ياسوناري كاواباتا : اللغة والأسلوب .

ياسوناري كاواباتا : اللغة والأسلوب .

محمود يعقوب

 

   كان ياسوناري مخلصاً جداً لأدبه ، ومتمسّكاً بيابانيته ، ولا أدلّ على مثل هذا القول ما ذكره يوكيو ميشيما ، حينما قال :

” كانت آخر جملة في كلمة العزاء ، التي ألقاها السيد كاواباتا في تأبين الأديب الراحل

( يوكوميتسو ريتشي ) ، الذي وافته المنية عام ۱٩٤۷م : ” صديقي يوكو مياسو ، سأعيش بعدك جاعلاً من جبال اليابان وأنهارها روحاً لي ” . وقد نقّذ كواباتا تلك الجملة بعد ذلك بإخلاص تام ”  .

                                                                     ◘ ◘ ◘

 لغته وأسلوبه :

استخدم أسلوب بسيط في المفردات والنحو ، ولكنه معقّد في المعنى والدلالة . لغته حسّاسة ، أثناء فهم كل كلمة منه قد يشعر القارئ بشيء لا يمكن وصفه تحت السطح الواضح .

” كان السبب وراء إصرار كواباتا على اللغة البسيطة هو اعتقاده أن الوصف اللفظي ، بغض النظر عن مدى تفصيله ، لن يكون قادراً على تصوير الجمال الطبيعي في أبهى صورة . كانت الكلمات دائماً ناقصة بالنسبة لكاتب يسعى للتعبير عن ما لا يمكن وصفه .

الوصف من شأنه أن يتعدى على خيال القارئ ، وكواباتا لم يعجبه ذلك . نظراً لأنه رأى الجمال على أنه شخصي ، فإنه يفضل دعوة القارئ للتخيل .. وبينما يسعى كل كاتب لخلق بيئة ملائمة لرواياته ، يحاول كواباتا كذلك أن يكون حريصاً على إعداد كون فريد خاص به . في عوالمه تأتي بعض الكلمات الأكثر شيوعاً لها معاني خاصة ، على الرغم من أنها قد تختلف نوعا ً ما من قارئ إلى آخر . يظهر التوتر بين عمومية الكلمة وخصوصيات السياق ، ويصبح هذا التوتر مصدراً لتحفيز خيال القارئ ”  .

إن هذا النمط من الكتابة يلجأ إلى الترميز غالباً ، فيصبح الأسلوب الرمزي مهماً في توصيل الصور إلى أذهان القرّاء ، من غير أن يحد من دلالات المعنى المقصود .

غالباً ما يميل فن كواباتا إلى الرمز . يلجأ إلى استخدام مفردات بسيطة ، وإلقاء سهل . وأسلوبه في النثر كان واضحاً بشكل مخادع ، من خلال الجمع بين البساطة اللغوية والغموض الأدبي . لقد وضع ياسوناري يده على موضع خاص من النثر الأدبي الياباني لم يقترب منه كاتب آخر .

   عند التمعن في كتاباته الجميلة ، يشعر القارئ بالحب النقي ، غير الأناني ، الذي يبذله الفنّان ، والجمال الممزوج بالصدق والحزن . علاوة على ذلك ، غالباً ما يُلاحظ الجمالية الرمزية في كواباتا بتركيزها على الروحانية ، والثقافة ، مثل أعمال أشهر كتّاب الحداثة في العالم : ت . س . اليوت ، جوزيف كونراد ، ييتس ..

يستخدم كواباتا العلامات الجمالية كمفاتيح لفنه .

   ” من السمات الفريدة لليابان ، ما يشير إليه ستيف أودين على إنه أولوية تجربة القيمة الجمالية أو الحدس الفني              ( البديهية ) ، باعتباره السمة المميزة للثقافة اليابانية . تتغلغل أولوية الجماليات هذه حتى في أكثر ظروف الحياة اعتدالاً في اليابان . لدرجة أن مشتريات المتاجر العادية تكون مغلّفة باهتمام شاق ، لعرضها الجمالي النهائي . أو يتم تحضير الطعام ، وتقديمه ، مع التركيز على جاذبيته الجمالية ، حتى الركوع والجلوس .

تبدو جميع الأشياء والأمور لها مكونات جمالية واجتماعية . إن هيمنة الجماليات في ثقافة مليئة بالأسرار الروحية التقليدية للشنتو والبوذية ، تعني أن هناك طبقات معقّدة تحدث في التعبير الفني الياباني ، مثل دمج الجماليات ، والدين ، والثقافة ، ومن ثم يجب أن ينظر إلى روايات كواباتا على أنها تعبير عما يعني أن تكون يابانياً : الذات التي تعيش مع الطبيعة ، والثقافة ، والروحانية ، من خلال التطبيق المنضبط لعلم الجمال ”  .

   يكتب كواباتا بأسلوب شخصي للغاية ، وتحقّق أعماله كمالاً نادراً في التعبير عن الإحساس الجمالي النقي .

ويصوّر شخصياته بعلم نفس حقيقي ، ويتتبعهم حتى أعماق انحرافاتهم ؛ مع ملاحظة أن كواباتا أعرب عن إعجابه بدور التحليل النفسي في الرواية الحديثة ، إلّا أن إبداعه الأدبي لا يعبّر بوضوح عن الأدب النفساني ، ولا يمكن مساواة رواياته بروايات التحليل النفسي الشائعة .

   في قصصه نجد بحثاً جمالياً ، يجمع بين النقاء والشهوانية ، والبحث عن أهم تعبير أساسي عن الأحاسيس . لمسته بارعة حينما يرسم صوراً عن مواضيع غريبة ، وحسّاسة ، عن الوحدة ، والكآبة ، والموت ، والجمال ؛ إنه يلتقط تلك اللحظات العابرة من الحياة ، عندما يتغير كل شيء .

   الغموض سمة من سمات كتاباته ، كما هو الحال في العديد من الروايات اليابانية ، يجتمع الواقعي وغير الواقعي معاً . تتناوب وفرة الصور مع الفراغات والصمت .

    يمكن للمرء أن يتتبع أصول كواباتا الحسّي ـ الذي يوصف من قبل البعض بأنه غنائي أو شعري ـ  إلى أقدم شعر في اليابان . يمكن التعرّف على الأسلوب بشكل أكبر مع أسلوب شاعر الهايكو ، وكاتب مذكرات السفر ماتسوو باشو (۱٦٤٤ ـ ۱٦٩٤ ) . وعلى المستوى العالمي ، يتوافق الأسلوب مع ذلك الموجود في الرواية الغنائية الغربية . يمكن النظر إلى التفكير ، والرمزية البوذية ، والشنتوية ، على أنها زودت كواباتا بمواد موضوعية  ، ورمزية من أجل عمله . إحدى الروابط المهمة ، بشكل خاص ، مع الشنتوية هو استخدامه للمياه ، لترمز إلى التنقية  .

    الإلهام الشعري والحسّي أهم ما يميز كتاباته ، مهووس بالبحث عن الجمال الهادئ ،

يسعى إلى التقاط الانطباع النقي . وعمله مكرّس للتعبير عن الشعور العابر ، الذي يشعر به في رؤيته لمنظر طبيعي ، أو وجه ، أو جلد امرأة ، أو رحلة فراشة ؛ واستعادة هذا الغير محسوس ، الذي لا يدوم سوى بضع لحظات فقط . هذا الواقع المفرط الذي يجعل الانفعالات ، التي لا توصف للمشاعر أكثر وضوحاً . هذه الانطباعات العابرة ، والتي تشكّل الفروق الدقيقة للروح البشرية .وهكذا يمكن قراءة روايات ياسوناري على أنها لوحات تصويرية متناقضة ، ومحسّنة ، تنقل القارئ إلى عالم غني ، وغامض ، ومتعدّد الحواس . وهو يتعامل بمهارة مع الكتابة الشعرية ، الشبيه بالحلم ، ويقدم لنا روايات تأملية رائعة ، تسيطر سريعاً على عواطفنا ، بدقة ، وتواضع ، وحميمية شخصياته ، ونقائهم ، وحنان مشاعرهم وعلاقاتهم .

   غالباً ما يعزّز كواباتا انطباعاته الحسّية من خلال ملاحظاته عن الطبيعة المحيطة ،

” زاد حشد الفراشات البيضاء باستمرار ، وصنع مثل حقل من الزهور البيضاء ” .

” لدى كواباتا أسلوب مميز ، تلميحي ، متأثر بالهايكو الياباني الكلاسيكي ، ويعكس اقتصاده في اللغة ، وهي الميزة المشتركة مع هذا الهايكو . غالباً ما  يميل إلى الجمل القصيرة ، وعباراته السردية مقسّمة إلى فقرات قصيرة ، تحتوي الفقرة ، عادة ، على جملة واحدة ، أو جملتين ، أو ثلاثة .

ولديه أيضاً بعض الجمل الطويلة ، التي يلجأ إليها أحياناً ، بحسب مقتضى الحال .

وكان كواباتا متأثراً جداً بـ ( الرينجا ) اليابانية ، وهي شكل قديم من الشعر كان شائعاً في اليابان ، وكان جزءاً من المعرفة الثقافية المطلوبة للمجتمع الراقي .

وفي أسلوبه يعكس تيار الوعي ، ويستخدم بشكل مميز أسلوب ( البؤرة  ) في التقاط لمحاته  التصويرية . أسلوب كواباتا ناعم ، متقطع ، وغير مألوف ، وعادة ما يتجنّب النقد الشديد تجاه المواضيع المزعجة “.

   لم يربط كواباتا نفسه بالأدب الغربي ـ الذي تأثر به بشدة ولا شك ـ ولكنه يربط نفسه وأدبه بجماليات الأدب الياباني وثقافته العريقة ، وقيمه الروحية الشنتوية ، والبوذية ، ويخضع ، من غير مقاومة لحب الطبيعة الساحرة في جزر اليابان ، التي راحت تزين صفحات كتبه . يقول أحد الباحثين في الأدب :  ” أعتقد أن روايات كواباتا هي من أروع القصائد الغنائية في القرن العشرين ” .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *