لو أن أمي على قيد الحياة .

لو أن أمي على قيد الحياة .

قصة قصيرة

محمود يعقوب

           لشدّ ما يزعجني ويستفز أحاسيسي  ، مرأى هدم البيوت القديمة . إن أشلاءها المتهرئة ، الرطبة ، وروائحها الكامدة والمستثارة ، تملأ جسدي سخونة ، حالما أتشمّمها ، وتجعلني اضطرب . وعدا ذلك ، فأنا لا أعرف أي سبب آخر يدفعني إلى الإجفال من مناظرها !..        لا أنا ولا (عبد السادة ) طعنّا في العمر إلى حد العجز . كلا ، إنما هي الأيام .. أيامنا القميئة التي طعنت ، أيامنا المكرورة الخاوية .. المملّة التافهة , أيام ليست كأيام الله . السبت فيها كالثلاثاء .. والثلاثاء كالخميس ، لا فرق بينها أبداً !.. الشهور نفسها ، والفصول نفسها أيضا ، وإن تنوعت أسماؤها واختلفت ..  لمֿ كل هذه الأسماء ؟.. لا أدري . أيامٌ لا تُحسد ، خالية من الزينة والتباهي ، أيام من زبالة التاريخ ، فُصّلت للإهدار وحسب . وان أوحت بشيء إنما توحي بأن الأرض واقفة لا تدور !..
استغرق (عبد السادة ) ستة أسابيع كاملة يتقلب في فراش المرض ، قبل أن يتماثل للشفاء . كنت أسمع الآخرين يدّعون انه شُفي على عيب ، ولا اعرف بالضبط أي عيب من العيوب ظلّ عالقاً في جسده المنهوك . وان كنت اعرف جيداً ان رقاده استهلك كلّ ما ادخرته عائلته من المال . وحالما وقف على قدميه ، من دون معونة أحد ، وبدأ يتعافى ، عاد يأكل بنهم ، ويتجشأ بصوت مسموع ، كما كان يفعل من قبل .
في نهاية المطاف ، وجد نفسه مجبراً على التوقف عن العمل ، وإخلاء سبيل الكدّ والكفاح لأولاده .
   لم تكن مهنة (عبد السادة ) سهلة كما يتبادر للعيان ، أو يتوهم الكثير ممن كانوا يعرفونه . واظب على العمل في خربة رحبة ، كانت مهجورة من قبل . يشتري ما يجهد الأطفال أنفسهم بجمعه من علب البلاستك ومخلفاته المتنوعة .. ما انفكّوا يجمعونها له من المزابل وأكوام القمامة . وفي الخربة كانوا ينفقون ساعات طويلة في تنظيف هذه الأشياء  وغسلها ، وتصنيفها بعناية وفق أنواعها التي لا تُحصى ، وبعد ذلك تعبأ بأكياس كبيرة قبل نقلها إلى المعامل . . كانوا يرهقون أنفسهم طيلة النهار.. في كل الأيام .. يعملون وكأنهم خُلِقوا للعمل وحسب !..
(عبد السادة ) أكبرنا سناً ، وأكثرنا مرحاً ومشاكسةً . تدلّه في عشق طالبات المدارس  مثلما تدلّه بالسجائرالمهرّبة من الكويت ، واقتناء الجوارب الزرقاء .   
                                                                                                                                                                       وليس بوسع أحد  أن  يصدّ لسانه الوذر ، و الصمود أمام السيل الجارف لكلماته النابية . لم يمنعه أوار العوز ومشاغل الحياة من التفتيش عن متع الدنيا .وفي واقع الأمر فإنه تخطّى الجميع إلى تلك المتع . إلى الحد الذي جعل البعض يسأله : (كيف يتسنى لك رؤية كل هذا الجمال بعينك الحولاء ؟.. ) .
كنا نؤثر الجلوس معه ، نتشاكس ، نتشاجر ، نتخمه بالكلام الفارغ والكاذب أحيانا ، ثم ما نلبث أن نفترق على صوت الشتائم والسباب والضحك الفاضح ، الماجن .
بعد مرضه واحتجابه ، لم نعد نجتمع عنده ، لم نعد نراه إلا نادراً . وفي غفلة أمسينا نلقاه شيخا ً هرماً !..

