورة الصين كشجرة عظيمة تسقط على الأرض ، وما تلبث أن تتفتّح براعمها ، هي صورة مناقضة للأفكار العدائية ، اليابانية ، تجاه الصين . لذلك أثار هذا المقال استياء زملائه المحرّرين في الصحيفة .

                                                                                                                          ◘ ◘ ◘

   في السنوات التي انكبّ فيها آكوتاغاوا على الكتابة ، والتي لا تزيد على الأثني عشر عاماً ، كتب حوالي ( ۱٤٨ ) قصة ، وعدداً كبيراً من المقالات الأدبية ، والاجتماعية ، والسياسية ، وعدد من المراجعات ، والملاحظات ، والقصائد ، وما إلى ذلك . لكل من قصصه خصائصها ، ومحتوى موضوعها ، ومفهومها الفني ، وهذا نتيجة استكشافه الأدبي طوال عمله الإبداعي .

كتاباته أنيقة ، وجميلة ، وشاملة ، ودقيقة ، ومليئة بالاهتمام ، وفريدة من نوعها . وأسلوبه رشيق ، ورفيع . واحتلت كتاباته مكانتها السامية في الأدب الياباني ، والأدب العالمي على حد السواء .

يمكن اعتبار أدبه بمثابة تبلور للضمير ، والإحساس ، والأعصاب ، والذوق . إن خلقه وأدبه ، كانا تجسيد لثقافته وموهبته .

   لا ينبغي اعتبار آكوتاغاوا مجرد كاتب أعاد كتابة الكلاسيكيات العظيمة ، للصين واليابان ، كما يتوهم منتقدوه . كلا ؛ إن آكوتاغاوا تمحّص تلك الحكايات القديمة ، وراح يكشف عمّا في داخلها من جواهر ، ولقى ثمينة ، أخذ يصقلها ويعيد كتابتها وفق الرؤى المعاصرة ، بأسلوبه الجزل ، البليغ ؛ ولولاه لبقيت مدفونة إلى الأبد . وبمعنى آخر ، أن آكوتاغاوا لم يكتب ما تمت كتابته في السابق ، بل هو يعتمد على تلك الكلاسيكيات كمادة تاريخية تشرح القضايا المعاصرة ، أي أن تلك الموضوعات التاريخية هي مجرد ملابس ، على حد قول الناقد الياباني يوشيدا سييتشي .

” كان النأي عن العمل ( الأدبي ) إستراتيجية أساسية بالنسبة لآكوتاغاوا ، فهو باعتباره راوية كان يحب أن يكون محتجباً ، مجرداً من الطابع الشخصي ، وقد حرص على الالتزام بالنظرة العاجلة وغير المباشرة ، وعندما كان يلج قصصه ، فإن ذلك كان عادة في الدور المحدود ، المتمثل في المراقب أو مدون النص المهذّب الذي يحرص على حجب حضوره ” [۱۲] .

كان لأسلوبه وحسّه الأدبي دوراً أساسياً في نجاحه ، منذ انطلاقته الأولى . وأسلوبه يميل إلى القصة القصيرة ، ويُقال أنه يشبه سكوت فيتزجيرالد ، إذ كان

هذا الكاتب قد جعل من القصة القصيرة سلاحه الأول في معركة الأدب

   كان ناتسومي سوسيكي قد قرأ قصة ( الأنف ) ، وأبدا إعجابه ، واندهاشه . وقال لو أنه كتب عشرين ، أو ثلاثين قصة من هذا القبيل ، فلن يكون هناك أحد يماثله في عالم الأدب .

في الوقت المعاصر ، كتب عنه الروائي الياباني الشهير هوراكي موراكامي بإسهاب يقول :

  ” إن أهم ما أعتبره أجل فضيلة في أدبه ، هو التميز في أسلوبه : الجودة المطلقة في استخدامه للغة اليابانية . لا يتعب المرء من قراءة أعماله الجيدة ، وإعادة قراءتها مرّة أخرى . آكوتاغاوا كان كاتب قصة قصيرة ، ولديه العديد من الأعمال ، بعضها أكثر نجاحاً من الأعمال الأخرى . في الواقع هناك عدد لا بأس به يبدو أنه ليس له أهمية خاصة للقارئ الحديث ، أو على الأقل للقارئ العام الحديث . قد يكون هذا بسبب من عدم الاستقرار العقلي لآكوتاغاوا ، وفقدانه التركيز في أدبه ؛ ولكن عندما يكون تركيزه ثابتاً فإن الحدّة في أسلوبه تكون فريدة من نوعها . تدفق اللغة هو أبرز ميزة لأسلوبه ، لا يركد أبداً ، إنه يتحرك مثل كائن حي . اختياره الكلمات بديهي ، وطبيعي ، وجميل . درس في شبابه اللغات الأجنبية ، والأدب الصيني ، فكان قادراً على استدعاء الكلمات الكلاسيكية الأنيقة ، والتعبيرات التي لم يعد بإمكان كتّاب العصر الحديث استخدامها . كان آكوتاغاوا يتلاعب بها كما يحلو له ” [۱٣] .

وكان آكوتاغاوا يتجه نحو الحداثة دائماً . والمتتبع لأعماله ، وفق تسلسلها الزمن ، يلاحظ ميله إلى التجديد من عملِ إلى آخر . ولا غرو في ذلك ، فقد وِلد آكوتاغاوا في العصر الحديث ، العصر الذي طلّت منه اليابان على الحضارة الغربية ، والتعليم على النمط الغربي ، وفي الجامعة ، اطلع على الأدب الغربي ، واستوعب الحسّاسية الغربية .

وختاماً يقول هاروكي موراكامي :        

” كل ما أريد قوله هو أنني ـ وربما معظم قرّاء آكوتاغاوا ـ تعلّموا الكثير من أعماله ، ومن آثار حياته الحيّة . وما زلنا نستخلص منها ما يمكّننا المضي قدماً في حياتنا . وبعبارة أخرى ، آكوتاغاوا لا زال يعيش ويعمل في واقعنا كمواطن وأديب ” [۱٤] .

                                                                                                                           ◘ ◘ ◘

المـــــــــــراجع :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[۱]: التنين في الثقافة اليابانية ، تجسيد لمجموعة من القوى الإلهية . هذا المخلوق الرائع يمكن أن يكون شريراً ، ولطيفاً ، ونبيلاً . ترتبط صورته ارتباطاً لا ينفصم بالماء ، والذي بقوته ، وعدم القدرة على التنبؤ به ، كما لو كان يجسد الطاقة الهائلة لحيوان قوي.

[۲] : Jay Rubin, Rashomon and seventeen other stories , Ryunosuke Akutagawa , penguin books ltd. London , 2006 . p26 .

[٣] : Jay Rubin , Rashomon and seventeen other stories , Ryunosuke Akutagawa , penguin books ltd . London 2006 .     [٤] : ويليام موريس ( ۱٨٣٤ ـ ۱٨٩٦ ) ،  كاتب اشتراكي انجليزي ، مهندس معماري ، ومصمّم ، وفنان .

[٦] : ( أوغين ) ، آكوتاغاوا ريونوسوكي ، ترجمة ميسرة عفيفي ، مدونة ميسرة عفيفي الإليكترونية .

[۷] :  ( خيط العنكبوت وقصص أخرى ) ، تأليف نخبة من الأدباء اليابانيين ، ترجمة سمير عبد الحميد إبراهيم و سارة تاكاهاشي ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ـ مصر ، ۲۰۰٥م ، ص٥٨                                                                                                                                                                                                                                                                             [٨] : ( راشومون وقصص أخرى ) ، ريونوسوكي آكوتاغاوا ، ترجمة كامل يوسف حسين ، دار الثقافة والإعلام ، الشارقة ، ۲۰۰٤م ، ص ٩.                                                                   

[٩] : Eriko Arita , Ryunosuke Akutagawa in focus , the japantimes.com , mar. 18. 2012

[۱۰] : David A. Henry , Momotaro , or the peach boy , japans best – loved folktale as national allegory , university of Michigan , 2006 , p 89

[۱۱] : المصدر السابق نفسه ص ٩٤ .

[۱۲] : ( راشومون وقصص أخرى ) ، ريونوسوكي آكوتاغاوا ، ترجمة كامل يوسف حسين ، دار الثقافة والإعلام ، الشارقة ، ۲۰۰٤م ، ص ۲٥.               

[۱٣] : Jay Rubin , Rashomon and seventeen other stories , Ryunosuke Akutagawa , penguin books ltd . London 2006 .   

P28 .

[۱٤] : المصدر السابق نفسه .

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *