التحليل النفسي في نصوص هاروكي موراكامي

ـ التحليل النفسي في نصوص هاروكي موراكامي .

محمود يعقوب

” لقد نظرت بعمق في داخلي ، محاولاً اكتشاف شيء قد يكون هناك . ولكن كما أن وعينا متاهة ، كذلك جسدنا . في كل مكان تستدير هناك ظلام ، ونقطة عمياء . في كل مكان تجد تلميحات صامتة ، تنتظرك مفاجأة في كل مكان “(1) .

   بدأ هاروكي موراكامي كتابة الرواية كوسيلة للعلاج الذاتي . لم يكن لديه فكرة عنها في ذلك الوقت . في الواقع قراره بالبدء في كتابة روايته الأولى        ( اسمع الريح تغني ) عام ١٩٧٨ ، والتي نشرها في السنة التالية ، كان مفاجئاً له ، بقدر ما كان مفاجئاً للجميع . رواية هاروكي الأولى هي مذكرات عن احتجاجات طلابية كان فيها المؤلف نفسه حاضرًا إلى حد ما ، ولكن ليس بالقدر الذي كان متوقعًا من المؤلفين . يقول هاروكي نفسه إنه عندما كان طالبًا ، ألقى الحجارة على شرطة مكافحة الشغب ، ثم اكتشف في نفسه أن ذلك العمل لا يجدي نفعاً ، وعاد إلى منزله ..
في ذلك الوقت كان موراكامي يمتلك حانة لموسيقى الجاز يديرها بمعية زوجته ، في إحدى ضواحي طوكيو . وفي عيد الغطاس ، حضر موراكامي مباراة كانت تُقام في ملعب جينغ بطوكيو في لعبة البيسبول ، يعشقها موراكامي ، ويتابعها باستمرار . وحين ضرب  لاعبه المفضّل  ضربة ضد فريق هيروشيما ، في تلك اللحظة ، برق في ذهن موراكامي ، وميض فكرة كتابة رواية ! .  بدا الأمر مثل وميض إلهام ، أحسّ بأنه قادر على فعل ذلك . وذهب بعد المباراة مباشرة لابتياع الأقلام والورق . وبعد الساعة الثانية صباحاً ، وهو موعد إغلاق حانته ، عاد إلى البيت ، وجلس إلى طاولة المطبخ ، وشرع يكتب روايته الأولى .  وقد شرح موراكامي هذه اللحظة التي عرف فيها رغبته في الكتابة  :
” كان مثل الوحي . لم يكن هناك سبب لذلك ، ولا توجد طريقة لشرحها . إنها كانت فكرة فقط تلك التي جاءت لي ، مجرد فكرة ، ويمكنني أن أفعل ذلك “(2) . وهكذا كتب روايته الأولى ، التي نشرها بعد سنة ، لتفوز بجائزة الكتّاب الجدد في اليابان .                                                                                        ” بعد فوات الأوان ، وفي عام ١٩٩٥ ، توصّل موراكامي إلى اكتشاف الدافع العميق وراء وميض الإلهام المفاجئ . عندما تحدّث إلى عالم النفس الياباني الشهير كاواي هاياو ، على سبيل المثال ، قال : ” لماذا بدأت في كتابة الروايات ، حتى إنني لا أعرف حقّاً ، فقد أردت أن أبدأ الكتابة يوماً ما . بالتفكير في الأمر الآن ، أعتقد أنه كان بعضاً من الخطوة نحو العلاج الذاتي “(3) .   وهذا يعني أن موراكامي يعتقد بأن الكتابة ممكن أن تكون وسيلة من وسائل العلاج الذاتي . وهذا بحد ذاته هدف سامٍ . الأدب وعلم النفس مرتبطان بوشائج متينة مع بعضهما البعض ، روح الإنسان تخلق الأدب ، والأدب يغذي روح الإنسان .           هاروكي موراكامي يتحدّث ملياً في سرده عن تأثير العالم الداخلي على العالم الخارجي للشخصيات من جوانب متعدّدة . فمثلاً وصف تأثير العالم الداخلي للفرد على مظهر الشخصية في أكثر من موضع :  ” لكن حين قابلتها لم تكن قد طوّرت هيئة خارجية تتماشى مع صفاتها الداخلية ، كانت بها سمة من عدم التوازن ، ولم يعتقد كثيرون أنها جميلة بشكل يدعو إلى النظر إليها . فيها جانب بالغ وآخر طفولي ، ولم يكونا متوافقين ” ، ” جنوب الحدود ، غرب الشمس ” .  وقبل الخوض في هذا الموضوع ، لابدّ من الالتفاتة إلى معنى العالم الداخلي . في هذا الصدد يمكن القول لا يوجد شخصان متشابهان تماماً في العالم . كل شخص مختلف . ما الذي يجعل الشخص فرداً ؟ .