انفرطت تلك الصحبة التي لا تنسى ، ولم تعد تضمّنا إلى صدرها الرفيق .

باكراً هرم (عبد السادة ) ، وباكراً هرمنا في أثره ..
أحيانا يقصد السوق ، عند العصر . أصادفه يحمل أشياءَ صغيرةً .عجوزاً واهناً يشبه النعاس ، يجرجر نفسه بثوب نظيف ، وسترته العنابيّة تجثم فوق منكبيه من غير أن يُقحم ذراعيه في ردنيها . يكدّ في السير ، مقارباً خطواته ، ماشياً كالبط .. أو مثل أحد يخوض في الطين . عيناه لائذتان تحت جفنيه المنتفخين . كان يسمرهما في الأرض ، متفحصاً طريقه بتروٍ . لا يرفع رأسه إلى الدنيا .. إنها لا تعنيه !.. شبحا ً من حكاية خرافية  قديمة ، مات في الفصل الثاني منها ، وقــُذِفَ على قارعة الطريق ، يذهب ويؤوب كالغريب .. أحييه ، فيرفع رأسه بتثاقل ، تفاجئني عيونه الجامدة الخرساء ، عيون سمكة ميتة .. سمكة حولاء ، وألوان وجهه المكفهرة ، وشفته السفلى المتهدّلة ، يردّ التحية بذبول .. بصوت بارد .. تحتضر فيه الحياة !..
في إطار هذه الصورة الواهنة .. صورة البيت العتيق المـُهَدَم ، كنت أستيقظ من كابوس لأسقط في كابوس آخر!..                                                                                                                                                                                                                                                                                                                  أتنحى جانباً أراقبه عبر الطريق ، أتابعه حتى يغيب عن بصري .. على طول الطريق كان ميتاً !.. على طول الطريق الذي تتبعثر فوقه خطاه  ، كان أشلاءً تتبعثر !..لا الأرض تسمع نبض خطاه ولا أحد  يزجي الأنظار إليه .
أظلّ منتحياً جانباً .. محاولاً العثور على أجوبة مقنعة ، لأسئلة تتفجر في داخلي .. أسئلة من مثل (هل يموت الإنسان هكذا ، بمجرد تخطيه عتبة الشباب ؟ وهل سأمسي أنا نسخته الثانية  البائسة غداً ؟ ..).
أنا على يقين  بأن ثمة حياة في جسده ، مثلما هناك حياة في جسدي أيضا ، لكنما الوجوم الذي لوّث روحه وأيامه كان أكبر من تلك الحياة .
كثيراً ما كانت تلك الصورة تخالط تفكيري ، وكنت لا أألو جهداً في الهروب منها حين أنغمس في الحياة ، غير مستمعٍ لصفير قطار الأيام وهو ينحدر صوب المحطات التالية .
تداولت أمره باستفاضة ، مع صديقٍ أمضى في عشرته زمناً . طرحنا أفكارا محددةً . ربما كانت أفكاري وأفكار صديقي بسيطةً ، لا تتناسب والحال الذي آل إليه (عبد السادة ) ، غير أننا تحمسنا كثيراً إليها
 .

عصر اليوم التالي ، أحضر صديقي سيارته . وعلى قارعة الطريق كنا ننتظر مَقدم (عبدالسادة ) . حين لمحناه سارعنا إلى استيقافه ، وأمطرناه بالأشواق .. بلـّلنا ملابسه بالحنان . كان اليوم صافياً ودافئاً وكنا مشرقين ، كانت صفحة السماء منشرحة  ، كنّا نسمع أصوات تنفسها الزرقاء ؛ كانت تومئ إلينا .. تنادينا  !.. عرضنا عليه أن نـُقلّه إلى السوق ، رحـّب بالفكرة ، وقال مازحا ً :

– لا أردّ عرضكم أيها البخلاء ..

