تاريخ منقوع بالخل
قصة قصيرة ـ
محمود يعقوب
على الرغم من أنه شبّ في أحضان الحكومة ، التي زوّدته بأنياب طويلة ومخالب حادة متوخية همته في المطاردة والقنص ، لكن وريداً كان يصعد بالدم إلى قلبه وشرياناً ينزل به قيّدا أحشائه ، وأفسدا عليه شهوة الافتراس ، ليبقى ( نجيب ) شرطياً عشبياً ، مسالماً طوال سنوات عمله ..
سلك في الشرطة ما يربو على الثلاثين عاماً ، أمـّياً لا يفك حرفاً سومرياً كان أم عربياً ، شرطياً من الطراز العتيق ، بكل ما تحمله روح الشرطة الحقّة من نخوة وتفان .
كان واحداً من أحد عشر شرطياً تم انتدابهم لحماية ما تبقى من أطلال مدينة ( لارسا ) التاريخية من غزوات لصوص الآثار وسماسرتها !..
لم تمض ِ مدة زمنية طويلة على اصطفاء ( نجيب ) لهذا الواجب الخطير ، حتى أدرك تماماً بأن زمرته ، التي تشاركه حراسة ذلك الموضع ، مبدعة في غلي أباريق الشاي وسرد حكايات السعالي والجان في حلكة ليالي المكان المقفر النائي والمخيف . ومع توالي الأيام بات كل منهم يعي بأنهم أحد عشر مسامِراً ، متفننون في صقل الخرافات وجلوها . كان كل واحد فيهم يشكو من شخير صاحبه ؛ وكان اليأس يغمرهم ، وهم يرون اللصوص يسرقون الآثار من تحت أقدامهم من دون أن يتمكّنوا من من ردعهم ، حتى إذا ما غرقوا في سيل اليأس ، انقسموا إلى مجموعتين تتناوب المبيت بين الأطلال وبين بيوتهم !.. لا أدعي أنهم تنصّلوا من شرف واجبهم ، لكنما جدوى عملهم لم يعد ذا نفع ؛ فالكثير ممن قبضوا عليهم ، آنفاً ، من السرّاق كانوا يدخلون السجن صباحاً ، ليخرجوا منه عصراً . حتى تفشّى فيض من الشائعات الظالمة على أن الشرطة شركاء اللصوص أنفسهم .
***
مرّة ً أخرى ، سقط في سمع ( نجيب ) طرق خافت على الباب ، في جوف ليل أسدل ستائره الداكنة الموشاة بالهمس والحفيف ، فهبّ من فراشه ليقف خلف الباب الموصد ، وهو يتساءل بشيء من التردد :
– من ْ هناك ؟..
– صديق . . صديق .
سقط الحذر من بين يديه حالما سمع هذه الكلمة ، التي كانت مفتاحاً لكل الأبواب .
أدار أكرة الباب على مهل ، واستطلع زائره في لحظة من لحظات التوجس . لحظة لا يمكن أن تنسى ، وأية لحظة ملكوتية كانت تلك اللحظة !.. أي زائر طواه جنح الليل وحطّ به عند بابه !..
تسمـّر ( نجيب ) إزاء هذا البهاء والوقار السماوي العجيب ، الذي يطل من فرجة الباب ، وينثر على جفونه دهشة ، ويلفّه بصمت مربك . اضطربت جفونه ورفرفت مثل فراشات يفززها اختلاج الهواء ، وهو يتملى الصورة المنوّرة عند باب بيته ، وفيض من الأسئلة يتنامى في داخله ويموت ، ثم لا يلبث أن يتنامى مرّة أخرى ..
كان الزائر رجلاً ممشوقاً ، وقف بوقار مهيب ، وهو يحمل تاجه الذهبي بين يديه ، يتفرس في وجه الشرطي عميقاً بعينين نسريتين متوهجتين .
طبع على شفتيه ابتسامة ودودة ثم هتف :
ـ مرحباً سيدي ..
ـ أهلاً وسهلاً ..
بهت ( نجيب ) وهو يردّ عليه .
كان الرجل يرتدي جلباباً ذا رونق بهي ، ولحيته مسرّحة بشكل عجيب وعناية بالغة . يلف شعره حول رأسه ثم يطويه إلى الخلف بتسريحة جذّابة جميلة .
وقف ( نجيب ) مأخوذاً ، وقد جف ريقه وكأن صخرة تلجم حلقه . وما لبث الرجل أن انبرى يعرفه بنفسه :
ـ أنا ملك ( لارسا ) وسيدها المقدس ..
توسّعت حدقتا عيني ( نجيب ) ، وتقطــّب جبينه ، ورفع رأسه وخفضه بضع مرّات .
ـ إرتد ِ ملابسك أيها السيد وتعال معي ، فالأمر جد خطير ..
قال ذلك من دون أن يترك له فسحة من التفكير ؛ بل غلب ( نجيب ) شعور بأنه يتلقّى أوامر حكومية طارئة .
ولج منزله مسرعاً ، ثم عاد إليه مرتدياً ثياب الشرطة . ما إن رآه الملك في هذا الزي حتى أشرقت ابتسامة حقيقية على وجهه .
وجد ( نجيب ) نفسه ، في أول الليل ، منقاداً في هذا الموكب الملكي الجليل . كانت هنالك عربة غريبة الشكل .. عربة فخمة في غاية الأبهة والجمال .
طلب منه الملك أن يصعد إليها ويجلس إلى جواره . وكما قبل آلاف السنوات ، كانت العربة مجللة بالذهب والفضة ، واكتست مقاعدها بالمخمل الزعفراني ، بينما انتصب خلفهما حارسان مدجّجان بالأسلحة .
سرعان ما داهمت ( نجيب ) الهواجس وشتى الفكر ، وظلّت أصابع يديه يعصر بعضها البعض ، ورعشة خفيفة تخفق في أطرافه . انزلقت العربة في الظلام ، مبتعدة عن المدينة ، في حركة ترتج لها الأجساد ، وتجعل كل واحد منهما يميل باتجاه صاحبه تارة ، أو تقذفه بعيداً تارة أخرى ..
جلس الملك بجلبابه ذي الألوان الخريفية ، الغني بالأهداب والطرز الذهبية .. جلس بثقة ملكية مطلقة ، وهدوء عميق ينبعث من داخله ، فيما كانت عيناه المسمّرتان مكحلتين بالحكمة . راحت العربة تقعقع نحو الجنوب ، بينما المدينة تنأى بأضوائها الناعسة . سلكوا دروباً برية خالية من كل شيء . وفي السماء كانت قطع كبيرة من الغيوم تتراصف ببطء ملتزة وكأنها تتوقى البرد . لم يكن ( نجيب ) يسمع سوى الجلجلة ووقع السنابك ، في الوقت الذي امتلأ صدره بعبق البريـّة ..
ضغط الملك على طرف ركبته التي تجاوره بلطف ، ليفك إسار شروده . وقال له :
ـ قريبا سوف نصل .. ستعرف جيداً لماذا جئنا بك إلى هنا .
طاف القلق في داخله مرة ً أخرى ، وهو يتساءل بصمت وحيرة عن الأمر الخطير الذي جاء من أجله هذا الملك المهيب ، وإلى أية أقدار يحمله هذا الموكب العظيم ؟..
بعد مضي زهاء ثلاث ساعات من الوقت ، شارفت العربة على أطلال ( لارسا ) ، عبر دروب بريـّة متصحرة . أخذت العربة بالانعطاف نحو تلال صغيرة ، يندس بينها منفذ سري وقف عنده حشد من الجنود يحملون مشاعلهم المضيئة ، ما لبثوا أن أحاطوا بالعربة ، التي أخذت تتوغل في أحشاء المدينة الغافية تحت الرمال ..
وفي أعماق الأرض ، توقّفت العربة أمام قصر ملكي منيف . التفت الملك وأشار إلى ضيفه بالترجل .
عند باب القصر ، التف حوله نفر من قادته وتحدثوا إليه قليلا ً ..
قاد الملك ( نجيب ) إلى ركن قصي من أركان القصر ، ثم توقّف ، والتفت إليه مخاطباً ، وهو يشير إلى أعلى الركن :
- هل تسمع شيئاً من فوقنا ؟..
