هكذا تكلـّمت ( خميسه ) وهكذا سكتت
قصة قصيرة .
محمود يعقوب
( قصة فائزة بجائزة عزيز السيد جاسم الإبداعية )
الحياة مقلب ، أو هكذا تبدو في كثير من الأحيان .
قطعت عهدا ً على نفسي أن لا أفشي هذا السر الرهيب لكائن ٍ من كان .. السر الذي دفنته في الأعماق كما تُدفن آلة جارحة !.. لكنما اليوم أجدني متراجعا ً عن عهدي وميثاقي وأنا أضعه بين أياديكم بكل خيانة .
ولسوف يستوقفني بعض من عرف ( خميسه ) ، يغرز في عيوني نظرات عتب فاتكة ، ويقرع ضميري بكلماته التي لا ترحم .. فما سيكون مني سوى أن أهزّ رأسي هزّة غامضة ، وأنا أسدّد بصري إلى عرض الطريق الطافح بالنساء ، وأكشف عن ابتسامة خبيثة ، تفسّر كل شيء !..
صدقوا ، لست راغبا ً في نبش الصناديق العتيقة لأناس طيبين ، وما كنت آتيا ً لتسليط الأضواء على المجسّات النفسية والاجتماعية للعقد المفترضة في سلوكيات هذه المرأة .. المرأة التي تنام الآن مستريحة في قبرها ، وهي تلتفّ في ذات الرداء الذي يلتف به الجميع ، رجالا ً ونساءً ـ بقدر رغبتي في اقتفاء أثرها في السوق الذي كنت أعمل فيه صغيرا ً .
تلك هي ( خميسه ) ، الرجل ـ المرأة ..
لم يقوَ أحد ٌ على الوقوف في وجهها وردعها ، أو صب اللوم والتهم عليها ، حينما خلعت عنها ثياب الأنوثة الرقيقة الفاتنة ، ولبست ثوبا ً رجاليا ً قاتما ً وخشنا ً .. ثوبا ً بأربعة أزرار ، ثـُبْتت على جهة الصدر اليمين ، وبياقة متخشبة .. ثوبا ً فضفاضا ً ، تركض أطرافه خلف لابسه بحفيف كاللهاث المحموم . لبسته عقب وفاة والدها ، الذي ورثت منه الطول الفارع ودقة الذقن المتناهية .. الدقة الموحية بالثقة الراسخة وصعوبة المراس ..
على الرغم من أن الأمر يورث الحيرة ، ويستثير الالتباس ، وحتى الوجوم ، وينثر الشك والأقاويل في كل هواء وتربة ، لكننا كنا نسمع النساء يرددن غالبا ً : إن ( خميسه ) أنثى كاملة لا ينقصها شيء مما لدى كل الإناث .. أنثى بالتمام من قعر غرفتها حتى التخت الذي يتوسط المقهى الكبيرة في سوق المدينة المسقوف ..
بعد مرور الوقت ، اعتاد الجميع رؤيتها في هذا المظهر الغريب . صار من المألوف وقوفها بين شباب الحي القديم ، أو خروجها ، وهي تخطر في مشيتها في السوق .
انحدرت من عائلة قليلة الاختلاط .. عائلة يبدو أنها غصن مقطوع من شجرة نسب مزروعة في مكان آخر ، جلّ ثمارها من البنات ..
لم تكن نساء الحي يحبذن مخالطة ( خميسه ) ، وفي الواقع لم يكنّ يتجرأن على فعل ذلك . إنها ، ومهما أظهرن لها من تملق وتظليل ، لا تتورع من كيل التهم إليهن بمناسبة أو أخرى ، إذ تصرخ في وجوههن :
- أنتن ّ قطط منازل ، تتلذذنّ بالخضوع إلى الرجال الوسخين ..
- أشعلن أجسادكنّ وعواطفكنّ بخورا ً لأناس لا يليق بهم شيء سوى روائح التبغ النتنة ..
غالبا ً ما كانت تختم خطابها إليهن ، وهي تشير إلى ضعفهن : ( أنتنّ حفنة حريم .. حريم تحت خيمة الكريم ) ..
ويحدث أحيانا ً أن تشكو عندها أحداهن ّ من جفاء أو هجران زوجها لها ، فما يكون منها إلا أن تقف حيالها وهي تغرز كفيها في خاصرتيها ، في وضع تحد ، و تنهرها بصوت انفعالي مرتفع :
- دعيه ، ليول ِّ أينما يول ِّ .. سوف يأتي كلب ٌ غيره .. هكذا هم الرجال ، واحد ٌ يذهب وآخر يجيء ..
ومع خشيتهنّ وابتعادهن ّ عنها ، إلا أنها كانت تثير فضول النساء إثارة ً لا حدود لها ، كن في شوق ولهفة حارقة لمعرفة ما الذي باتت تملكه ( خميسه ) بعد أن صارت رجلا ً !..
إن أكثر ما يؤجج ذلك الفضول ويفيضه هو كيف أن الرجال أقاموها بينهم في مقام واعتبار محمود ، وتعاملوا معها كرجل لا يختلف بشيء عنهم !.. إلا أنهن ّ يدركن أن ما من أحد منهم يجرؤ على المساس بها ، فتلك ورطة شائكة ، وساعتها يا ثوب من مزّقكَ ؟..
بعد مرور سنوات ، باتت ( خميسه ) تعمل في سوق المدينة ، بثوب رجالي بني ، وعقال وكوفية ، وعباءة ٍصوفية شقراء . تبيع وتشتري على هواها . وعلى الرغم من مظهرها الرجولي ، فلم تكن ( خميسه ) فحلا ً ، تحت ملابسها بقيت امرأة .. امرأة طالما أحرجتها كلمات أولئك الريفيين الأغراب وعباراتهم العفوية ، الفجّة ، حينما يفاجؤونها ببعض أقوالهم أثناء معاملاتهم في السوق .
كنت حدثا ً ، أؤم محلا ً ً لبيع الفحم ، مرتين في اليوم . لم يكن محلا ً كالمعهود ، بقدر ما كان ممرا ً طويلا ً .. ممرا ً بطول خمسة وعشرين مترا ً تقريبا ً ، مظلم و ممتلئ بأكياس الفحم ، التي توزعت بين جانبيه تاركة ً مجالا ً ضيقا ً بينهما ، لا يسمح لمرور الشخص دون أن تتلطخ ملابسه بسحمة الفحم . كانت جدران الممر وسقفه المتهالك قد اكتست بمسحوق الفحم ، حتى بان في النهاية كل شيء فيه مظلماً ، وقد حُرِمَ من أي مصدر للنور .
يتسع الممر قليلا ً في نهايته وهو يفضي إلى فناء صغير مكشوف يحتوي على غرفتين ، إحداهما خربة ، مظلمة ورطبة ، استغلت لقضاء الحاجة ، وظلت تنبعث منها الأبخرة و الروائح الفاسدة ..
أما الغرفة الثانية ، فكانت أفضل حال بكثير ، ذات باب خشبي ضيق وقديم ، مدهون بدهان أزرق باهت مقشور في بعض أجزائه ، ولها شباك صغير بمصراع واحد من الخشب البالي ، سقطت إحدى ألواحه ، وأصبح من اليسر النظر من خلالها لرؤية داخل الغرفة بوضوح كافٍ ، ولعل هاتين الغرفتين وذلك الممر الطويل هما بقايا بناء قديم كان يشغل المكان في يوم من الأيام .
كان في هذه الغرفة الكثير من صفائح الزيت الحيواني ، الذي يسمونه ( الزيت الحُر ) ، وينبسط على أرضها حصير واسع من الخوص المسفوف ، غالباً ما يلجأ إليها بائع الفحم في أوقات قيلولته ، أو استراحته..
كان هذا الفحـّام رجلا ً مترملا ً ، في العقد الرابع من عمره ، في مثل عمر ( خميسه ) تقريبا ً ، رجلا ً رقيقا ً حسن المظهر . بيته في أطراف المدينة ، ويبعد كثيراً عن السوق ؛ وهذا ما يفسر بقاءئه في محل عمله إلى المساء حتى يؤوب إلى منزله . .
في هذا الصدد ، ثمة أمر ٌ مهم لا ينبغي أن يغيب عن بال أحد .. أمرٌ لا يعرفه إلا من كان قريبا ً من مهنة الفحـّام أو على مساس به ، ألا وهو أن غالبية زبائن الفحـّام هم من الصغار عادة ً .. أولئك الصبية العاملين في المطاعم الذين يجلبون أكياس الفحم على ظهورهم ، من غير أن يعبئوا لاتساخ ثيابهم . إن أرباب عملهم يتركون هذا الأمر لهم وحدهم بلا ريب ، و ليس من المعقول في أعرافهم ترك ملابس الكبار تتلوث بالفحم .
عملت في مطعم لا يبعد كثيرا ً عن دكان الفحـّام ، اعتدت أن أراه في أوقات قيلولته يعمد إلى غلق مدخل الدكان برصف أكياس الفحم فوق بعضها البعض ، موحيا ً إلى أن المحل مغلق ، أو أن صاحبه غير موجود .. غير أنني إذا صادفت وجئته في مثل هذا الوقت ، وذلك ما يحدث نادرا ً، فإني أضطر إلى تسلق أكياس الفحم قاصدا ً غرفته ـ لأنبهه من نومه ..
ما بين محل الفحم ومطعمنا صف دكاكين تجلس ( خميسه ) عندها ، تبتاع الزيت من القرويين ، تجمعه في الصفائح التي تودعها في غرفة الفحـّام ، ما أن يتوفر لديها عدد كاف ٍ من هذه الصفائح حتى يأتي رجال غرباء لابتياعها ..
لاح لي أن العلاقة بين الفحـّاّم و ( خميسه ) صداقة حميمة ، فهما يمضيان بعض الوقت عادة ، من كل يوم ، معا في الدكان ، أما ما عدا ذلك فقد كانت ( خميسه ) تجلس في مقهى قريب ، تثرثر وتجادل ، وتعب دخان الأركيلة بين الرجال الصاخبين . ولطالما سمعت صوتها الهادر يعلو أصوات الرجال ، حارا ً مرهفا ً ، وهي تجادلهم ، لافظة ً كلماتها الأخيرة بدقة ٍ متناهية وكأنها تبصقها بصقا ً على ما مضى من الجدال .
في الواقع ، على الرغم من الاعتبار الحسن لها بين الكثير من الرجال ، وظنون البعض بأنها امرأة ( تعادل رجال ) ، لكنني لم أضمر لها أي نوع من الإعجاب ، ومع ذلك ظلت عيناي مرصدا ً لها .. مرصدا ً تجذبه وتغريه صورتها ، كنت أتحرى حركاتها وسكناتها على الدوام .. هي المشهد الفريد الذي يثيرني دائما ، شيء غريب مزروع في السوق ، يسد علي الطريق ، يضطرني إلى الالتفاف من حوله حتى أمضي في طريقي ؛ وعلى الرغم من ذلك فلم أكن أجذب انتباهها بالمرّة .
إن مراقبتي وتلصصي الدائب ، أتاحا لي الكثير من الصور النفيسة والنادرة التي لا يملكها غيري . غير أنني هنا لا أروم نشر كل ذلك على حبل القصة ، بقدر ما أرمي إلى سرد حادثة غريبة ، عرضت لي مصادفة ً ، أرعبتني وملأت روحي قرفا ً مثلما أهاجت وساوسي وأوهامي !.. ذكراها ستبقى راسبة في كل زاوية من زوايا جسدي مذ حدثت في ذلك اليوم القائظ وحتى الموت .
في ذلك اليوم أسرعت لشراء الفحم ، في موعد قيلولة الفحـّام ، ووفق العادة ، وجدت مدخل دكانه مغلقا ً بأكياس الفحم . الأكثر من هذا أن الرجل بالغ هذه المرة برصف المزيد من الأكياس ، ليحول دون دخول أي شخص ، موحيا ً ببلاغة لا تقبل الشك أن لا يوجد أحد داخل الدكان .. وحتى أنا ، تردّدت بعض الوقت ، ثم لقيت نفسي أخيرا ً أتسلقها بصعوبة .
ولجت الدهليز المعتم الطويل ، وإذ قطعت نصف مسافته ، سقطت في مسامعي أصوات تشبه الشهيق ، والأنين ، والتأوهات . توقفت فجأة ً أتسقط مصدر الأصوات ، التي أخذت تخبو ، وما لبثت أن ارتفعت مرّة ً أخرى أكثر حرارة ً وتسارعا ، راح يتخللها همس ٌ لم أتمكن من تبينه .
في تلك العتمة ، كان لدي شيء من الجرأة . فأنا صبي ٌ قادم ٌ لشراء فحم ، أحمل معي نقودي ، كما أنني ألفت العمل في السوق جنب هؤلاء الناس ، وكانوا طيبين معي .. لذا تقدّمت .. تقدّمت بوجل ، أمضي خطوة وأتوقف . أصيخ السمع إلى هذه الأصوات الغريبة . وجدت نفسي أخيرا ً أمام نافذة الغرفة الموصدة ، متلصصا ً ومسلـّطا ً نظرة ً خاطفة إلى داخلها ، من خلل شقها .. نظرة لا تستطيع أن تفلت من عيني أبدا ً ، اضطرب كياني لهول ما رأيت ، وتضرّجت بالحياء من رأسي حتى أخمص قدمي !.. توقفت لحظة ً عاجزا ً عن فهم ما يجري أمام عينيّ ، قبل أن أتراجع على مهل ، وقلبي يخفق بضراوة بين ضلوعي ، تراجعت إلى داخل الدهليز على رؤوس أصابعي ، ومن ثم جفلت وأطلقت العنان لساقي ، مخلـّفا ً جلبة ارتطامي بأكياس الفحم ، وتساقط البعض منها بصوت ٍ مسموع !..
هربت مذعورا ً .. هربت من السوق بأكمله ، وغبت عن العمل أياما ً متخبطا ً بين الخوف والغموض والمرارة والندم .. الندم على تلك النظرة القاتلة التي اختلستها ببراءة .
الآن أستطيع أن أعترف ، بأنني رأيت الغرفة تهتز وترتعش لذّةً.. رأيت الفحـّام ممتدا ً على ظهره ، فوق حصيرته ، مستسلما ً ، عاريا ً ، وقد أغمض عينيه ، وتشنجت تقاطيع وجهه بحدة ٍ ، فيما كانت ( خميسه ) تمتطيه كما يمتطي الفارس جواده ، تطلع وتنزل ، عارية تماما ً .. أنثى تماماً ، وجهها منكفئ فوقه ، وهي تنخر، وتأن أنين المكلوم ، تلهبه بسياط اللـّذة ، غائرة ً به في سهوب لا تحدها حدود !..
* * *
في وقت متأخر من ليلة الحادثة ، هبط علي ملاك ، هدهدني ، وأغمض جفني المسهّدين بعد طول أرق ، ثم ردّ علي طرف غطائي ، وتركني أنام بأمان .. لكنني وجدت نفسي في اليوم التالي مستسلما إلى المرض ، الذي أقعدني في أتونه بضعة أيام وبرّحني بآلامه . ما لبث أن عادني ذلك الملاك ، نضح وجهي بماء كوثر عطري ، ومسّد جسدي ، وأوقف مرضي ، وجعلني أقف على ساقيّ ثانية ..
ثبت إلى رشدي ، وعدت إلى العمل ، بقلب يلازمه الخوف وفزّات الحذر . توقفت عن الذهاب إلى دكان الفحـّام .. الفحـّام الذي باتت ابتسامته الحائرة تعلو وجهه حالما يراني ، ويروغ بوجهه هنا وهناك هاربا ً عن وجهي .. بينما أغوص أنا في خجلي الذي يبلل جسدي ويبلل ثيابي ..
وعلى غير العادة ، صارت نظرات ( خميسه ) الشزرة تخترقني كالسهام النافذة .. نظرات ثأرية غامضة ، مرعبة ، صاخبة كالموج ، تهد أعصابي ورباطة جأشي . متى ما تنبهت لوجودي في السوق تروح تـُلقم عينيها بتلك النظرات الفتـّاكة وتصوبها إلي بلا رحمة .. إنها ترغمني على خفض رأسي لأمضي مطأطئا ً مرتبكا !..
حفـّزني ذلك التوجس والخوف منها إلى مراقبتها بعناية .. مراقبة دقيقة لا تتوقف . لأجدها مع مرور الأيام قد لازمت الفحـّام ملازمة طويلة . ما عادت تجلس في المقهى إلا لماما ، وحين تفعل ذلك ، فإنها تجلس بوقار في ركن قصي منه ، بعيدا ً عن الرجال . لم تعد تمد ساقا ً وترفع الآخر على حافة التخت ، كما كانت تفعل هذا دون مبالاة من قبل ، إنما أصبحت تـَلِف ملابسها بحشمة . غدا صوتها أكثر رقة ونعومة من ذي قبل ، لم تعد تشارك الرجال ثرثرتهم أو تقحم نفسها في مجادلاتهم الصاخبة ، وأنا أوشك أن أقول أنها سكتت . وحين تسحب نفسا ً من الأركيلة ، ويتوهج الجمر أمام وجهها يمكنني أن أبصر الحمرة تتألق فوق خديها !..
مع مرور الوقت خبا رنين جرسها الذهبي وغام خيلاؤها . ومع هذا .. مع هذا كله ، فإن نظرة ً من ( خميسه ) .. نظرة ً واحدة ً لا أكثر ، كانت ترميني بها ، كافية لأن ترعبني ، وتجعلني أتبول بين ساقي ّ ذعرا ً وخوفا ً فظيعا ً .. خوفا ً تنزّه وساوسي وأوهامي العظيمة بأن هذه المرأة تريد أن تمتطيني كما امتطت الفحـّام يوما ً من الأيام !..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كُتِبَت عام 2006 .