    قادنا صديقي بعيداً عن السوق .. نحو الطريق الرئيس مباشرةً ،  تناءَينا عن المدينة . لقد عزمنا على أمرٍ ، لم نفضِ به إليه ، لأنه سيجد ذلك مجرد نزقٍ في وقت غير مناسب تماماً . ابتعدنا قليلاً لنجده يسألنا   ، وهو يستطلع الدرب في شيء من الغموض :                                                                       

   – إلى أين ؟  .                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                          أجابه صديقي لفوره :                                                                                                                                                                                                               ـ سنذهب بك إلى نفايات البلاستك  . .                                                                                                                                                  هنا طفرت من بين شفتيه ضحكة صغيرة ، أحسست أنها تنبض في روحه القديمة تلك .
أفضيت له بالأمر . أخبرته عن نيتنا في خطف أنفسنا بعض الوقت إلى ضاحية المدينة ، للترويح عن كاهلنا . وكان الرجل يجلس هادئاً مستسلما .. وربما كان حائرا ً بين الربيع والخريف .

      عند الأصيل ، تشبّ ضاحية المدينة جمالاً بطلـّها ونداها .. بنهرها الواسع وشاطئيه المشجّرين .. وهوائِها الطلق وجسرها الحالم .. 

    عند الأصيل ، تتفرّغ الضاحية إلى الجمال وحده .. تتزين مثل بنات العشق ، تحل شعرها لأنامل النسيم  ، وتغل عينيها بالكحل الأثمد  ، وتبسط رموشها كالحلم المرتعش فوق وسادة نهر الغرّاف ..                                                                                                                                                                                                              وحال وصولنا إليها ، ركتّا سيارتنا جانباً ، وصعدنا الجسر الذي لم يكن سوى ناظم من نواظم الإرواء . فوقه وقفنا نتأمل فورات المياه المندفقة من فتحاته الهادرة ، ودافعةً الهواء الممزوج بالرذاذ عالياً . راح ينفح وجوهنا منعشاً ولذيذاً  . استرخى (عبد السادة)على سياج الناظم ، وجعل يعب أنفاسا عميقةً ، مالئاً صدرهُ بالهواء ، كما لو أنه لم يتنفس مثله ، الأمر الذي دفعنا إلى ملاطفته .. ابتسم (عبد السادة )ابتسامةً حريرية .. من الحرير العنّابي الذائب..   

    عبرنا إلى الصوب الآخر. وعلى طول الشاطئ تمشينا على العشب الطري . وبين آن وآخر كنا ندرج إلى الجرف نلاعب الماء كالصغار . كانت النسائم المتكسرة تملأ صدورنا بالحبورِ وأريج العشب البرّي يوقظ أشياءً كانت نائمة ً في الأعماق من زمان  قديم  .                         افترشنا الحشيش مستريحين. وما لبثت حتى جلب انتباهي برعم وردة بيضاء يوشك على التفتحِ . قطفتهُ بساقه المملوء ، وزرعته في جيب سترة (عبد السادة)الصغير ..زرعته على صدرهِ ، فأشرق وجهه يومض بالبِشرِ .
عدنا أدراجنا وقد استنفدنا تبغنا .وفي ركن من الجسر ، جلس صبي يبيع التبوغ . سارع إليه (عبد السادة) موسعاً خطاه ، مترعاً بالحياة ، واشترى علبة سجائر . فتحها بشكلٍ مختلف ، وعرضها علينا بسخاء . كنا نعرف انه بات لا يقرب السجائر ، لكنه فعل ذلك اعترافاً منه بالجميل كما يبدو. تناول هو الآخر سيجارة وأخذ يدخنها . كان يدخن بشكل مضحك ، يشفط الدخان بطرف شفتيه ، وينفثه على دفقات كما يفعل الأطفال الذين يجربون التدخين لأول مرة ، بادره صديقي ممازحاً :
–  اليوم بدأت تدخن يا(عبد السادة) ، والله وحده يعلم ماذا ستفعل غداً.                                                                                                     أطلق (عبد السادة)  ضحكة ً صاخبة ً متحشرجة ً ، وغمرنا الجذل .
عند عودتنا ، وقفنا على الجسر ثانيةً ، نتطلع في أرجوان الشمس النازلة بفخامةٍ وجلال . في هذا الغروب كنا منقعين بتلك النداوة الفواحة بأريج العشب ورائحة الماء . وأمام قرص الشمس كان وجه (عبد السادة ) متورداً .