شخص ( نجيب ) بعينيه إلى السقف وراح يصيخ السمع . ثمة أصوات خافتة ، أصوات مضطربة ، تعلو حيناً ، وتخبو حيناً آخر ، أصوات نقر، وهدم ، وجرف ..
- نعم .. نعم أسمع أصوات معاول ورفوش ..
وشرع كلاهما ينصتان باهتمام أكثر لتمييز تلك الأصوات .
قال الملك ورنّة أسف تغشى صوته :
ـ نعم نحن نسمعها كل يوم .. إنها أصوات نبش اللصوص في أركان مملكتنا الذي لم يعد يتوقف .
وأردف بحسرة :
ـ لقد وصلت معاولهم إلى لحومنا ، بعد أن تيقنوا أن لا أحد قادر على ردعهم .
كانت أصوات النقر تزداد حدّة ، وتتواصل يشكل يوحي بأن سقوف القصر توشك على الانهيار .
ـ اليوم أعددنا العدة لرد كيدهم ، ستكون شاهدي أيها الشرطي المخلص .. بل ستكون شريكي أيضا !..
أخبره الملك بعزمه هذا بنبرة سريعة ، جعلت الدهشة تترع جسد ( نجيب ) ، وتفيض حتى تقذفها شفتيه حروفاً حائرة ، مفكّكة :
- ـ أ.. أنا ، أنا سـ ..سيدي ؟..
ردّ الملك بحزم :
ـ نعم أنت .. ولم َ لا ؟.. ألم نرَكَ تحمل التماثيل التي يحطمها اللصوص بين يديك وأنت تكاد تذرف الدمع حرقة وألماً ؟.. ألم نرَكَ تجمع رميم الخزف والفخار المنثور في أطلال المدينة لعل الآخرين ينتفعون به ؟..
أجاب بإيماءة من رأسه المطرق ، وهو مستغرق في حيرته .
رفع الملك ناظريه عالياً ، يجسّ بهما مواطن الطرق الذي بات أكثرحدّة ، ثم قالً :
- اليوم يومك أيها الشرطي المخلص ، هلمْ بنا ..
قاد الملك ( نجيب ) إلى إحدى قاعات القصر الفخمة ، وكان يجلس فيها عدد لا بأس به من إعوانه ، سرعان ما هبّوا واقفين ، حال ظهور الملك بينهم ؛ الذي اقترب من رجل شديد الخلقة من رجاله ، ويلوح أنه أحد قادته ، كان واقفا بهيئة جبروتية ، وأشار إليه الملك باقتضاب :
- قد ْ جيشك وأبدأ صولتك ، وليكن هذا الشرطي إلى جانبك .
لم تتسن ّ له أية فسحة ليقول شيئاً ماً ، فسرعان ما وجد نفسه محشورا ً إلى جنب القائد في عربته الحربية ـ التي انطلقت مسرعة بين أفواج من الجنود .
سارت عربة القائد تتقدم جيشاً من الرجال المتحمسين . وعلى أضواء المشاعل ، راحوا يتلمسون طريقهم ، الذي يصعد من الأعماق إلى الأعلى ، ويفضي بهم إلى سطح الأرض .
بصولة سريعة مفاجئة ، صال الجنود الشجعان ، نجحوا في تمزيق اللصوص وقتل بعضهم وأسر الجمع المتبقي منهم ، واقتادوهم إلى داخل الأطلال في موكب تاريخي رهيب ، لم يُرَ مثله سوى في المسلات الحجرية القديمة . لقد جردوا اللصوص من كامل ثيابهم ، وكبلوهم بالأغلال ، وربطوهم الواحد إلى الآخر ، كان الشرطي ( نجيب ) يتقدمهم ، ويقودهم خلفه بخيلاء ، وهو سابح في أمطار النشوة الغامرة . عقب هذا النصر المسدّد ، عاد لا يذوق حتى طعم النوم ، لفرط أحاسيسه المضطرمة بالسعادة والانتشاء !..
في جوف تلك الليلة الليلاء تمت غارتهم الموفقة على اللصوص ، وفي الساعات التي كان فيها أصحاب ( نجيب ) ، من رجال الشرطة ، يغطّون في منامهم قرب تلك الأطلال ، ولربما حملت الريح إلى أسماعهم ، في انعطافاتها ، بعضاً من الصراخ والبكاء والاستنجاد الذي كان يطلقه اللصوص في ذروة فزعهم ، وهم يتبعثرون في كل الجهات بلا وعي وقد فقدوا صوابهم .. بالتمام ، إن أصحابه حين يغلون أول أبريق شاي ، في الصباح ، ويأخذون باحتسائه ، سوف تتفتق مخيلاتهم عن تهيؤات وأوهام تصوروها في غطيط نوم الليلة المنصرمة !..
علِمَ الناس جميعاً ما أحاق بإولئك اللصوص ، ومقتل البعض منهم ، كما تناقلوا خبر اندفاعة الشرطي ( نجيب ) المشرّفة ، وإقدامه على حماية مدينة الأجداد ، فأقبلوا عليه مهلّلين ، مباركين ، إقبال الظافر المنتصر ، وصار أسمه لا يـُذكر إلا مقرونا ًبآيات الفخر والتبجيل .
وحدها الحكومة المحلية شكـّكت في هذا الخبر !.. بل لعلها نفت حدوثه أساساً ، قائلة أن كل تلك الرواية محض هراء ، مدّعية في الوقت عينه ، أن مجرد وجود الشرطة حول أطلال مدينة ( لارسا ) كفيل بإبعاد أي لصوص ربما تسول لهم نفوسهم اقتحام تلالها ، أواجتياح كنوزها الأثرية ودفائنها !..
مضى على هذه الحادثة المثيرة والغريبة زهاء عشرة أيام لا أكثر ، حين قـُرِع باب منزل الشرطي ( نجيب ) مرّة أخرى ، قرعاً عجولا ً في أول الصباح . سارعت زوجته إلى فتح الباب ، ثم عادت لتوقظ زوجها من نومه ، وتخبره قائلة :
ـ هذا ابن عمّك عند باب المنزل ، ويريدك في أمر هام .
ـ دعيه يدخل إلى الدار .
قابله الرجل ملهوفاً ، فقد جاء إلى ( نجيب ) مسرعاً ، من دون أن يغيّر ثياب نومه ، ولا يكاد أن يتمكن من التقاط أنفاسه . أمسك بذراع ( نجيب ) ، وقاد به إلى وسط المدينة ، ليتوقّفا ، في غمرة من المفاجئة والذهول ، أمام نصب تذكاري رائع من حجر الديورايت الصلب ، انتصب فوق قاعدة دائرية راسخة وصلدة ، مزينة بالزخارف والنقوش . يجسد ذلك النصب السرّاق والسماسرة وهم عراة ، مصفــّدين ، مدحورين ، و( نجيب ) يقودهم خلفه ..
كان تمثاله قد صُوٍر جانبياً وفيه يظهر أنفه الكبير بارزا ً وشامخاً فوق وجههً ؛ نـُحِت بشكل مبالغ فيه نوعا ً ما . لم يتمالك ( نجيب ) نفسه من إفلات ضحكة حين نظر إلى تمثاله لأول مرّة ، ورأى أنفه يرتفع إلى عنان السماء ..
احتشد الناس متطلــّعين إلى النصب ، وساخرين من أولئك اللصوص ، الذين كانوا يعرفونهم واحداً واحدا . وأدهشهم جميعاً الظهور المفاجئ لهذا النصب في ساحة المدينة من دون دراية أو معرفة من أحد .
تساءل الناس كثيراً ، ونبشوا كل شيء ، حتى أخبرهم أحد الشّبان بأنه رأى ، عند انتصاف الليل ، أشخاصاً غرباء ، بثياب وأسلحة غريبة ، قاموا ببناء النصب سريعاً في هذا المكان ورحلوا ..
توج النصب إخلاص ( نجيب ) بمجد زاهٍ ، وصار يجيء إليه كل يوم ليتفحصه باعتزاز وخيلاء لا حدود لهما !.. وتحت النصب كان يستحضر كل يوم صور أولئك الشياطين الذين يأكلون تأريخ الأجداد بتلذذ واستمراء ، كما لو كان ضرباً من المخلّلات .
العجيب في أمر هذا النصب ، أنه نُحِتَ بنفس الطريقة السومرية تماماً ، وقد صُنِعَ من نفس صخور الديورايت ، ونفس عمرها الزمني ، وإن المتفحّص ، والناظر إليه لا يشك أبداً في أنه نصب سومري جيء به من أحد المواقع الأثرية ، ووضع في وسط المدينة .
كان تحفة فنية تاريخية بحق .
لم تكد تمضي على زوبعة ظهور النصب في ساحة المدينة أياماً طويلة ، حتى تفاجأ الشرطي ( نجيب ) ثانية بظهور ابن عمه عند باب منزله ، وهو يقرع الباب قرعا ً عجولا ، مضطربا ً !.. جاء ليصطحبه ثانية إلى ساحة المدينة ، وهو يخطو مسرعاً ، ويغمغم ، ويسبّ ، ويشتم .
في وسط المدينة وجدا أن النصب قد اختفى تماماً من فوق قاعدته .. سُرِقت التماثيل كلها ومعها تمثال ( نجيب ) ، ولم يتبق شيء َ سوى القاعدة السومرية الجميلة الراسخة .. الأدهى من ذلك كله أن الكثير من الناس كانوا يعلمون جيداً من هم السرّاق !.. بل لقد أجزم بعضهم ، عقب أيام قليلة من الحادث ، على أن التماثيل عبرت الحدود إلى دول الجوار . انقبضت أسارير الناس وتجهمت وجوههم ألماً وامتعاضاً لما حدث ، ومتى ما سألت أحداً عن ذلك فإنه يظل مخرساً ، قانطاً ، حائراً فيما عسى أن يقول .
تبرعم إحساس .. إحساس من نوع خاص ، في أعماق ( نجيب ) . دفعه ليهيم في شوارع المدينة أغلب أوقاته ، ولا يؤوب إلى داره إلا متأخراً . كان يؤوب بمزاج رائق نوعاً ما !..
***
مرّة ً أخرى ، تناهى لسمعه طرق خافت على الباب ، في جوف ليل ٍ بارد ٍ مظلم مداهن ، أسدل ستائره الداكنة الموشاة بالهمس والحفيف ، وغاصت طرقاته بالوحشة التي تسيل بلونها النيلي القاتم الكئيب ..
نهض ( نجيب ) محترساً ، وخلف الباب الموصد تساءل بشيء من التردّد :
– مَن ْ ؟..
ردّ عليه صوت جهوريٌ مترع بالألفة :
– صديق .. صديق .
فتح الباب ليرى جلالة الملك قد عاد مطرقاً حزيناً . أوسع له الطريق ، وأدخله إلى الدار . وجلس بين يديه مصغياً لكل ما يقول ..
رفع الملك رأسه وأخذ يتفرس في وجه ( نجيب ) ، وكأنه عثر على شيء غريب في ملامحه . ثم همس بإحباط قائلا ً :
ـ أرأيت ما فعلوا ؟..
– نعم رأيت .. ونِعمَ ما فعلوا ..
أطرق الملك ، من دون أن يكترث إلى عبارة ( نجيب ) الأخيرة .
ثم عاد ليقول :
ـ هل رأيت الوضاعة كيف قادتهم إلى هذا الحد ؟..
أجاب ( نجيب ) بمزاجه الرائق نفسه :
ـ نعم .. لقد أحسنوا الصنع ..
وفجأة غرز الملك في عينيه نظرة ً قدحت كالبرق من أعماقه وقال :
ـ هل تسخر من شيء ؟.
كان ( نجيب ) جالساً بين يديه بتهيب وطاعة ، اعتدل أكثر وأجاب باتزان وتواضع نفس ٍ تعرف قدرها :
ـ معاذ الله أن أسخر من شيء يا سيدي ، لكنني أردت أن أقول لسيادتكم ، إن ما حدث قد شحذ زهوي وفخاري ، وجعلني أترنح طربا ً و أهتز سعادة ً !.. أنا مزهو ٌ يا مولاي بتماثيلنا التي توزن بالذهب في أسواق العالم ، كأنها الأحجار الكريمة .. سعيد ٌ يا مولاي بتماثيل أولئك اللصوص تستعرضهم الأمم عراة مكبلين بالخزي ، موسومين بالعار ، وفخور يا مولاي .. فخور بأنفي السومري الكبير وهو يعبر الحدود حـدّا ً حـدّا !..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشطرة : 2004