فوميكو هاياشي ، الغيمة التائهة
محمود يعقوب
من المثير حقاً حين نتنبّه إلى ما كُتِبَ عن سيرة الروائية فوميكو هاياشي ، وأسرار حياتها ، كان أكثر بكثير ممّا قيل عن أدبها الراقي ؛ على الرغم من غزارة عطائها : في القصة القصيرة ، وقصص الأطفال ، وفن الرواية ، والشعر ، وأدب الوصف لجولاتها في اليابان وخارجها ، ناهيك عن محاولاتها في الرسم . كانت الكتابة عن أدبها قليلة بالفعل ، ومردّ ذلك في تقديري إلى ثلاثة أسباب مترابطة مع بعضها بعضاً :
السبب الأول ، هو تركيبة عائلتها ، ووضاعة الأصل .
والسبب الثاني ، هو تشرّدها في طفولتها ، وعدم استقرارها ، وجملة الأحداث التي واكبت ذلك .
أما السبب الثالث ، هو نبوغها المبكّر . على الرغم من ضغط ، وثقل السببين الأول والثاني على حياتها ، إلّا أنهما لم يعيقاها عن عملها ، فكانا مصدراً للإلهام والإبداع ، والارتقاء الحثيث إلى مصاف الأدباء البارزين في بلدها .
ولكن سواء فاض الحديث عن أدبها أو غاض ، تبقى فوميكو وجهاً ناصعاً من وجوه الأدب الياباني والعالمي الحديث ، وصوتاً نسائياً بارزاً ، طغت نبرته الجميلة ، وانصبّت في أسماع الكثير من القرّاء .
ولا بأس من الاسترسال في سيرة تشبه مستنقعاً من الحقائق المتضاربة :
” ولدت فوميكو هاياشي في ٣۱ / ديسمبر / ۱٩۰٣م ، في مدينة شيمونسكي ، ياموغوشي . وتوفيت في ۲٩ / يونيو / ۱٩٥۱م ، في العاصمة طوكيو . عن عمر يناهز
٤٨ عاماً ” [۱] .
ولدت هاياشي فوميكو في مدينة موجي ، وهي بلدة صغيرة على مضيق شيمونسكي ، محافظة فوكاكا ، في غرب اليابان . وكانت الطفل الرابع غير الشرعي لوالدتها ، التي أنجبت ثلاثة أطفال ، صبيين وبنتاً في إثر زواجين سابقين لزواجها الحالي .
كانت والدتها هياشي كيكو ، ووالدها مياتا سنتارو غير متزوجين ، كانا قد تعرّفا على بعضهما البعض ، وانطلقا يعملان بائعين متجولين ؛ واستأجرا منزلاً في مدينة موجي الصغيرة ، وهناك أنجبا فوميكو هاياشي . ولم يكن زواجهما شرعيّاً ، لذلك تم تسجيل فوميكو في سجل عائلة عمها ( هاياشي هيسايوشي ) ، وكانت والدتها نفسها ، في السابق ، طفلة غير شرعية أيضاً . وربما منع ذلك فوميكو من التعبير عن المشاعر السلبية تجاه حقيقة أنها كانت ثمرة زواج غير شرعي . غير أن حاجز عدم الشرعية هذا كان حاجزاً اجتماعياً وحسب ، لم توليه فوميكو اعتباراً كبيراً ، ولم يشكّل عائقاً ، أو قلقاً مدمّراً نحو انطلاقتها في الحياة عموماً ، وفي الإبداع الأدبي خصوصاً . كانت ذات شخصية قوية ، ومفعمة بالأمل .
في الواقع لم يكن والدها يخطّط للبقاء طويلاً مع والدتها ، ولكن ولادتها جعلته يعيش برفقتهم ما يقرب من السبع سنوات ، قبل أن يطردهما من منزله .
في هذا الوقت ، تحسّنت الحالة التجارية لوالدها ، وانتعشت حركة البيع والشراء ، بفعل اندلاع الحرب اليابانية الروسية . حتى أن الأب نجح في افتتاح بضعة متاجر له في مدن مجاورة ، مستعيناً ببعض المعارف والأصدقاء ؛ وكان من بينهم شاب في العشرين من عمره يُدعى كيسابورو .
وفي عام ۱٩۱۰م ارتبط سنتارو بفتاة غيشا ، إثر ازدهار تجارته ؛ وصار ينفق عليها بإسراف ، وكانت كيكو على دراية بهذا الموضوع ، وتسبّب الأمر بتوتر العلاقات العائلية يوماً بعد آخر ؟ .
كان الشاب كيسابورو يسكن معهم في المنزل ، وفي ظل الأجواء الكئيبة ، التي خيّمت على العائلة ، وتأزم العلاقة بين الزوجين ؛ أسرع سنتارو ليكيل التهم لزوجته كيكو وصديقه كيسابورو ، بأنهما على علاقة غرامية ، وأمرهما بمغادرة المنزل . وما لبث أن استدعى ابنته فوميكو ، وخيّرها بين البقاء معه أو اقتفاء أثر والدتها ، فكانت أن ردّت عليه بحزم أنها ستغادر مع والدتها . وهكذا في يوم من الأيام المثلجة خرج الثلاثة مطرودين ، وقصدوا لفورهم مدينة نكازاكي .
ولم يطل الوقت بوالدتها كيكو حتى تزوّجت من الشاب كيسابورو ، الذي كان يصغرها بعشرين عاماً .
عاد كل من كيسابورو وكيكو كبائعين متجوّلين ، وتنقّلا في العديد من المناطق . وعلى مدار عشرة سنوات تقريباً ، كانت فوميكو هاياشي تجول برفقتهم ، وقد غيّرت أماكن الإقامة والمدارس مرّات كثيرة . تقول فوميكو في كتابها الشهير ” مذكرات متشرّدة ” :
” قدري أن أكون متجوّلة ليس لي موطن أصلي “[۲] .
في هذه الأوقات الحرجة ، لم تلتق فوميكو مع والدها إلّا لماماً ، وكان قد تزوّج من عشيقته الغايشا وفي الواقع لم تكن تشعر بدفء كبير تجاهه . وفي روايتها التي صدرت عام۱٩٤۱م ( خطاب في أبي ) ، تخبر الرواية عن افتقارها للعاطف إزاء أبيها ، وذلك على لسان بطلة الرواية :
لم أشعر حتى بالقليل من الحب تجاه والدي .
يجب أن أعترف هنا ، أنه ليس لدي سوى مشاعر قاسية ، وباردة تجاه أبي ، الذي طرد زوجته وطفلته ” [٣] .
ولكنها راحت تزوره ، فيما بعد ، لا سيّما بعد طلاقه من الغايشا ، وباتت تعيش بين والدتها تارة ، وبينه تارة أخرى ، وكانت تجد في هذا التنقل بينهما بعض المتعة .
ويُقال أن والدها ساعدها في دفع تكاليف دراستها في وقت لاحق . وكانت تنظم أحياناُ إلى والدتها وكيسابورو لتساعدهما في بيع بضائعهما على الطرقات .
وفي ربيع عام ۱٩۱۰م التحقت فوميكو بدراستها الابتدائية في مدينة نكازاكي ، وكانت تلك المدرسة واحدة من أكثر من عشر مدارس تنقّلت بينها فوميكو بحكم عدم استقرارها في مكان واحد .
في الصف الخامس ، التحقت فوميكو في مدرسة البلدية الابتدائية في مدينة أونوميتشي ، وفي هذه المدرسة أصغت فوميكو إلى توجيه المعلم كوباياشي ماساو ، الذي سيظل شخصية على جانب من التأثير في حياتها . كان كوباياشي أول شخص يعترف بموهبة فوميكو الأدبية . شجّعها الرجل على متابعة دراستها في الأدب والموسيقى والرسم .
وقد أذنت لها والدتها في مواصلة دراستها .
نجحت فوميكو في اجتياز امتحانات القبول ، في الدراسة الثانوية ، حينما كان عمرها أربع عشرة سنة ، وتم تسجيلها في المدرسة الثانوية ، في مدينة أونوميتشي ، وفي هذا الوقت جمعتها رابطة الحب مع طالب يُدعى أوكانو غونيشي ، فكان حبها الأول .
حقّقت فوميكو أداءاً جيداً في الرسم ، والتكوين ، ولكنها عانت في الرياضيات ، والدروس العلمية . لذلك كانت تذهب إلى المعلم كوباياشي ، في منزله ، لتنال دروس تقوية .
كان كيسابورو ، وكيكو مشغولين بالعمل أغلب أوقاتهما ، وذلك ما جعل فوميكو تعاني من الوحدة كثيراً ، وغالباً ما كانت تلجأ إلى مكتبة المدرسة هرباً من الوحدة في المنزل .