كان الهواء جياداً نافرة ً تثب عاليا ً من أسفل الناظم  .. تثب وهي تطلق  برذاذ الماء موشوشا ً .. رذاذ خمر سماوي  يشافي كل علـّة  وعليل .. يُعيد الروحَ المنتزعة إلى الجسد ، وكان ( عبد السادة ) نشوانا ً بلذـّتها  ، ونشوانا ً بذلك الغسق  المرقــّش بالجمال الوقور .. الجمال المُشع من طيات النهر ، من الأرض المفروشة بالحشيش ، ومن أعماق السماء التي تتماوج ألوانها مع طفول الشمس  ..

دنوت منه ، وكان ساهما ً يتأمل الماء من فوق الجسر ، بدت سيماء الراحة  واضحة على تقاسيم وجهه ، قلت له مشجعا ً :

– إن المكان جميل  يستحق الزيارة في المرّات القادمة ..

ردّ عليّ بابتسامة ، وتأكيد  بهزة من رأسه . كان الألق في عينيه ، وحرارة الحياة في جسده .

قلت له :

  • أنك تبدو منشرحا ً ومرتاحا ً لهذا المكان الجميل ..

  • إلى حد ما .. أجاب وهو يهز رأسه أيضا ً .                                                                                                                                         فقلت له معترضا ً على الفور :

  • ولماذا تقول إلى حد ما ؟..                                                                                                                                                              قال وهو يضع يده على كتفي :

  • إنها رفقتكم  .. رفقتكم الجميلة ، التي تبرأ الجروح وتعيد الشباب ، وليس المكان وحده .. ثم عاد وألقى وجهه فوق الماء الجاري  متأملا ً ، وقال :

  • كنت آتي إلى هنا عادة ً في طفولتي ، بصحبة والدتي التي اعتادت زيارة مرقد أحد الأولياء الصالحين القريبين من هنا ، كنت أقف معها فوق الجسر برهة ً من الوقت ، نستمتع لحظات في أحضان هذا المشهد الحالم .. كانت والدتي تضغط كفي بحنان ، في آخر المطاف ، وهي تقول :

  • كفى متعة .. أسرع إن الوقت يأخذنا ..

ثم تناول كفي وضغطها باللمسة  الحنون نفسها ،  وهو يقول :

  • كفى متعة .. أسرع إن الوقت يأخذنا ..

حينئذ غمرتنا الضحكة ، وقلت :

  • هيا نعود ..

وأثناء مشينا صوب السيّارة ، كان يتلفت نحو الجسر ، كمن افتقد شيئا ً ..

  • ما بالك ؟..

قلت له ذلك وأنا ألتفت مثله أيضا  .

فأجابني بهمسة لم أسمع رجلا ً هرما ً نطق مثلها من قبل ، همسة مغموسة برائحة الذكرى والحسرة .. برائحة البيت القديم  ، عندما تمايل لسانه  خجلا ً وهو يقول :                                                                                                                                                                        ـ ( لو أن أمي على قيد الحياة ) .                                                                                

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *