الحصّالة
قصة قصيرة
محمود يعقوب
بانت أمارات الشيطان على محيّاه وهو يحدّثني . شرع يحرّك يديه حركات سريعة ، ومبهمة أثناء حديثه . إن كنت قد أدركت شيئاً من تلك الحركات ، فقد أدركت أنّ هذا الفتى عازم على الثراء رغم أنف الأقدار ، التي ولدته فقيراً معدما .
كنت فقيراً مثله أيضاً . ولكنّ حركات يديه العجيبة أثارت امتعاضي ، ومن بين أصابع كفّه الطويلة ، تصاعدت رائحة الدهاء السمجة .
في الشارع الذي نقطنه ، كنّا مجموعة أصدقاء من صغار السن . درجنا نلعب ونمرح في كل يوم ، ونذهب إلى مدرسة واحدة . لم يكن بيننا أحد من أبناء الأثرياء ، كان حيّنا بمجمله حي فقراء .
لم يكن ( فاخر ) أقرب هؤلاء الأولاد إليّ وحسب ، بل كان أقرب جارٍ وصديق كذلك . وطالما كنت ألوذ به ، في الشارع أو المدرسة . كان صبيّاً متدفق الحيوية ، لا يتكاسل عن أداء أي عمل ، ويستجيب بحميّة ، حين ينتخيه معارفه ، وأصدقاؤه ، لأجل أن يمدّ لهم يد العون .
وعلى الرغم من حرارة دمه ، كان سريع التهرّب من واجباته المدرسية .
كان ( فاخر ) نحيفاً ، طويل الأطراف ، ضخم الكفين ، تغلب الشقرة على شعره ، ووجهه .
وحين يرتدي ثوبه الأبيض الفضفاض ، ذا الأزرار المفتوحة على الدوام ، يلوح لنا وكأنّه مزارع من مزارعي النخيل ! .
امتلك صوتاً عاطفياً يلج الأعماق سريعاً ، ويورث أثراً عميقاً في النفس . عندما كنّا ننشد الأناشيد المدرسية ، كان صوته متميزّاً ، حلواً ، ورخيماً ..
عشنا طفولتنا متجاورين بشكل حميم ، كما لو كنّا أقارب متمسكّين ببعضنا . واعتاد كل منّا على الآخر طوال سنوات ، ولكنّ هذه الحركات التي بدرت من يديه ، وهو يحدّثني ، لم أكن معتاداً عليها ، بكل صراحة .
« فاخر ، ضعْ أقدامك على الأرض ، ولا تحلّقْ عالياً في الخيال ! » .
غير أنّه كان يضحك من سذاجتي .
في غسق يوم جمعة ، ما أن فرغنا من لهونا ، وأوشكنا أن نفترق قال لي ، وهو يرطّب شفتيه بلسانه ، كعادته دائماً :
« غداً لن أذهب إلى المدرسة » .
« لمَ ؟ » .
« لدي عمل » .
« أي عمل هذا ؟ » .
« عمل في البيت » .
« حسناً ، سأحصل لك على أذن من معلمنا » .
« كلا ، لست بحاجة إلى أذن » .
« كما تريد ، ولكنّني إذا سؤلت عنك سأقول أنّك مشغول في عمل » .
تمتّع ( فاخر ) بهمّة ، وحيوية ، على الرغم من نحافته . وكانت الشعرات الشقر التي تنحدر عبر صدغيه تضفي على هيئته المزيد من المرح . غير أنّ ثمّة وشم صغير تحت صدغه الأيسر ، وكان على شكل نقطة خضراء اللون ، تسرق الأنظار ، كانت تضفي عليه ملامح قروية . كنت أردّد في سمعه قائلاً :
« سوف تحيى وتموت بهذه الهيأة الريفية يا فاخر » .
حينما أخبرني بتغيبه عن المدرسة ، تهيأ لي أنّه سيستغرق نهار ذلك اليوم في عمل من أعمال المنزل ، التي طالما كان يعتمد على نفسه في إنجازها ، بنشاطه المعهود ، على الرغم من صغر سنّه .
لم يكن يسكن معه في المنزل سوى والدته ، وزوجة أخيه العسكري ، الذي كان يُشاهد بضعة أيام فقط من شهر لشهر ، وكان في واقع الأمر بحكم الغائب الأبدي .
فات اليوم الثاني ، والثالث على تغيبه ، ولم يتيسّر لي رؤيته ، فاندفعت لزيارة بيتهم عند المساء . وهناك أخبرني ( فاخر ) عن قراره الغريب قائلاً :
« الآن بدأت أعمل ولن أذهب إلى المدرسة ثانية » .
أدهشني قوله المفاجئ ، فسألته :
« وماذا تعمل ؟ » .
« أبيع النفط » .
كانت المواقد ، يومئذٍ ، تعمل جميعها بالنفط الأبيض . وكان بيع النفط عملاً رائجاً ، يعود على صاحبه بربح لا بأس به .
ابتاع ( فاخر ) برميلاً من النفط ، وجلس في موضع قريب من سوق المدينة يبيع النفط . كان يعمل من أوّل الصباح وحتى الغروب . ولاح لي أكثر ابتهاجاً وهو ينطلق إلى عالمه الفسيح ! .
بادرت إلى نصحه وإرشاده بعدم ترك دراسته ، وأمسكت به ، وأنا أقول له :
« تستطيع أن تبقى معنا في المدرسة صباحاً ، وبعد الظهر تذهب إلى العمل » .
ولكنّه رفض الإنصات إلى كلامي ، وقال :
« كفى ، هل خُلِقَ الإنسان وعلى عينيه نظّارة القراءة ، ويتعين عليه أن يدرس حتى يهتريء جسده ، ويتعكّر ماء مخه ؟ سوف ترى وقبل أن تلحق في إكمال دراستك ، أكون أنا قد تحرّرت من حبال الفقر ، وصار بحوزتي ثروة طائلة » .
ثم رطّب شفتيه وقال :
« آن أوان العمل يا صاحبي » .
وابتسم . كان من ذلك الصنف الذي يعقب كلامه بالابتسام .
لاحت كلماتي الشفوقة معه لا معنى لها .
لقد سئم من كونه تلميذاً يجثم الفقر على كاهله . إن سنوات الدراسة تلوح طويلة ، غير محدّدة ، والالتفاف حولها يعني التشبث بالفقر والعوز ، والموت في ظلاله ، ذلك ما كان يتهيأ له ، بل ويؤمن به في دخيلتي ، لم أكفّ عن التفكير به ، ربما بداعي الشفقة ، وربما بداعي الحسد على تلك النقود التي باتت تملأ جيوبه .
كان لاستغراقه في عمله ، ومواظبتنا على الدراسة أن أصبحت لقاءاتنا نادرة . افترقنا ، لم نعد نلتقي ونلعب معاً ، كسابق عهدنا .
كان ذلك شرخاً في طفولته .
ذات مرّة اجتمع شملنا ، مصادفة ، وعدنا نلعب معاً في الشارع ، وأخذ ( فاخر ) يتشقلب ، ويأتي بحركات بهلوانية ، كان يتقنها أفضل من عندنا جميعاً ، وفجأة هوت من ثوبه بضعة قطع نقدية معدنية ؛ فتوقّف عن اللعب ، ليلتقطها ، ويعيد دسّها في طيّات ثوبه ، بطريقة عجيبة . كان قد أحدث شقّاّ صغيراً في الطيّة السفلى من ياقة ثوبه ، حيث يخبئ نقوده هناك ، وحين رأيته يفعل هذا ، فغرت فمي دهشة ، وهتفت به قائلاً :
« يا لك من شيطان ، بهذه الطريقة ستنظم إلى الأثرياء لا محال ! » .