قرأت بفارغ الصبر أعمال جاك لندن . ثم تطوّرت قراءاتها الأدبية ، فقرأت
أعمال غوتة ، برسبير ، يوهان فولفغانغ ، هنريش هاينه ، والت ويتمان ، وآخرون .
وكتبت فوميكو إبان هذه المرحلة الشعر الغنائي . وفي عام ۱٩۲۱م عندما كانت في السنة الرابعة في مدرسة البنات استطاعت فوميكو من نشر مجموعة من قصائدها .
تخرّجت فوميكو من الثانوية بدرجة ضعيفة ، وربما كان لليالي العمل ، وعطلات نهاية الأسبوع ، أثراً على أدائها الدراسي ، ولكن ممّا لا شك فيه أن المدرسة قد زوّدتها بالخبرات ، والمهارات الأساسية التي تحتاجها لتكون كاتبة ناجحة في المستقبل . وقد واظبت على قراءاتها الأدبية بعد تخرّجها من الثانوية
واستهوتها مطالعة قصص الأطفال كثيراً ، ولا سيّما قصص هانس كريستيان أندرسون ، وكتبت في سن الثامنة عشر بعض هذه القصص . ويبدو أن حبيبها أوكانو غونيشي قد خدعها ، حينما نجح في استدراجها إلى العاصمة طوكيو ، بعد ذهابه للدراسة في جامعتها ؛ وقد تبعته فوميكو ، يحدوها الأمل في العيش تحت ظلال حبه ، وكذلك السكن في هذه المدينة التي يجتمع فيها عدد كبير من الكتّاب ومحبي الأدب ، واتخاذها قاعدة للانطلاق إلى عالم الشهرة والنجومية . وقد عملت فوميكو في طوكيو في جملة من الأعمال المتواضعة جداً من أجل توفير لقمة العيش . وما لبثت عائلتها أن لحقت بها إلى العاصمة ، حيث افتتح كيسابورو متجراً لبيع الملابس المستعملة ، وأخذت فوميكو ووالدتها تساعدانه أيضاً .
وحينما نقول أن حبيبها خدعها ، فهذا يتضح بجلاء بعد تخرّجه من الجامعة عام ۱٩۲٣م وإسراعه للتنصّل من علاقته مع فوميكو ، بذريعة أن عائلته لا توافق على فكرة الزواج منها ، لتعيش فوميكو في خيبة مريرة ! .
انتقلت فوميكو للسكن في شقة مستأجرة ، ليس بعيداً عن عائلتها ، وكانت تعمل آنئذِ نادلة في إحدى المقاهي . ولكن هذه السنة كانت سنة شؤم حقيقية ، ففي شهر سبتمبر منها ضرب الزلزال العظيم مدينة طوكيو ، ليدمّر الجزء الأعظم منها ، وهرب القسم الأعم من سكانها بعيداً عنها .
” فرّت فوميكو على طول الساحل ، وذهبت إلى أونوميشي ، حيث أوت في مدرستها السابقة ، ثم ذهبت لاحقاً إلى شيكوكو، حيث التقت بوالديها الذين فرّا من منطقة طوكيو المدمّرة . وفي عام ۱٩۲٤م عادت إلى طوكيو لتتنقّل بين عدد من الأعمال :
عاملة مصنع ـ مندوبة مبيعات في محل صوف ـ مساعد مراقب في مكتب ـ عامل مكتب ـ مساعد متجر سوشي ـ نادلة ـ …الخ ، غير أن الأجور لم تكن تكفيها ، فكانت تتلقّى الدعم من والديها بين وقت ولآخر .
وأخذت فوميكو تتقرّب من الوسط الأدبي . وخلال هذه الفترة كانت تتنقّل من عشيق إلى آخر ” [٤] .
” في العام ۱٩۲٥ م ، بلغت هاياشي عامها الحادي والعشرين وكانت تعمل في أحد مقاهي شينجوكو وتزوّجت من الشاعر نومورا يوشيا الذي عرف قيمة مواهبها الأدبية ، لكنهما انفصلا بعد عام فانتقلت للعيش في غرفة استأجرتها فوق دكان بائع ساكي في هونجو مع كاتبة من الطبقة البروليتارية تدعى هيراباياشي تايكو ” [٥] .
” وقد وصفت في كتابها ( يوميات متشرّدة ) كيف كان نومورا يضربها ، ويترك لها جميع مسؤوليات البيت ، قبل أن يتركها ويذهب مع امرأة أخرى ” [٦] .
إذن ، لقد مرّت فوميكو بسلسلة من العلاقات العاطفية الفاشلة ، والمحبطة ؛ ولكن تلك العلاقات كانت ، بلا شك ، مصدر إلهام للعديد من أعمالها الأدبية .
بعد فشل علاقتها مع الشاعر نومورا ، عادت فوميكو إلى العمل في طوكيو كرّة أخرى ، لأجل إعالة نفسها . فعملت على بيع المخطوطات ، واشتغلت نادلة مقهى ، ولكنها ما لبثت أن عادت إلى مدينتها أونوميتشي ، والعيش برفقة والديها . وهناك شرعت بكتابة عملها الأدبي الشهير ” الأكورديون والسمك ” ، الذي يصف طفولتها في أونوميتشي .
في شهر ديسمبر ۱٩۲٦م ، تزوّجت فوميكو من الرّسام الياباني تزوكا روكوبين ، الذي كانت قد قابلته ، منذ وقت ، وأعجبت به . وأمضت برفقته بقية حياتها . وكان هذا الرجل قد وُصِفَ بأنه هادئ وودود ، ويختلف كثيراً عن كل عشاقها السابقين .
وأبدى روكوبين لها حباً واحتراماً عميقين ، ترجمها في سلوكه المتفاني معها . فقد تنازل الرجل عن سجل عائلته إلى فوميكو ، وتلقّب بلقب هاياشي هو الآخر . كما تخلّى لاحقاً عن ممارسة الرسم ، ليتفرّغ تماماً إلى مساعدة فوميكو ، وتهيئة الظروف الملائمة لإبداعها الأدبي . كذلك فإن روكوبين أبدا مهارة في إدارة الشؤون المالية للأسرة ، وجمع الممتلكات حتى نهاية حياته .
وفي هذه الآونة ، اندمجت فوميكو مع الأوساط الأدبية ، والثقافية ، في مجتمع العاصمة طوكيو ؛ ولا سيّما الوسط اليساري الذي أبدت فوميكو تعاطفاً معه . كما
” أتيحت لها فرصة لتكون جزءاً من مجموعة من الشعراء الفوضويين ، والتقت بهم في الطابق الثاني من مطعم فرنسي في هونغو ، لفترة من الوقت ، كانت تؤمن بشيء واحد مشترك بينهم ، ولكن في النهاية أدركت فوميكو أن أفكارهم ومعتقداتهم تتجاوز الحدود بالنسبة لها ، لذلك قرّرت ترك المجموعة “[۷] .
ترسّخت شهرة فوميكو في بلادها ككاتبة وروائية وشاعرة . وفي عام ۱٩٣۰م سافرت إلى تايوان برفقة عدد من الكاتبات اليابانيات ، بدعوة من حكومة تايوان .
وكتبت رواية عن تلك الرحلة . ” وما بين عامي ۱٩٣۰ ـ۱٩٤٣م ، سافرت فوميكو ما لا يقل عن اثنتي عشرة سفرة إلى الخارج ، وأصبحت تجربتها جراء تلك السفرات مهمة “[٨] .
وفي هذا الوقت ، طبعت فوميكو ديواناً شعرياً ، تضمّن جميع قصائدها التي كتبتها سابقاً . ولكنها على الرغم من كونها كتبت الشعر في سنّ مبكرة من حياتها ، لم تفلح بأن تنال شهرة كافية كشاعرة لامعة ، بقدر شهرتها ككاتبة سرد . وغالباً ما تستعين بالشعر في نصوصها النثرية . وقد تجاهل المحرّرون الكثير من أعمالها الشعرية المبكّرة .
” طغى نجاحها ككاتبة نثر وصحافية على شعرها لسنوات عديدة . ولكن هناك احتمالات أخرى قد تفسّر تجاهل عملها الشعري . كان هناك افتراض في بعض
الدوائر الأدبية من أن كتابة الشعر كانت مجرّد مرحلة في تطوّر كاتب في اليابان . وحتى الأربعينيات ، لا تزال هنالك وصمة عار تطاردها . ربما كان هناك الحسد بين زملائها الشعراء ، بعد نجاح كتابها الشهير ” يوميات متشردة ” ؛ ولم تنتمِ فوميكو إلى أي مجموعة شعرية ، من تلك المجاميع التي كانت تسيطر على المشهد الشعري في اليابان . نعم ، الحسد من معاصريها هو احتمال واضح وراء التغاضي عن قصائدها ، التي عند قراءتها يعجب المرء بشجاعتها وجمالها “[٩] .
في قصيدة بعنوان ” قلب هادئ ” تتحدّث عن الحرمان :
تعبت ، عددّت على أصابعي :
لم أتناول الأرز منذ يومين ،
أنا باردة جداً ،
وأستمع لمعدتي ترنّ
مثل الجرس .
***
وهي لا تنكر حياتها الجنسية وحاجتها الصريحة إلى حبيب ، فتقول :
في قلبها ، المرأة البالغة من العمر خمسة وعشرين عاماً
تريد التخلّص من كل شيء والهرب ،
تغلق عيناً واحدة
تفتح عيناً واحدة
آه ، لا توجد طريقة ،
تريد رجلاً وتتوق إلى السفر ” [۱۰] .
***
في عام ۱٩٣۱م ، انطلقت فوميكو في رحلة إلى فرنسا ، حيث مكثت فيها شهوراً ، باستثناء شهر كامل أقامت فيه في لندن ، وأمضت ما يقارب ستة شهور في باريس ، وكتبت هناك بعض الكتابات ، التي أرسلت بها إلى اليابان ، لتنشرها . وفي الوقت الذي عادت فيه إلى اليابان باتت كتاباتها مطلوبة بشدّة . وربما ، ليس من باب المبالغة ، القول بأنها الأكثر شعبية في ذلك الوقت .
كانت فوميكو في مزاج لا يسمح لها بالسفر إلّا بمفردها ، في زمن كان فيه الموقف الاجتماعي محافظاً ولا يسوّغ ذلك .
باتت فوميكو هاياشي كاتبة مشهورة ، وبعد عودتها من فرنسا ، أخذت تجول في أنحاء اليابان ، لأجل إلقاء المحاضرات ، أو لأجل الترفيه .
وكثيراً ما صحبت والدتها وجدتها في هذه الجولات .
تمثّل هذه الحقبة استقرار فوميكو مالياً ، وباتت عائداتها من الكتابة والنشر تكفي لإعالة أسرتها ، وكانت قد أعانت زوج أمها كيسابورو في تجارته مرّات ٍ ومرّات .
وقد استمر فشل كيسابورو التجاري حتى النهاية ، حيث تقاعد عن العمل في آخر الأمر عام ۱٩٣٣م ، وأصيب بالتهاب رئوي أودى بحياته ، فانتقلت والدتها كيكو لتسكن معها في البيت ، وبمعية زوجها روكوبين .
” في ٤ / سبتمبر / ۱٩٣٣م ، اعتقلت الشرطة اليابانية فوميكو هاياشي ، بتهمة تقديم الدعم المالي إلى الحزب الشيوعي المحظور . وظلّت رهن الاعتقال ثمانية أيام متواصلة . كانت تجربة عصيبة كتبت عنها لاحقاً ، في سنة ۱٩٤۷م قصة قصيرة بعنوان : ( ليلة الأحلام ) ” [۱۱] .
في النصف الثاني من عقد الثلاثينيات ، باتت فوميكو من كتّاب اليابان المشهورين ، ومما يشير إلى قبول هذه الفكرة ، أنها اختيرت لاستقبال الكاتب الفرنسي الشهير جان كوكتو في يونيو ۱٩٣٦م ، أثناء زيارته لليابان . وصحبته كذلك في زيارته لمسرح الكابوكي .
ولكن قبيل الحرب العالمية الثانية ، وتحديداً في أواخر عام ۱٩٣۷م ؛ بدأ الجيش الياباني حرباً ضروس على دول جنوب شرق آسيا . فهاجم الصين واحتل أراضٍ شاسعة منها . كما راح يبسط سيطرته الاستعمارية على دول الهند الصينية تباعاً .
وحينما اندلع القتال قريباً من بكين ، بدأت اليابان بإرسال دفعات من الإعلاميين والكتّاب ، لأجل تغطية العمليات الحربية . وكانت فوميكو هاياشي واحدة من هؤلاء الكتّاب الذين تم قبولهم في وحدة تنظيم الإعلام المعروفة باسم ” وحدة القلم ” .
كانت أول امرأة يابانية تشهد سقوط مدينة نانيجينغ ، وتقف على المجزرة المروّعة التي ارتكبتها القوات اليابانية الغازية ، وكذلك في هانكو بعد سقوطها .
كان لمرافقتها القوات اليابانية ، كمراسلة حربية ، حافزاً لتقديم الدعم للثقافة العسكرية اليابانية ، وبالتالي ، فمّما لا يُنكر أنها قدّمت دعماً معنوياً ، لما ارتكبت تلك القوات من مجازر ، وانتهاكات حرب بحق المدنيين لا تُنسى . ” ويتساءل الكاتب والمترجم الاسترالي بولفرز قائلاً :
” لماذا كان اليابانيون أقل انتقاماً من شخصياتهم الأدبية ” الذين دعموا غزو القارة الآسيوية . فلماذا لم تتعرض فوميكو للعقاب ، بعد سقوط اليابان في الحرب واستسلامها لدول الحلفاء ، والبدء في محاسبة المسؤولين عن الدماء والخراب .
ربما لأن تقاريرها ، بكتابتها الشخصية ، وثّقت الحياة اليومية ، للجندي العادي ، وليس الانتصارات الدموية ؛ وفقاً لبولفرز ، ما أنقذها أيضاً ، كما يقول ، أنها كانت مناصرة للنساء والأطفال ، الذين عانوا أثناء الحرب ” [۱۲] .
لاحقاً ذهبت فوميكو في العديد من السفرات إلى الهند الصينية ، وسنغافورة ، وجاوا ، وبورنيو ، وسومطرة . وقد استثمرت تجارب رحلاتها هذه في أعمال أدبية عدّة .
كانت فوميكو منذ وصولها إلى طوكيو سنة ۱٩۲۲ ولغاية نهاية ۱٩٣٩م ، قد تنقّلت عبر مساكن متعدّدة ، حتى عزمت أخيراً على شراء منزل بدلاً من استئجاره . وبعد بحث ودراسة وتعب ، استطاعت فوميكو من بناء منزل رائع على الطريقة اليابانية التقليدية . وفي عام ۱٩٩۲تم افتتاح هذا المنزل كمتحف تذكاري في وسط العاصمة طوكيو ، أمام الزائرين . كان هذا المتحف محل إقامتها على مدار السنوات العشر الأخيرة من حياتها . وفيه كتبت فوميكو بعض أعمالها الأدبية . وهو مكان هادئ ورائع ، لقد خلقت مكاناً ليس لإثارة الإعجاب ، ولكن للعيش والعمل ، والاستمتاع بالحياة ، ومع ذلك ، فإن منزلها وحديقته يثيران الإعجاب .
وبعد وفاة فوميكو ، بان هذا المنزل كأنه تركة ثمينة لعائلة ميسورة . ظل زوجها روكوبين يعيش في المنزل بعد وفاتها ، حتى موته عام ۱٩٨٩م ، وبناءاً على وصيته تم تحويل البيت كمتحف يخلّد ذكراها .
في العامين ۱٩٤٤ ـ ۱٩٤٥م ، اشتدّ لظى الحرب ، ودارت رحاها على اليابان ، وأخذ قصف الحلفاء الجوي يطال كل مدينة ، ومرفق في هذا البلد . وهربت جموع الناس إلى الأرياف ، والجبال ، طلباً للأمان . وتم إجلاء فوميكو وعائلتها إلى قرية الينابيع الساخنة ، النائية ، في محافظة ناغانو ، بعيداً عن مخاطر القصف .
وكانت فوميكو قد تبنّت طفلاً في هذا الوقت ، في لفتةٍ منها إلى عالم الطفولة الذي ظل يأسرها بجماله .
” كان روبين على غير علم بذلك ، وكان منزعجاً من أنها جعلت اسمها أولاً في تسمية الطفل المتبنى .وتكشف هذه اللمحة من حياة فوميكو شيئين مهمين في شخصيتها :
أولاً : أنها معتادة على القيام بأشياء متهوّرة ، مثل تبني طفل بينما زوجها خارج المدينة .
ثانياً : أنها كانت أسيرة الخيالات في حياتها الواقعية ، تلك التي خدعتها ، والكثير من سيرتها الذاتية مبنية على أساسها .
وعلى أي حال كانت فوميكو سعيدة بابنها ، وقضت وقتاً طويلاً مع تاي ، وهذا هو اسمه ، على الرغم من ازدحام جدول أعمالها . وكانت قد كتبت قصتين قصيرتين عن عالم تبني الأطفال . ولكن لم تتح الفرصة لفوميكو لرؤية ابنها ينضج ويبلغ سن الرشد ، ماتت عندما كان عمره ثمان سنوات ؛ وتوفي تاي نفسه بوقت مبكّر في عام ۱٩٥٩م عندما سقط من قطار ، بينما كان في طريقه إلى المنزل عقب نزهة ممتعة ” [۱٣] .
أمضت فوميكو معظم أوقاتها في الريف ، خلال فترة الجلاء عن طوكيو ، وانشغلت في كتابة قصص الأطفال ، التي كانت تُسمعها لأطفال القرية . وفور عودتها إلى العاصمة ، بعد انتهاء الحرب ، انغمست في كتابة مثل هذه القصص ونشرها . كما أنها أعادت كتابة ثمان من قصص أندرسن الجميلة ونشرها أيضاً .
وعبّرت كتاباتها الجديدة عن نغمة حزينة ، غاب فيها التفاؤل ، وغضاضة الحياة التي كانت تطغي على كتاباتها السابقة . وربما كان مردّ ذلك إلى أجواء اليأس والهزيمة التي خيّمت بعد استسلام اليابان . وعدم الرضا عن موقفها مع القوات اليابانية آنفاً .
” أمضت السنوات الخمس الأخيرة من حياتها في الكتابة بشكل مستمر ، ووتيرة
قاسية ممّا أدى إلى تفاقم مرض القلب ، وعجّل في وفاتها . كانت خلال هذا الوقت تعمل على إنجاز ثلاثة روايات ، من بينها روايتها الجميلة ( غيوم تائهة ) ؛ بالإضافة إلى عددٍ من القصص القصيرة . نُشرت جميعها بعد موتها .
في مايو ۱٩٥۱م ، تزايد خفقان قلبها ، وأصبحت أضعف بشكل عام ، حتى توفيت يوم ۲۷ / يونيو / ۱٩٥۱ م بعد عودتها من أحد المطاعم .
وكان من أبرز المشاركين في جنازتها ” سيد الجنائز” ياسوناري كاواباتا ، الذي كانت له علاقة صداقة جيدة معها . وقد وقف يناشد حشد المشيعين قائلاً لهم :
” في غضون ساعتين أو ثلاث ساعات ، سوف تتحوّل إلى رماد . يطفئ الموت كل الذنوب ، لذلك أسألك في قلبك أن تغفر لها ” [۱٤] .
وكان يقصد بقوله هذا جميع من انتقدوا موقفها خلال الحرب ، حينما رافقت الحملات اليابانية في جنوب شرق آسيا .
” في بعض الأحيان ، يكون مُقَدّراً للأشخاص المبدعين أن يعيشوا في الوقت الخطأ .
كانت للروائية ، والشاعرة ، والرسّامة ، فوميكو هاياشي طريقة في الكتابة ، وطريقة في العيش ، تتعارض مع ضغوط وتوقعات المجتمع الياباني . التوتّرات خلقت في حياتها أعمالاً قوية ، وشعبية ، وغنية بالإنسانية ، وقوّة المرأة . كما أظهرت كتاباتها الجانب السفلي للمجتمع الياباني ، حيث شحذت مظالم العصر ، خلال فترة الاضطرابات والتغيّرات الكبرى .
ربما لم تحصل هاياشي على الإشادة التي تستحقها أبداً ، لسبب واحد ، لأنها كتبت عن النساء من وجهة نظرهن هن . غالباً ما كانت النساء تظهر في الأدب الميلودرامي العاطفي في ذلك الوقت ، ولكن أعمال هاياشي تُجاوز الحدود السهلة لتلك الكتابات العاطفية ، وراحت تتعمّق في إنسانية المرأة ، والظلم الاجتماعي الذي أحاق بها “[۱٥] .
ولا يسعني إلّا القول بأن الحياة المضطربة ، والمشتّتة لهذه الإنسانة الحالمة قد جعلتها غيمة تائهة حقّاً .
◘ ◘ ◘
أعمال فوميكو هاياشي الأدبية :
” إن كتابة الرواية أمر ممتع ، مثل انتظار حبيبك لوحدك ” .
في سن مبكّرة من حياتها ، بدأت فوميكو مشوارها الأدبي ، في كتابة القصائد ، وقصص الأطفال . وليس مستبعداً أن يكون هذا الجو الأدبي الحالم ، والرقيق ، ردّة فعل لرفض ذلك العالم التافه ، الذي تخبّطت فيه طفولتها ؛ وكان نصيبها منه التشرّد ، والفقر ، والمذلّة . في سن الثامنة عشر من عمرها ، كانت تكتب النثر والشعر للصحف المحلية . كانت في تلك الأدوار من حياتها تكتب بلغة غير معقّدة ، وغاية في السهولة ؛ وقد يكون مردّ ذلك إلى أنها كانت تفتقر إلى المفردات اللازمة لوصف مشاعرها ، بسبب من تواضع تعليمها . غير أنها بدت مصمّمة لكي تصبح كاتبة ناجحة . تقول فوميكو :
” على الرغم من أنني مازلت لا أصدّق أن شخصاً مثلي يتمتّع بمواهب متواضعة ، وضعف التعليم ، يمكن أن يدعم نفسه في كتابة الروايات . كنت أسهر لمدّة يومين أو ثلاثة أيام مرّة واحدة ، من أجل أن أكتب ، استمتعت بالقراءة مذ كنت طفلة ” [۱٦] .
خضع أسلوب كتابتها لتطور مستمر أثناء سني حياتها ، وهذا ما يجعل أمر تحديد بيانات حول كتابتها أمراً صعباً ؛ ولكن بشكل عام ، يمكن تقسيم تلك الكتابات النثرية إلى قسمين مرحليين :
الأول هو كتب السيرة الذاتية المبكّرة . والثاني هو أعمال السيرة الذاتية اللاحقة .ومعهما كتبت الكثير من أعمال السفر والترحال .
في كتاباتها الأولى لاحت فوميكو مستبشرة بالحياة ومقبلة عليها بفتوتها ، وراحت تعبّر عن إرادتها الحرّة في مجمل كتاباتها ؛ فاصطبغت تلك الكتابات بروح التفاؤل .
أما في القسم الثاني ، فقد حلّت الكآبة محل الاستبشار ، وسادت كتابتها نبرة حزينة ، مشوبة بالتشاؤم ، وطغى الإيمان بـ ( الحتمية )[۱۷] على روح الإرادة والعزيمة ، التي كانت تتحلّى بها .
ولكن بين هذين القسمين هنالك استثناءات ، حيث كتبت بعض الكتابات التي تختلف عن هذا أو ذاك ، في كل فترة من حياتها . لقد جرّبت فوميكو تطوير أسلوبها وبنية كتاباتها ، وتطوير شخصيتها طوال حياتها الأدبية . وهذا هو ديدن الكتّاب الطليعيين ، في بحثهم ، واجتهادهم لنحت شخصياتهم الأدبية المتميّزة .
استطاعت فوميكو أن تكتب الكثير من الأعمال الأدبية ؛ بل أنها نجحت في كتابة مئات الأعمال في الواقع . وجاء في الإنسكلوبيديا البريطانية أنها أول كاتبة روايات في اليابان الحديثة تمتّعت بنجاح شعبي وتقدير نقدي خلال مسيرة استمرّت عشرين عاماً ، وأنتجت خلالها ( ۲۷٨ ) كتاباً وكانت تعتز أشدّ الاعتزاز بكل ما كتبت . لا سيّما عملها الأول الشهير ( مذكرات متشردة ) ، الذي منحها الشهرة ، ومكاناً لائقاً بين جمع الكتّاب اليابانيين . كانت رواية ” مذكرات متشردة ” من أهم ما كتبته في المرحلة الأولى من حياتها الأدبية . ” وقد بدأت في نشره عام ۱٩۲٨م ، ففي أكتوبر من هذا العام اقترح الكاتب الياباني الشهير ميكامي أوتوكيشي نشر كتاب فوميكو هاياشي الذي يحمل عنوان
” مذكرات متشردة ” في اثنتين وعشرين حلقة ، في مجلة ” فنون المرأة ” التي كانت ترأسها زوجته ، وقد حظيت المذكرات بالكثير من التعليقات والانتقادات الإيجابية “[۱٨] .
” وفي عام ۱٩٣۰م صدر كتاب ” مذكرات متشردة ” من أحد المطابع ، فأصابت هذه الرواية ـ السيرة الذاتية الرائعة ـ نجاحاً فوريّاً . وبيع منها حوالي ٥۰۰٫۰۰۰ نسخة ، وتم طبعها ثلاث مرّات “[۱٩] . وتحوّل هذا العمل الأدبي إلى عمل درامي في السينما والمسرح . والحقيقة أن هذا العمل يُذكر عندما تُذكر الروائية فوميكو هاياشي . وكجزء من الأدب الياباني الحديث ، لا يزال يُطبع حتى اليوم . وهو نص يعتمد على بنية دفتر المذكرات ، وكُتِبَ بضمير المتكلم ، ويشكل سجل لأحداث مهمة في الماضي . وفي هذه الرواية ، أظهرت تجربتها المريرة مع التشرد والجوع والإذلال .
عاشت هاياشي وكتبت عن الهامشيين في الحياة اليابانية ، ومن خلال تجاربها ، اكتسبت هاياشي نظرة ثاقبة في حياة الفقراء والمنبوذين من المجتمع ، الذين نادراً ما يتم تصويرهم في الأدب الياباني . ولكنها كتبت عنهم بإحساس إيجابي بالحياة . وتعد رواياتها اليوم من كلاسيكيات الأدب الياباني مثل : ” ألماس جزيرة بورنيو ” ، ورواية
” الرماد ” ، ” زهرة الأقحوان المتأخرة ” ، ” لحم بقر ” ، ورواية ” طوكيو ” …
منذ روايتها الأولى تلك ، حرص القرّاء على معرفة حقيقة حياة الفقر التي اشتهرت بها ، فهي حتى يومنا هذا تُذكر على أنها عاشت حياة صعبة . نادراً ما تقوم الكاتبة عن فصل
نفسها تماماً عن السياق الذي تعيش فيه ، الكثير من أعمال فوميكو الأدبية يستمد عناصره من بؤس وشقاء تلك الحياة .
الأعمال الأولى للكاتبة ، كانت محبّبة للجمهور ؛ وفيها يتم التحدّث عن نضال البطلة ضد فقرها ، وليس معاناتها على يد الفقر ، بصورة تثير إعجاب القرّاء ، وتدفعهم ليستلهموا صور الإرادة الحرة والعزيمة من أبطالها . وقد اتسمت تلك الكتابات بروح التفاؤل . وكتبت قصص قصيرة ، بعد رواية ” مذكرات متشردة ” ، ومن أشهرها قصة ” الحصان ذو القرط ” عام ۱٩٣۲م ، وهي مكتوبة بشكل جيد ، وتدور حول الحياة في الفقر ، ولكن يتم سردها من خلال عيون الطفل الذي يحتفظ بنظرة مبهجة للحياة .
في الفترة التي كتبت فيها فوميكو أدبها ، ازدهرت العديد من المدارس الأدبية ومختلف الاتجاهات الفكرية ، ولكن من بين جميع هذه المدارس برز الأدب البروليتاري بقوة وتأثير واضح في الساحة الثقافية في اليابان .
وكانت جميع أعمال فوميكو الأخرى تعالج المشاكل التي تنفرد بها النساء ، مثل مشاكل الحمل والإجهاض ، أو الأطفال الغير شرعيين ، أو ولادة طفل غير مرغوب فيه ، أو معالجة المشاكل التي تواجه المرأة في المواقف الأسرية ؛ حيث يتم إعطاء رغباتها المرتبة الثانوية ما دامت الأولوية لرغبات الرجال .
كما تركز أعمال أخرى لها على الشخصيات النسائية التاريخية ، والشخصيات التي أعطيت القليل من الاهتمام في التاريخ الياباني .
كانت هذه الكتابات نصب أعين النقّاد . وقد شعرت فوميكو بالأسف حينما تحدّث عنها أحد هؤلاء النقّاد قائلاً :
” من المؤكد أن أعمال هاياشي تفتقر إلى الإرادة ، على الرغم من حقيقة أن أعمالها مرصّعة بالقصائد التي تتألّق مثل الأحجار الكريمة وسط النثر . فهي تفتقر إلى قوة مواقف الحياة الواقعية . لهذا السبب فإن أعمالها فيما يتعلّق بالأدب البروليتاري تعد من الدرجة الثانية ” [۲۰] .
مصطلح الأدب البروليتاري في اليابان يعني في الحقيقة ” أدب الفقر ” .
ومن المفيد بحق أن نلقي ضوءاً خاطفاً على هذا النمط من الأدب الياباني ، بالنظر لأهميته التي لا تنسى .
” عقب نجاح ثورة أكتوبر الإشتراكية في روسيا ، وظهور الاتحاد السوفيتي ، إزدهرت الثقافة والأدب في تلك البلاد ، وظهر ما يعرف باسم مدرسة الواقعية الاشتراكية ، كمذهب جمالي وإبداعي ، سواء في الإتحاد السوفيتي ، أو في البلدان الاشتراكية فيما بعد . ويركز أدب هذه المدرسة على دعم طبقة البروليتاريا ، ومعالجة حالة الفقر ، والظلم الاجتماعي ، وعموم مظاهر التخلف ؛ وهو أدب ثوري بلا ريب . ظهر الأدب البروليتاري لاحقاً في أنحاء متفرقة من العالم ، بل حتى في دول المعسكر الرأسمالي نفسه .
وفي اليابان ظهر هذا الأدب في أواخر العقد الأول من القرن العشرين . وأخذ يتطوّر ، ويتسع تأثيره ، وتزداد دوائره خلال العقد الثاني والثالث في القرن العشرين . كما أطلق المثقفون عدداً من المجلات الأدبية مثل ( الزارع ) ، ثم مجلة ( الجبهة الأدبية ) ، ومجلة ( إعادة الأعمار ) التي نشرت كتابات كبار الأدباء من أمثال :
ريونوسكي أكوتاغاوا ، ويوزيكو مياموتو ، والعديد من الأدباء البروليتاريين .
كما تم تطوير المسرح البرليتاري في ذات الوقت .
اتخذت الحكومة اليابانية إجراءات صارمة ضد المؤلفين البروليتاريين ، حيث تم حظر الحزب الشيوعي الياباني منذ تأسيسه عام ۱٩۲۲م، وعلى الرغم من عدم ارتباط جميع المؤلفين بالحزب ، إلّا أنه كانت هنالك اعتقالات جماعية .تعرّض بعض الكتّاب من أمثال تاكيجي كوباياشي إلى التعذيب حتى الموت على يد الشرطة .
بينما أجبر آخرون على التخلّي عن معتقداتهم الاشتراكية .
كانت الحركة الثقافية لا غنى عنها للحركة السياسية ، وكان الأدب في قلب الحركة الثقافية . وأنتج ” العقد الأحمر ” بين ( ۱٩۲٥ ـ ۱٩٣٥م ) أدباً حقيقياً ، وأعمالاً فنية كثيرة ومتنوعة .
وقد انخرط معظم كتّاب اليابان في الحركة البروليتارية . ومن أبرز روايات أدباء الحركة : رواية ” العاهرة ” ۱٩۲٥م لـ هياما يوشيكي ، ورواية ” الثدي ” للروائي يوريكو مياموتو ۱٩٣٥م . ويعد هذا الأدب حيوياً ، وجزءاً لا يتجزأ من الأدب الياباني الحديث ، بل أنه احتل مكان الصدارة فيه . غير أنه من الواضح أن ثمة تعتيم على هذا الأدب من قبل المؤسسات الحكومية اليابانية “[۲۱] .
” لم أحمل الراية البروليتارية قط . أنا أعارض الأدب البروليتاري على وجه التحديد ” . هذا ما ردّت به فوميكو هاياشي على منتقديها ، وهي ترفض أي نوع من الصلة والعلاقة بين أدبها وبين البروليتاريا . وطالما كتبت فوميكو عن قاع المجتمع الياباني ، بقيت الأصابع تشير إلى تلك العلاقة .
جرّبت فوميكو عدداً من أساليب الكتابة ، خاصة في السنوات الأولى من حياتها ككاتبة . لم تكن تنتمي إلى أي جماعة كتّاب . وفي الوقت الذي أظهرت فيه استجابة لتأثير الشعراء اليساريين عليها ، فسرعان ما تلاشى هذا التأثير .
جرّبت فوميكو العديد من الأساليب في كتابتها ، وكانت عازمة على التجريب . فما يميز الكتّاب اليابانيين ، عموماً ، هو صفة التحرّر من الجمود العقائدي ، وحسّ التجريب العالي ، بعيداً عن أي قيود . وكانت فوميكو متأثرة بعدد من الكتّاب
الأوربيين ، مثل : مارسيل بروست ، وبول أمبرواز فاليري ..
كتبت فوميكو تعليقاً عن كتابات يوكو ميتسو ريتشي :
” كنت أقرأ مؤخراً أعمال يوكو ميتسو ريتشي ، لا يوجد مكان بين كلماته ، ولا نفساً ضائعاً بين جمله . كنت متعبة في القراءة الأولى ، عند القراءة الثانية شعرت بنوع من الجاذبية تجاه عمله ، وفي القراءة الثالثة كنت أحترمه كثيراً . أسلوب يوكو ميتسو لا يمكن تحقيقه حتى لو حاولت أنا … لقد فكّرت بمحاولة كتابة الأدب البروليتاري الخاص بي ، بمثل هذا النوع من الأسلوب الكثيف ، ولكن بالنسبة لي ما زالت المهمة صعبة للغاية “[۲۲] .
كانت أكثر ميلاً للعزلة الفكرية ، وكانت لها آرائها الخاصة التي تعتز بها . أمضت فوميكو حياتها في شك من أعمالها وإنجازاتها الخاصة . لم تكن قط راضية عن أعمالها ، وغالباً ما أعربت عن رغبتها في تحسين كتابتها .
وغالباً ما كانت غير سعيدة بكتاباتها ، فأعلنت عن عدم رضاها عن مغازلة المدارس الفكرية :
” في ضوء جميع المدارس الأدبية المختلفة التي ارتبطت بها منذ بداية مسيرتي الأدبية إلى الوقت الحاضر ، تُرِكتُ أشعر وكأنني أحتاج إلى حقنة شرجية لتطهير نفسي من كل هذا “[۲٣] .
ظل السخط الذي أعربت عنه في قولها هذا حاضراً طوال حياتها . ونأت بنفسها عن الأدباء والمدارس الأدبية ؛ ولكنها ظلت على اهتمامها بقراءة أعمال الآخرين ، والاطلاع على مدارسهم الأدبية ، من غير أن ترتبط بها ، لأنها وجدت في مثل هذا الارتباط ” دعارة ” لأفكارها .
◘ ◘ ◘
على الرغم من تشردها ، وتنقّلها ، في فترة طفولتها ، وعدم استقرارها ، واضطرارها لتغيير أصدقائها ، وتكوين صداقات جديدة ، واضطرارها للتكيف مع البيئة الجديدة ؛ لم توضح في كتاباتها عن كرهها لأسلوب حياتها المتجول . لقد استمتعت برؤية أماكن جديدة والتعرّف على أشخاص جدد ، في الواقع لم تكن تعرف أي نمط حياة آخر . واستمرت بالسفر حتى عندما كانت بالغة . وكانت تفضل أن تنفق أموالها بالسفر منذ طفولتها . كانت وحيدة ، واستمتعت بوحدتها هذه حتى وهي بالغة ، وراحت تسافر من مكان لآخر ، مثل طير وحيد.
كانت تسافر في كل سنة تقريباً ، جولات محلية وأخرى خارجية ، وقد كتبت عن السفر الكثير من القصص والروايات . والروايات التي كتبتها عن رحلاتها هي الأكثر صدقاً ، والأقل رومانسية عن جميع تجاربها . وتساعد كتب الرحلات تلك في فهم كيف أدركت فوميكو الأحداث من حولها .
في كتاباتها ، يمكن أن نلمس كيف تمجّد فوميكو السفر والترحال ، وأنها تجد الشعور بالوحدة التي مرّت بها أثناء السفر سار بشكل خاص . في مقالة لها ، تعلن فوميكو أنها تشتهي الوحدة ، وذلك الشعور بالوحدة يعبّر عن كل ما عندها . وهي لا تقول بشكل مباشر لماذا تكون الوحدة مهمة ومحبّبة بالنسبة لها . لكنها تعلّق بأن الوحدة في الرحلة تجدها مرضية لها للغاية ، لأنها تجعلها تشعر بالحنين إلى الوطن :
” الحنين إلى الوطن أشعر به عندما أكون في دولة أجنبية هو ممتع لدرجة أنني يمكن أن أموت “[۲٤] .
في السفر تنتابها أحلام اليقظة بجمال اليابان ، ويستيقظ الشوق إلى المنزل .
كانت تتوق إلى اليابان ، حينما تسافر . تتوق حسّياً إلى الروائح ، والأصوات ، والذوق الياباني ، إلى سماع الأغاني الحزينة ، تتوق إلى أكل وعاء المعكرونة الرخيص الثمن . وشخصياتها القصصية تتوق هي الأخرى ، وتشعر بالحنين إلى مثل هذه الأماكن .
وفي بلاد الغربة كانت الأعمال الأدبية اليابانية غالباً ما تضرب وتراً عميقاً في روحها .
ومن المعروف أن أدب السفر والرحلات له شعبية كبيرة في اليابان ، كما له إيغال عميق في تاريخ البلاد ، والكثير من الأدباء كانوا ينتجون ذلك الأدب على مر العصور .
وقد ساعد هذا الأدب على تفتح خيال فوميكو الأدبي ، وترسيخ تجاربها الحياتية على تنوعها .
◘ ◘ ◘
لاحظ بعض نقّاد الأدب أنه بعد الحرب العالمية الثانية ، صارت فوميكو هاياشي تنهمك في كتابة أعمال ( مظلمة ) ، ولكن القليل منهم من شخّص بالضبط ماهية هذا الجانب المظلم ؛ على الرغم من وجود موضوعات في أعمالها السابقة قد اتسمت بالإحباط : الظلم ، الفقر : البطالة ، وسوء التغذية ، وما إلى ذلك ؛ ولكن إيمانها بالإرادة الحرّة ، وتحكم الفرد بمسارات حياته ، غرس كتابات فوميكو بجو من التفاؤل . بينما يلاحظ غلبة النظرة ( الحتمية ) في كتاباتها المتأخرة ، وكيف أحدثت هذه النظرة تغيّراً نوعياً في كتاباتها .
هذه النظرة لم تكن موجودة آنفاً ، وعلى العكس كانت فوميكو مستبشرة حينما تتحدّث عن القوة الشخصية الإنسانية .
” ولكنها عادت لتركّز انتباهها ، بعد الحرب ، على نقاط ضعف الإنسان : اليأس ، وعدم المسؤولية ، والفجور ، ويكمن وراء هذه السمات الغير مرغوب فيها فقدان الإرادة الحرة . مبادرة المسؤولية والأخلاق لا يمكن أن توجد إلّا إذا كان المرء يؤمن بالإرادة الحرة . ولكن هناك استثناءات في قصصها “[۲٥] .
كان مخاض الحرب العالمية الثانية عسيراً جداً ، وخلّف ظلالاً قاتمة خيّمت على حياة اليابانيين ، ووسمت أعماقهم بالخيبات المريرة ، والإحباط القاتل . وقد تكون هذه الأجواء الحالكة قد أورثت الروائية فوميكو هاياشي تغييراً نوعيّاً واضحاً في كتاباتها اللاحقة .
أثناء الحرب سافرت إلى الصين ، والهند الصينية كجزء من المجهود الحربي ، وتسنّى لها رؤية الكثير من الدمار بشكل مباشر . زارت فوميكو الصين خريف عام ۱٩٣٨م ، حيث رافقت القوات اليابانية لمدة شهر تقريباً . لم تسلم من رؤية المرض والموت . زارت المستشفيات ، واطلعت على صالات العمليات ، ورأت المرضى والمصابين في الحرب ؛ شاهدت المآسي بأم أعينها ، وقد حرّكت مشاعرها إلى حدّ البكاء .
كانت التوجيهات العسكرية للإعلاميين والمراسلين الحربيين صارمة ، ترمي إلى رفع الروح المعنوية لدى الجيش الياباني الغازي . وإظهار خسّة ، وحقارة ، وجبن الجيش المعادي . كما نصّت تلك الأوامر على الابتعاد عن تصوير ما يخلفه الجيش الغازي من مظاهر الدمار ، والتخريب ، والقتل ، والترويع . بمعنى آخر كان مطلوب من هؤلاء الكتّاب التعبير عن روح الحماس فيما يتعلّق بالروح اليابانية الفريدة ، والابتعاد عن تصوير الجانب البربري ، المؤلم للحرب .
لذلك ابتعدت فوميكو عن تصوير تلك الحالات في كتابتها ، ولربما أسرّت في دخيلتها تعاطفاً مع الصينيين .
في السنوات الأخيرة من الحرب ( ۱٩٤٤ ـ ۱٩٤٥م ) ، كانت فوميكو قد كتبت الكثير من القصص والروايات ، وقد حالت ظروف البلاد العصيبة دون نشرها . غير أنها نُشرَت في الأعوام ( ۱٩٤٦ ـ ۱٩٤۷ ـ ۱٩٤٨ ـ ۱٩٤٩م ) تباعاً . وكل هذا السرد يتعلّق بأشخاص تضرّروا من الحرب بمختلف الطرق . وكان الأكثر تركيز على الطريقة العشوائية التي تغيّرت بها حياة ومصائر الألوف من الناس جراء الحرب . وتصوير الإحباط الذي أحاق بهم . وفي هذه الأعمال جميعاً ، حيث يخيم الحزن ، نلاحظ فقدان الإيمان بالإرادة الحرّة .
حاولت فوميكو الإفلات من ربقة تأثير ( الحتمية ) على حياتها ، وكتاباتها ، ولكن الأحداث من حولها ، حيث الدمار العشوائي الذي خلفته الحرب ، وحالة قلبها المريض ،
التي تزداد سوءاً يوماً بعد يوم ، وتهدّد حياتها بالخطر ، ويجعل الموت قريباً منها أكثر من أي وقت مضى . وبدأ جسدها بالتراجع ، وازداد قلقها من الموت ، وتسبّب ذلك
فقدانها لكثير من نشاطها الجسدي والنفسي . وهذا ما ساهم في موقفها من ( الحتمية ) .
في آخر أيامها فقدت تسعة من خيرة أصدقائها ، من الكتّاب اليابانيين ، من أمثال :
رينتارو ، ويوكو ميتسي ، وأسامو دازاي ، وريتشي ، وغيرهم من الكتّاب الكبار ؛ ويشترك هؤلاء جميعاً بأنهم خلّفوا قليلاً من الكتابات الأدبية . فشيعتهم فوميكو بإحباط وكآبة ، وهي ترى أن لا شيء سوف يخلّدهم . وعلى صعيد آخر ملأها الاعتقاد بأن
أعمالها الأدبية لن تعيش بعدها .
في هذه الأيام القاتمة ، كانت تكتب رواياتها الأخيرة ، وهي أضعف من أن تقوم بأية رحلة . لم تعد تستطيع السفر ، وبدون السفر كان الأمر أكثر من صعب بالنسبة لها .
” من أجل كتابة الروايات أريد أن أسافر في كل مكان ، وإلى أي مكان ” .
◘ ◘ ◘
من الملاحظ في كتاباتها ، أنها تميل إلى استخدام الصور الشميّة في مقاطعها الوصفية استخداماً متكرّراً ، سواء أكانت تلك المقاطع واقعية أم خيالية . ففي كلا الحالتين تميل فوميكو ، في وصفها للمشاهد ، والمناظر ، الطبيعية ، والأشخاص ، والأماكن لذكر الروائح فيها . ووفقاً لتصوّري يعود أمر ذلك لسببين جوهريين : الأول أنها امرأة تعشق الذكريات ، بحكم حسّها المرهف ، والروائح عموماً أفضل ما يثير الذكريات والحنين ، والثاني يعود إلى أمر الحركة الحسيّة الجذّابة ، التي وشّحت الأدب الياباني في تلك الحقبة من الزمن ، وكان لها تأثيرها ، الظاهر والخفي ، على عموم الأدب الياباني .
من الملاحظ أيضاً في رواياتها وقصصها ، ورود الكثير من المقاطع التي تصف العنف والخشونة ! . فمن السهولة بمكان مشاهدة ملامح القسوة في نثرها الغزير .
وقد يكون هذا الميل في وصف المشاهد القاسية راجعاً جزئياً إلى تأثير طفولة فوميكو الفقيرة ، وقد يكون بحكم كونها فتاة شابّة تلقّت مثل تلك القسوة والخشونة من خلال حياتها الصعبة ، التي خاضتها مع عشيقها ، وزوجها السابق نومورا ، الذي كان يقسو عليها . تكتب فوميكو في كتابها ” شينشو ” المجلد الثاني ، ص۲٤۷
” عندما أخبرته أنني لا أريده في مكان عملي ، اختار نومورا منفضة من فوق صينية ورماها على صدري . طار الرماد إلى عيني وفمي . شعرت وكأن ضلعي قد قطعت . عندما هربت باتجاه الباب ، أمسك نومورا بشعري وألقاني على الأرض . اعتقدت ربما يجب أن أتظاهر بأنني ميتة ، لقد ركلني مراراً وتكراراً “.
لعل مثل هذه المقاطع تثير القارئ وتحمّسه على المضي في قراءة النص بجاذبية أكبر .
يبدو أن الكثير من العنف الذي وصفته في رواياتها ، كان مبنياً على تجاربها الواقعية الحافلة .
إن جميع كتابات فوميكو عبارة عن سرد قصير ، غير حاد ، وتتميّز برقة المشاعر . وهي تتجنّب الاجترار ، والالتزام بالوصف المباشر . كما يلاحظ أن رواياتها سريعة الخطى . ومن الخصائص الأخرى في كتاباتها استخدامها لصور السفر ، والتركيز على قضايا المرأة ، والصراحة في الحوار والعمل .
◘ ◘ ◘
روايــة ” غيــوم تائهــة ” :
هي جوهرة من جواهر الأدب الياباني الحديث ، وواحدة من أروع كتابات فوميكو هاياشي . ويشير عنوانها سلفاً إلى الضياع .
” دون شك ، تعد رواية ” غيوم تائهة ” أهم رواية كتبتها هاياشي ، فعلى الرغم من أنها لا تتناول السيرة الذاتية للكاتبة ، إلّا أن فيها من شخصيتها وحياتها أكثر حتى ممّا تتضمنه ” مذكرات متشردة ” . تتضمن مؤلفات هاياشي الأخرى التي تتخذ الطابع الخيالي بعض الجوانب من تجاربها ، أما رواية ” غيوم تائهة ” فتتناول حياتها كاملة بأسلوب أدبي رفيع ، ممّا جعلها إحدى أروع الروايات اليابانية في القرن العشرين “[۲٦] .
تدور أحداث هذه الرواية في الفترة التي وضعت فيه الحرب العالمية الثانية أوزارها . واستسلمت فيها اليابان لدول الحلفاء ، عقب سلسلة من الهزائم التي منيت بها على كل الجبهات . خرجت اليابان مثخنة بالجراح ، وقد لحق الدمار بكل مفاصل حياتها :
عسكرياً ، وسياسياً ، واقتصادياً ، واجتماعياً أيضاً .
لم تلجأ فوميكو إلى وصف المعارك وجلجلة الحرب ، ولم تسعَ إلى إقحام روايتها في تلك الأجواء السياسية الدولية ، التي أقصت اليابان من المشهد السياسي العالمي . بل ذهبت إلى اقتحام عالم اليابان الداخلي ، حيث ندوب الحرب وسمت كل ملمح من ملامح الحياة . فحلّ اليأس والإحباط في النفوس ، وشاع الخراب والفوضى في كل ركن ، مع تداعي القيم والأخلاق التي جبل عليها المجتمع .
بين دفتي هذه الرواية وصف متلاحق لحياة البطلة ، المحبطة ، والمهزومة ، منذ رحيلها إلى سايغون ، في فيتنام ، وعملها هناك ؛ وحتى عودتها إلى اليابان الجريحة .
” في هذه الرواية يُلاحظ أن البطلة تفتقر إلى الإرادة والعزيمة ، وتستسلم بسهولة إلى المواقف الصعبة ، وهذا ما يجعل شخصية الرواية تختلف عن شخصيات رواياتها الأولى ” .
” وفي الوقت نفسه يُظهر عشيقها توميوكا ميولاُ ( حتمية ) مماثلة ” [۲۷] .
في افتتاحية الرواية تظهر البطلة يوكيكو في طوكيو ، وقد عادت للتو إلى اليابان من دول الهند الصينية . كانت بأمس الحاجة إلى ترميم ذاتها وتأهيلها للعيش في العاصمة ، فلا منزل يؤويها ، ولا عائلة تضمّها وتحميها من وحدتها .
وجدت نفسها في آخر المطاف أنها مضطرة إلى زيارة إيبا ، زوج أختها ، الذي تربطها به علاقة غرامية قبل ذلك . لأنها تعتقد أن منزله كان المكان الوحيد الذي يمكن الإقامة فيه . على الرغم من أن العيش مع هذا الرجل البغيض سوف يعود بها إلى ذكريات مرّة ، ولكن لا مفرّ من ذلك .
غمر ذهن يوكيكو التفكير في حبيبها توميوكا ، وتمنّت أن يكون إلى جوارها . وفكّرت في الأوقات التي أمضتها إلى جواره ، في مدينة دالات ، في مستعمرة الهند الصينية الفرنسية ، التي رحلت إليها لتعمل موظفة طباعة ، لدى وزارة الزراعة والغابات اليابانية . وهنا توثقّت علاقتها مع موظف زميل لها يُدعى توميوكا ، ولم يلبثا حتى ارتبطا بعلاقة عاطفية جارفة . وكان هذا الشاب لديه زوجة وعائلة في اليابان ، لكنه أخبر يوكيكو سيحصل على الطلاق فور عودته إلى اليابان ، وسوف يتزوجها . وبعد فترة طويلة تجد يوكيكو أنه غير مهتم بمسألة الطلاق تلك ، فتتدهور علاقتهما العاطفية ببطء ؛ سيّما بعد أن علمت بعلاقاته النسائية ، المتكرّرة تباعاً .
الرواية غارقة بالحنين ، الذي يراود يوكيكو ، ويغرق ذاكرتها بأيام السعادة ، والانطلاقة العاطفية في دالات ، تتوق للعودة إلى جبال الهند الصينية الفرنسية ، حيث الحياة كانت جميلة وهادئة . كما أنها تتوق إلى علاقتها مع توميوكا كما كانت من قبل . وبعد أن أتمّت إجهاض طفلها ، الذي حملته جراء علاقتها الطويلة مع توميوكا :
” بينما كانت يوكيكو تتذكّر أطياف الألوان والمناظر الجميلة في الهند الصينية ، شعرت برغبة في العودة إلى ذلك المكان ثانية . فقد كانت تلك الحياة الفقيرة تخنقها . عندما فكّرت بأن الحياة التي عاشتها في دالات لن تعود ، بدت ذكريات ملامسات توميوكا لها عزيزة على قلبها . أدركت يوكيكو أن الرفاهية شيء جميل ، وتذكّرت الأصوات والموسيقى في جبال رانبين “[۲٨] .
. قرّرت ، في خضم خيبتها ، وخسارتها المريرة أن تزوره ، بعد وقت من فراقهما في اليابان ، بعد أن أسقطت جنينها منه .
” اتكأت يوكيكو على السرير وبكت … اشمأز توميوكا فجأة وهو يصغي لبكاء يوكيكو
وقال :
( أرجوك وأتوسل إليك أن تتركيني بحالي . لا أستطيع مساعدتك . أنا مجرد هيكل كائن بشري ) .
(لا أريد أن ننفصل . كن لطيفاً معي كما كنت من قبل ) [۲٩] .
بعد وفاة زوجة توميوكا ، عادا يلتقيان من وقت لآخر ، ولكنه بدا لها ضعيفاً أمام الحياة ، ولاح أكبر سنّاً ، فراحت تقول : ” منذ أن انتهت الحرب ، لم يعد الرجال ينفعون بشيء ، النساء هن من أصبحن قويّات “[٣۰] .
حينما عُرِضَ على توميوكا فرصة للعمل في جزيرة ياكوشيما التي تقع في أقصى الطرف الجنوبي من أرخبيل اليابان ، لم يكن متحمساً بعد للعودة إلى العمل في دوائر الحكومة ؛ ولكنه وجد أن ليس من حيلة أخرى بيده ، فوافق على الرحيل إلى تلك الجزيرة النائية .
كانت معرفة توميوكا بجزيرة ياكوشيما محدودة ، لا تتجاوز أنها مغطاة بطبقة كثيفة من غابات أشجار الأرز . ولديه شعور بأن الجزيرة مهجورة كليّاً ، وليس فيها سوى محطة أبحاث فقط .
قال له صديقه عن تلك الجزيرة :
” عادات الناس بسيطة وصادقة ، ويهطل المطر بغزارة لمدة شهر كامل ، أمستعد أنت لتحمل ذلك ؟ “[٣۱] . بعد أن أعلن توميوكا عن موافقته بالعمل في تلك الجزيرة ، اندفعت يوكيكو لإقناعه بمرافقته ، وحاول ، بكامل جهده في صدّها عن رغبتها . كان يرغب في الرحيل وحيداً .
كانت تحسّ بتذبذب عواطفه تجاهها ، وبرودتها في بعض الأحيان . وحينما تسأله عن سبب عزوفه عنها ، وفيما إذا كان غاضباً منها ، كان يجيبها قائلاً :
” لا ، لست غاضباً ولست راضياً ، منذ نهاية الحرب ، وكغيري من الناس ، فقدت القوة على اتخاذ قراراتي ” [٣۲] .
حاول توميوكا منعها من الرحيل معه ، وقد عرض عليها فكرة عودتها إلى عملها السابق ، ومساعدتها في استئجار غرفة تأوي إليها ، ولكن يوكيكو رفضت ذلك ، ولم تكن تفكر سوى بالرحيل معه .
أما بالنسبة له فقد شعر بالارتياح للانتقال إلى مثل هذا المكان البعيد عن الفوضى والخراب ، الذي كان يشوّه كل زاوية ومكان في البلد . ولكنه تمنى أن يكون ذلك بمفرده
ومن دون يوكيكو . وهكذا وجدا طريقهما معاً إلى الجزيرة النائية ، المغطاة بالغابات ، وسط البحر الأزرق الصافي ، وكأنها لغز من ألغاز الطبيعة .
وفور بلوغها تلك الأصقاع ، أدرك المرض المميت جسد يوكيكو المرهق . فلم تنعم بيوم من الصحو والراحة ، حتى فاضت روحها أخيراً ؛ تاركة توميوكا وحيداً .
فكّر بالعودة إلى طوكيو ، فلم تكن لديه الطاقة أو الرغبة بالبقاء في جزيرة ياكوشيما ، ولكنه أيضاً لم يستطع أن يحتمل فكرة ترك يوكيكو مدفونة هناك وحدها ، وما الذي ينتظره في طوكيو على أي حال ؟ . ” أدرك توميوكا أنه لم يكن سوى غيمة تائهة ، مجرد غيمة تظهر وتختفي ، ثم تعود للظهور من جديد في أي مكان وزمان “[٣٣] .
◘ ◘ ◘
المـــــــراجع :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[۱]: Encyclopedias Britannica , hayashi fumika – Japanese author
[۲] : غيوم تائهة ، فوميكو هاياشي ، ترجمة هالة دروج ، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث ، ۲۰۱۱م ، ص۷ .
[٣]:Susanna Fessler PHD , university at Albany , state university of new York scholars archive , Hayashi Fumiko : the writer and works ,1994 ,p 13 .
[٤] : Susanna Fessler PHD , university at Albany , state university of new York scholars archive , Hayashi Fumiko : the writer and works ,1994 ,p 13 .
[٥] : غيوم تائهة ، فوميكو هاياشي ، ترجمة هالة دروج ، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث ، ۲۰۱۱م ، ص٩ .
[٦] : Yabai writers , Yabai.com ,Hayashi fumika : the life of female author .
[۷] : المصدر السابق نفسه .
[٨] : Susanna Fessler PHD , university at Albany , state university of new York scholars archive , Hayashi Fumiko : the writer and works ,1994 ,p 27 .
[٩] : Patricia callan , Hayashi Fumiko , the mezzo cammin , women poets time line project .
[۱۰] : نفس المصدر السابق .
[۱۱]: Susanna Fessler PHD , university at Albany , state university of new York scholars archive , Hayashi Fumiko : the writer and works ,1994 ,p 32 .
[۱۲] : Patricia callan , Hayashi Fumiko , the mezzo cammin , women poets time line project . [۱٣]: Susanna Fessler PHD , university at Albany , state university of new York scholars archive , Hayashi Fumiko : the writer and works ,1994 ,p 43 . [۱٤] : Roger Pulvers ,The Japan time – opinion , Fumiko Hayashi :
Haunted to the grave by her wartime “ flute and drums “
[۱٥] : Michael pronko , arts cape Japan , English language web site , Hayashi Fumiko memorial hall .
[۱٦]: Susanna Fessler PHD , university at Albany , state university of new York scholars archive , Hayashi Fumiko : the writer and works ,1994 ,p 130 .
[۱۷] : عند التحدث عن الحتمية ، نشير هنا إلى الحتمية البيئية ، أي الإيمان بأن المحدّدات الأساسية للعمل هي أسباب في البيئة الخارجية ، في المقام الأول البيئة الاجتماعية . بعبارة أخرى ، الاعتقاد بأن الإنسان يخضع لعوامل خارجية التي تؤثر بشكل كبير عليه ، إن لم تحدّد مصيره بالكامل .
[۱٨] : غيوم تائهة ، فوميكو هاياشي ، ترجمة هالة دروج ، ط۱ ، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث ، أبو ظبي ، ۲۰۱۱م ، ص٩ .
[۱٩] : Roger Pulvers ,The Japan time – opinion , Fumiko Hayashi : Haunted to the grave by her wartime “ fluteand drums “
[۲۰]: Susanna Fessler PHD , university at Albany , state university of new York scholars archive , Hayashi Fumiko : the writer and works ,1994 ,p 68 .
[۲۱] : Oxford Research Encyclopedias , Literature , Japanese proletarian literature during the red decade , 1925 – 1935 .
[۲۲]: Susanna Fessler PHD , university at Albany , state university of new York scholars archive , Hayashi Fumiko : the writer and
[۲٣] : المصدر السابق نفسه ، ص۱۷۱ .
[۲٤] : المصدر السابق ص ۱٥٥
[۲٥] : المصدر السابق ص۲٣٥ .
[۲٦] : غيوم تائهة ، فوميكو هاياشي ، ترجمة هالة دروج ، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث ، ۲۰۱۱م ، ص۱۲ .
[۲۷]: Susanna Fessler PHD , university at Albany , state university of new York scholars archive , Hayashi Fumiko : the writer and works ,1994 ,p 255 .
[۲٨] : غيوم تائهة ، فوميكو هاياشي ، ترجمة هالة دروج ، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث ، ۲۰۱۱م ، ص۲۰٦.
[۲٩] : المصدر السابق ص ۲٤۱ .
[٣۰] : المصدر السابق ص۲۷٥ .
[٣۱]: المصدر السابق ص ۲٩٤ .
[٣۲] : المصدر السابق ص۲٩٥
[٣٣] : المصدر السابق ص٣٦۷ .