ذبلت ألعاب طفولته باكراً ، وحتى تلك المساءات التي كنّا نمسك بساعاتها ، ونحيلها بألعابنا ، وصحبتنا ، إلى شيء من السحر والشعوذة فقدها ، ولم يعد يستنشق منها سوى رائحة النفط الأبيض ، النفّاذة .
وعلى الرغم من أنّنا كنّا نلعب ونلهو من دونه ، إلّا أنّنا لم نحبذ أن يسرقه النفط الأبيض من جمعنا .
لابدّ للشتاء ، الذي اصطحب البرد وحلّ برفقته ، من أن ينعش تجارة النفط أكثر من أي وقت مضى من السنة ، وأصبحت حين ألتقي ( فاخر ) أجده سابحاً بالنفط الأبيض ، من رأسه إلى قدميه . ومما لا شكّ في ذلك كنت أجده عملاً قاسياً بالنسبة لفتى مثله .
كان ( فاخر ) ذا لمّاحية وتدبير في الكثير من الأمور ، لا سيّما الأعمال الحرفية . مرّات عديدة أصادفه منغمساً في إصلاح الأثاث في منزلهم ، وأستغرق في مراقبته ، بشيء من الإعجاب ، كما لو كان نجّاراً موفور الحذاقة . كانت في حوزته عدّة نجارة بسيطة ، إلّا أنّها مكّنته من كثير من الأشغال .
֍ ֍ ֍
درجت دائرة التجنيد العسكري في المدينة على تسويق وجبات من الشبّان ، كجنود مكلّفين بأداء الخدمة الإلزامية ، في شهر آب من كل سنة ، وفي تلك السنة أخذ الشبّان المطلوبين لأداء الخدمة بالتهيؤ لذلك ، بعد أن بات شهر آب على الأبواب . كان من بين أعمال تهيؤهم الجوهرية ، تحضير صندوق خشبي ، متوسط الحجم ، لكل واحد منهم ، لأجل حفظ ملابسهم ، وأدواتهم الشخصية الأخرى ؛ وكان هذا الصندوق يشبه الحقيبة ، ويكون بديلاً عنها .
شاع استعمال هذه الصناديق بين الجنود المكلّفين بالخدمة ، آنذاك ، ودرجوا يطلقون عليها اسم ( الفاتية ) .
وفي يوم تسفيرهم إلى مراكز التدريب ، كان يلزم كل منهم بإحضار صندوقه معه قبل أن يدلف إلى مقعده في عربات النقل .
لم تفت على ذهن ( فاخر ) المتيقظ هذه الفكرة ، إذ سارع لشراء الكثير من ألواح الخشب ، وانكبّ في محل بيع النفط ، على نشر تلك الألواح ، وصقلها بخبرة ، ودربة ، وشرع يصنع تلك الصناديق ، في منتهى الإتقان ، مثل أي نجّار خبير ! .
باع ( فاخر ) عدداً ممتازاً من تلك الصناديق ، التي درّت عليه أرباحاً جيدة . وحتّى بالنسبة لأولئك الشبّان الريفيّين ، المكلّفين بالخدمة الإلزامية ، صار معلوماً لديهم أن أفضل هذه الصناديق ، التي يمكنهم أن يعثروا عليها في المدينة ، وأجودها سعراً هي التي يعرضها بائع النفط ( فاخر ) .
كانت مظاهر النضارة قد رطّبت شقرة ملامحه بنسغها الدافق .
كنت أتساءل كيف هبط عليه وحي الإلهام ! .
ولكنّني ، وبعد تفكير قصير ، رحت أتخيل أن وحي الثراء قد يهبط على أحدهم ، مثلما يهبط وحي الشعر على بعضهم الآخر .
باتت قسمات وجهه تنبئ بالجرأة والاندفاع ، ووجهه يفيض بشراً ، وبتّ على ثقة من أنّ هذا الاندفاع الجاد سيخرجه ظافراً في النهاية .
أذهب إلى السوق في حاجة في بعض الأحيان ، فأخطف قدمي لرؤيته في محلّه ، وكان ذلك يسعده . وفي أحد هذه المرّات وجدته منهمكاً بعمل حصّالة كبيرة الحجم . سألته :
« لمن كل هذه الحصّالة ؟ » .
« لي أنا » .
« ولكنّها كبيرة الحجم ؟ » .
« لأنّني أطمح أن أملؤها بالكثير من النقود » .
« الله يرزقك ويرزقنا معك » .
منذ تلك الأيام أشتدّ هوس ( فاخر ) في ادخار المال ، وقد حزم أمره ، في ثقة طاغية ، على ملء تلك الحصّالة .
في إثر سنوات معدودات من العمل المثابر ، بات لدى ( فاخر ) رأس مال مناسب ، أشبه بنافذة يتطلّع عبرها للإمساك ببعض الأعمال الصغيرة ، المربحة . راح يتحيّن الفرص ، في يقظة ، لكل عمل مؤتمن الربح ، ليقذف نفسه في خضمّه ، كما يقذف المرء نفسه في قلب معترك .
كان ينهض من نومه في غبش الفجر ، مثلما يدب الجراد عندما يغبش الليل . يمضي إلى العمل بخطى طويلة ، ووجه مستبشر مرح . كان انقطاعه عن المدرسة قد أطلق حريّة ساقيه المديدتين ، القافزتين ، فأخذ يثب ويجري بهما على هواه ، وهو ينبض بنسغ الحياة ، وإن فقد بعض وسامة حداثته .
سلك طرقه الخاصّة ، وازداد ثقة بالنفس ، وميلاً إلى الوحدة .
ولذّ له جمع المال ! .
اعتدنا ، في بعض الليالي ، أن نطالع كتبنا المدرسية ، تحت ضوء مصابيح الأعمدة الكهربائية في الشارع ، حيث يكاد الطريق يخلو من المارّة . وذات ليلة لمحت ( فاخر ) بعد انقطاع طويل ، وكان عائداً إلى منزله في وقت متأخر ، على خلاف عادته . ابتسم حالما شاهدني ، وولّى وجهه صوبي . تبادلنا حديثاً عابراً لشيء من الوقت ، وقد سألته ممازحاً :
« هل امتلأت الحصّالة الآن ؟ » .
« امتلأت منذ عهد بعيد » .
« ما الذي فعلته ، هل صنعت حصّالة أخرى ؟ » .
« كلا ، بل صرت أنا حصّالة ، ما أروع أن يتحوّل المرء إلى حصّالة ، سوف يجد نفسه مغموراً بالنقود ! » .
وقبل أن يغادر ، تريّث بعض الشيء ، وسألني :
« لماذا لا تباشر العمل مثلي ، ما الذي تنتظره من هذه الدراسة الملولة ؟ » .
ثم نظر في وجهي ، كما لو كان ثملاً ، رطّب شفتيه بلسانه وقال :
« ألا يهديك الله لتصبح حصّالة مثلي ؟ » .
كانت دعوته تلك مثل دعوة للغرق . هززت رأسي ، كما لو كنت أرفض ، وقلت :
« الله كريم » .
عندما يأتي على ذكر الحصّالة ، كان يلفظ الكلمة بحرقة أحشائه ، وليس بحرارة لسانه .
وفي ذلك المساء ترآى لي ( فاخر ) نجماً مشعشعاً في عرض الطريق ، تمنيت ، إذ وقع بصري عليه ، أن أكون مثله ، ولكنّني ما أن عدّت لأدفن رأسي بين دفتي كتابي حتى نسيت أمره .
بعد سبعة أعوام من تركه الدراسة ، وطّد ( فاخر ) قدميه في عالم الكدح والكفاح . لم يقم طويلاً ، حيث سارع ليترك تلك الأعمال القديمة ، التي بدأ بها رحلة عمله ، وقال عنها أنّها أعمال صغيرة ، وتستنزف راحة الجسد ، ومن يمارسها عليه أن يتسلّح بقوّة بغل . راح يقتحم أعمالاً ومصالح أكثر وفرة في الربح . كنت أصادفه راكضاً على الدوام ، وجهه مترب ، وشعره مشوّش ، بينما السيجارة نابتة بين شفتيه . وكنت أضحك لمظهره ذاك ، وأصيح به ما أن أشاهده :
« والله ستودي بك فكرة الحصّالة إلى الهلاك » .
كان مهرولاً في كل حين ، ولم يفتر حماسه يوماً ؛ وقد جعلني ذلك أشكّ بأن الحياة السعيدة لا يبلغها سوى العدّائين .
֍ ֍ ֍
في هذه السنة انبثقت من صحاري ( البصرة ) و ( الزبير ) مزارع الطماطم والخضار ، وكانت تلك المزارع في أمسّ الحاجة إلى المياه ، فانتعش حفر الآبار الارتوازية في تلك المناطق الوعرة .
كانت تلك الآبار هي المنبع الوحيد للحياة هناك . وكان حفرها مُكلفاً .
خلال وقت قصير ، جمع ( فاخر ) حوله لفيفاً من العمّال ، وذهبوا إلى تلك المزارع النائية لحفر الآبار . انكفأ على نبش الصحراء الهامدة ، كما لو كان جربوعاً ! .
لم يتوان عن شق المسافات البعيدة ، وتكبّد عناء ، ووعورة الأسفار . أمضى فصل الصيف اللاهب في أوار تلك الصحارى الجهنمية ، ولكنّه كسب الكثير .
كان على أهبة من أمره للانخراط في كل عمل متاح ، عاش حياة شائكة ، فلا غرو أن راح يلهث خلف بريق الثروة ، حتى كاد في إحدى المرّات أن ينزلق عن طريقه ويشتغل مطرباً ! .
كان الطريق الذي سلكه شاقّاً ، وعسيراً ، ولكنّه طريق لا رجعة فيه .
بعد موسم طويل ، مضني ، عاد ( فاخر ) بهيئة أدهشتنا جميعاً . كان قد علا به العمر بغتة ، وتلطّخ وجهه بتراب الشمس . بينما تغيّر شعره الجميل ، وتلبّد ، وأضحت خصلاته مثل أوراق الأثل تماماً . وقفت شعرات شاربه ، وغارت عيناه في محجريهما . كان منظره صحراوياً خالصاً ! هل يمكن القول إنّه عاد بملامح بدوية حقيقية ، ووجه مليء بالأسرار ؟ ..
وعلى أيّة حال ، فقد رجع ( فاخر ) إلى منزله قادماً من تلك الأنحاء التي تضطرم فيها الشمس ، وقد عثر على أحلامه بين طيّات الرمال الحارقة .
لم يطل المكوث في منزله طويلاً ، سرعان ما هبّ صوب تلك الفيافي ثانية ، يغمره الأمل في ابتياع ثمار المزارع وخضارها ، وقد راودته أفكار بيعها في أسواق المدن البعيدة عنها .
إثر ذلك بات ذهابه إلى القرى والأرياف عملاً اعتيادياً يقوم به من وقت لوقت . كان متوقّعاً منه إتيان أي عمل مربح مهما يكون ، فلا بأس أن عاد من تلك القرى ، في أحد الأيام ، محمّلاً بالأصواف والجلود ! .
كان جرّافة بشرية بحق .
مثل هذا المرء يكثر حديث الناس عنه ، وكنت أسمع عنه الكثير من غير أن أبالي بما أسمع . ولكنّهم هذه المرّة أشاعوا عنه بأنّه فقد أثناء سفراته الشائكة بعض خصاله الحميدة ، وربما نبعت إشاعتهم تلك جراء ما أخذ يقوم به ( فاخر ) من أعمال وضيعة بين أقرانه التجّار ، عندما تّعقد المزايدات العلنية . كان ( فاخر ) يسارع إلى حضور تلك المزايدات ، بأن يرتدي أفخر ملابسه ، ويحمل حقيبته الدبلوماسية ، ويغطّي وجهه بنظارة عسلية اللون ، ويقف في الصف الأول ، بين المزايدين . عندما تقع عيون التجار عليه ، يحسبون في الحال إنّه اقتحم المزاد من أجل منافستهم ، فيسارعون إلى إرضائه بمقدار من المال ، وإبعاده عن المزاد . فكان ( فاخر ) يعود بربح وفير ، أشبه ما يكون بالرشوة ! .
֍ ֍ ֍
ذات يوم حلّت في إحدى ضواحي المدينة شركة ، قادمة من العاصمة . وقد أنيط بهذه الشركة تنفيذ مشاريع حكومية كبرى . عملت الشركة زهاء شهر في بناء مخيّمها . وما أن هيّئت كوادرها ، ومعداتها ، واستعدّت لمهامها ، حتى انساب إليها ( فاخر ) انسياب ثعابين القصب .
كانت شركة كبيرة لا مراء ، وكانت احتياجاتها لا تُعد . وأوّل خدماته التي وضعها بين يدي مدراء الشركة هو تجهيزها بالأغذية ، والمياه العذبة .
عندما فرغ عمّال الشركة من نصب قوالبهم الخشبية والمعدنية ، اتضح أنّ ( فاخر ) كان هو المقاول الذي شرع يجهز الشركة بالرمل ، والحصى ، والاسمنت ، وكثير من الأمور الأخرى .
لقد تحسّس طريقه عبر الظلام ، وعثر على موطئ قدم راسخ له ، ضارباً صفحاً عن الخوف والتردّد في العمل . أدرك أنّ عليه أن يكون نوتياً مقتحماً ، إذا أراد الوصول ، وكان عازماً بحق على الوصول .
من يومها بات يمتلك عربة فارهة ، يقودها إلى كل مكان ، من أجل ضمان إمداد الشركة بكل ما تحتاج إليه .
خرج من تلك الوحدة التي أحاط بها نفسه ، أمسى يشارك العديد من أرباب العمل والمصالح بصداقات جريئة ، وعلاقات معطّرة .
كانت بعض الأخيلة ، والأفكار السوداء تمازج أذهان أصدقائنا ، حينما يأتون على ذكره ، فيسألني أحدهم قائلاً :
« ما الذي يبذله ( فاخر ) إلى مدراء الشركة من أجل ضمان مصالحه ؟ » .
بينما يقرع بعضهم بابي ليقول :
« هل لك أن تقودني إلى ( فاخر ) ، فأنا أبحث عن عمل لأولادي في هذه الشركة » .
بين يوم وليلة بات على قدر عظيم من الأهمية ، وراح يُعامل بتقدير أكبر ! .
في إثر تعاظم أموره ، سارع ( فاخر ) لامتلاك عرصة واسعة المساحة ، في وسط المدينة ، ابتاعها وجعل له مكتباً فيها ، وغمرها بكل ما يحتاج إليه من الحديد ، والاسمنت ، والخشب ..
وامتلك كذلك عدداً من عجلات العمل .
اختار لمساعدته عدداً ممن كان يخبرهم خبرة فائضة ، وجلّهم من أولئك الذين نكّل بهم الدهر . كانوا يجرون أمامه ، وخلفه ، مثل جراء جائعة ، وهم يتسابقون على تمشية مصالحه ، وأعماله ، بحماس ، وحرص بالغين .
كان جميع من يعمل معه يؤوبون ، حال انتهاء أعمالهم إلى مكتبه ، وكان ( فاخر ) يستهلّ غروب الشمس ،فينفذ إلى مقرّه هذا ، ليتسلّم إيراداته منهم .
أمست النقود تنثل من كنائن الرجال لترقد في كنانته . وكنت تراه في ثوب بسيط تارة ، أو ثياب أنيقة زاهية ، تظهره بمظهر تاجر كبير تارة أخرى .
عندما وضعت الشركة أوزار أعمالها ، بعد ما يقرب من سنتين من العمل ، ورحل كوادرها ، عرضت معسكرها للبيع . كان المعسكر يتضمن الكثير من المواد ، والأجهزة ، ومختلف المعدّات التي غطّت مساحة واسعة من الأرض .
كان ( فاخر ) من بين الذين تنافسوا لشرائها . صرف جميع المتنافسين معه بذات الطريقة التي كانوا يصرفونه بها . وقد نجح في ذلك بالفعل .. نجح في ذلك وكأن تلك المخلّفات محفوظة له على الرفوف ، من قبل أن ينتهي عمل الشركة ! .
ابتاع تلك المخلّفات بأسعار زهيدة ، ولكنّه عندما عرضها للبيع ، توافد عليه التجّار من كل مدينة ومكان . فيما بعد سرت إشاعة بين الناس ، إنّ تلك المخلّفات هي التي رفعت ( فاخر ) إلى مصاف الأثرياء ، وجعلته يتمرّغ في غضارة العيش .
كانت سيرته تكاد تخنق مجالس السمر ، بينما أمطرته تلك المبالغات بوابلها إلى حدّ جعلته يظهر في مقام بعيد عن الحقيقة .
على هذه الوتيرة ذاع صيته ، ودوّت شهرته . كان منظره جميلاً وهو يلوح ثريّاً منحدراً من أسرة فقيرة ، وفي مجتمع فقير . مضى به القطار قدماً نحو القمة ، وقد غمر السماء بدخانه وهديره .
لم يكن أحد يتوقّع منه أن يصنع المآثر ، مأثرة بعد أخرى ، ويتحرّر من روتين الحياة التي كنّا نحياها .
وصل الرجل حقّاً ، كما أراد . أصبح حصّالة حقيقية ، متخمة ، ويتأرج منها عطر السعادة . باتت المصالح والأعمال تقبل عليه بأقدامها من غير أن يكلّف نفسه عناء البحث عنها .
وكان ( فاخر ) في هذه الآونة قد تزوّج زواجاً لائقاً بثروته .
بعد أن خطب إحدى موظّفات الحكومة . رأيته ثريّاً بحق ، حين اقترن بهذه الفتاة ، فالتاجر لا يرتبط إلّا بفتاة موظفة ، جميلة ، وغاية في الشرف أيضاً . هؤلاء يريدون الزوجة أشبه برغيف الخبز : حار ، وناضج ، وزهيد الثمن ! .
ولم تني ماكنة التفريخ أن دارت رحاها ، على وقع رنين الدراهم .
استرسل يقطع زمناً لؤلؤياً ، تسطع فوقه أضواء حالمة الظلال .
֍ ֍ ֍
امتدّ العمر بنا ، كبرنا ، وتزوجنا ، وأنجبنا ، واسترحنا بعد تعب الحياة الطويل . إلّا صديقنا ( فاخر ) ، الذي ظلّ يجري لاهثاً ، ولم يستكن ، و وعثاء الدروب تغطي ملامحه . ليس ثمّة توقّف ولا استراحة في حياته ، فالمصالح الكبيرة تتناسل ، ويرث بعضها البعض . إنّ التوقف عنها أشبه بتوقف نبض الحياة !
وكان ( فاخر ) شأنه شأن غيره من رجال الأعمال ، عرضة للفشل والنجاح في مشاريعه ، وهذا ما أضفى على حياته مسحة من القلق ، والسهوم ، والترقّب .
تحوّل سريعاً إلى رجل عابس الطبع ، عميق التفكير والتجهّم ، ولم يعد كلامه مشفوعاً بالابتسام الحلو . إنّ المصالح الشائكة ، ومشاكل العمل المتواصلة تسلب الفكر ، وحينما كنت استوقفه ، ونحن نتجاذب أطراف الكلام ، كنت أجد أنّ صوته الحلو قد تفتّت كالرماد .
كنت في حقيقتي أرثي لهذا الرجل ، الذي لم يعرف الصفاء ، ويذق طعم الطمأنينة ، والسكينة في حياته . وما لبثت أتساءل هل أنّ قدره هذا حسناً جداً أم تعيساً ؟ . إنّ كل هذه الهالة من حوله ، وكل تلك الأبهة لم تضفِ على شخصه سوى الكدر ، والتعب الرهيب .
ما أكثر ما سألني أحد الأصدقاء قائلاً :
« قل لي متى يؤوب هذا إلى بيته ، وهل يتبقى له فضلة وقت ليجالس عياله ، وهل يقوى أن ينام قرير العين ؟ » .
كان يعيش كما يعيش الجنود المحاربين ، الذين يطول كفاحهم ويطول .
أخذت صحّته تتضعضع ، وجسده يتداعى ، وقد غزاه الشيب باكراً . وعلى الرغم من العناء والتعب ، لم يتوقّف برهة من الزمن ليلتقط أنفاسه . كان من حوله عدد من الذين يعملون برفقته ، إلّا أنّه لم يدع لهم أيّة فرصة لإدارة أعماله على انفراد ، كان يتابع كل شيء ، ويتحقّق من كل شيء بنفسه ، فالثقة لا تستقيم حينما يتعلّق الأمر بالأموال .
لاح لي في أيامه الأخيرة يجرّ جسده بخطوات محجّلة ، تشبه خطوات الغراب ، وهو يعاني من مشاكل في عموده الفقري . عندما كان يجلس على كرسي ، لا يرغب في انتزاع جسده منه ، لهول التعب ، ولكنّه ينهض في النهاية ، على الرغم من ذلك ، وهو يردّد قائلاً :
« ثمّة أعمال علي إنهائها قبل المساء » .
وفي ليلته الأخيرة ، عاد إلى منزله في وقت مبكّر جداً ، وهو يشكو من ألم في الصدر . وقبل أن ينقلونه إلى المستشفى قضى نحبه ، في غاية الهدوء والصمت .
كانت زوجته قد سألته إبّان منازعته للموت :
« أين مفاتيحك ؟ » .
وبتجريده من المفاتيح التي كانت أغلى ما يملك ، والتي كانت لا تفارقه أبداً ، والتي كانت مفاتيح الحياة ، لفظ آخر أنفاسه .
بالتأكيد كانت لأنفاسه تلك رائحة الأوراق النقدية .
في موكب جنائزي رهيب حملوا الحصّالة فوق الأكتاف ، بعد أن أفرغوها من جميع ما ادخرته طوال حياتها ، ودفنوها خشباً يابساً ، فاضية من أي شيء ، ما خلا رائحة النقود التي تشبّع بها ذلك الخشب . وقلت له في سرّي اذهبْ واسترح أيّها الرجل ، ، لقد شقيت وتعبت أكثر من كل الرجال .
كان مجاهداً ومثابراً لا نظير له ، سعى منذ طفولته ليجمع كل هذه الثروة ، التي لم يتمتّع بها في حياته . جمعها وصانها بمنتهى الأمانة ، ليقدّمها هدية جاهزة إلى ورثة من الشبّان والنساء ، ممن كانوا يوصفون بالنائمين إلى الظهر .
قدّمها لهم بكل شرف من دون أن يُنقص منها فلساً واحداً ! .
֍ ֍ ֍
بعد أن واروه الثرى ، أقاموا له مجلس عزاء ، وكنت من أوائل من ذهبوا لمواساة أبنائه . وأردت أن أجلس هناك لوقت طويل . ولكنّني ما أن مكثت قليلاً ، حتى أخذت الأفكار تزعزع مجلسي ، وانتابني ضيق وانقباض شديد دفعا بي إلى المغادرة ، وذلك عندما خطر في بالي السؤال الذي وخزني به ( فاخر ) ذات ليلة ، وقد قال لي :
« ألا يهديك الله لتصبح حصّالة مثلي ؟ » .