يعتمد تفرّد الشخص ، أولاً وقبل كل شيء على عالمه الداخلي . العالم الداخلي هو أفكارنا ، ومشاعرنا ، وخبراتنا ، ومواقفنا تجاه الأشياء ، أو تجاه الأشخاص الآخرين . لا يعكس سلوك الشخص دائماً عالمه الداخلي ، يمكننا التكيّف مع مواقف حياتية معينة ، والقيام بأشياء ليس من القلب ، ولكن تحت تأثير الظروف . في الوقت نفسه ، ما نفكر فيه ونشعر به يتربّص فقط في أذهاننا . في كثير من الأحيان ، يستغرق الأمر عدة سنوات من الحياة ، وأحياناً عقوداً ، لفهم نوع الشخص الذي هو حقاً ، وما هو عليه . يكشف الشخص عن الوصول إلى عالمه الداخلي فقط للأشخاص المقربين منه حقاً . هناك آراء مختلفة حول أصل العالم الداخلي للإنسان . يجادل البعض بأن الشخص قد وُلِدَ بالفعل بعالمه الداخلي ، وخلال حياته يكمله فقط . يجادل آخرون بأن العالم الداخلي هو انعكاس للتطور الروحي للشخص طوال الحياة .                                                                                                                                                                                                                              يمكن أن يكون أساس العالم الداخلي قيماً إنسانية عالمية وخبرة المرء الخاصة . لا يظل المرء كما هو دائماً ، فهو يتطوّر طوال حياته ويتطوّر معه ويمتلئ عالمه الداخلي .   نقرأ الكتب ، وتذهب إلى المسارح ، والأفلام ، والسفر ، وقراءة الكتب ، والتزوّد من مختلف المعارف ، وكل ذلك يمكن أن يثري عالمنا الداخلي .
 هاروكي موراكامي نموذج جمالي للمحللين النفسيين في القرن الحادي والعشرين . لقد أثبت في قصصه الخيالية ، أنه يمشي على حبل مشدود بين عالمين دقيقين الواقعي والسريالي ، الجاد والكوميدي ؛ غاصّاً في الخيال ، وصور الأحلام ، بطريقة فريدة . تستكشف رواياته موضوعات مماثلة لتلك التي تبهر التحليل النفسي العلائقي (4) : الذوات المتعدّدة ، والانفصال ، والحلم ، والخيال . يأخذ الأدب في الاعتبار حقائق الحياة لتوضيح وجهات نظر روح الإنسان ، ويهتم الأدب وعلم النفس على حدّ السواء بالتخيل ، والتفكير ، والأحاسيس ،  والمسائل النفسية للروح  .                                                 
   تتحدّث روايات موراكامي وقصصه القصيرة ، ووقائعه أنه أحد الكتّاب الأكثر شهرة وشعبية في عصرنا . معظم أعمال موراكامي تبحث في شخصية الإنسان وسلوكه . غالباً ما يتمتّع أبطال موراكامي بأسلوب حياة غير تقليدي ، وشخصيات تنأى بنفسها عن العلاقات ” المستقرة ” ،مثل الأسرة التقليدية . وميل لرفض التقاليد والتاريخ الوطني ، والتحوّل نحو أسلوب حياة جديدة أكثر ليبرالية لعبت فيه الموسيقى الأمريكية دوراً كبيراً . ما تتضمن قصصه موضوعات عن الخسارة ، والبحث عن الشخص المفقود ، ومشاعر الندم المؤلمة وحالات عدم اليقين حيال الحياة …                                                                                                                                                                                                                        يوضح موراكامي أنه في البحث عن شخص مفقود ، تبحث شخصياته بيأس عن الآخر الذي بدونه لا يمكن الحفاظ على إحساسهم بالذاتية المتمايزة . في روايته ( تسوكورو تازاكي عديم اللون وسنوات حجّه ) ، قصة شاب يدعى تسوكورو تطارده خسارة كبيرة . تم رفضه من قبل أصدقائه في المدرسة الثانوية . وسبّب ذلك له الألم . لكن الشخصية تغيّرت بعد ستة عشر عاماً عندما التقى بامرأة وقع في حبها . الكاتب مهتم ، في روايته ، باكتشاف شخصية بطل الرواية ، وكيف أثّر فكره على شخصيته ، وكيف تغيّرت شخصيته . والكاتب يستخدم نظرية التحليل النفسي لتحليل المتغيرات في شخصية بطله .          
   إن تأثير التحليل النفسي على الأدب ضخم ، وقد أثّر فرويد على الأدب ، كما أثّر الأدب على علم النفس بنفس القوة . هاروكي موراكامي ، المولود في عام ١٩٤٩ ، قرأ عدداّ كبيراً من الأعمال الأدبية للكتّاب الغربيين أثناء نشأته . وقد تأثّر العديد من هؤلاء الكتّاب بالتحليل النفسي ، وعلم النفس الفرويدي ، لذلك تأثّر موراكامي بهما بشكل غير مباشر . تستخدم أعماله على نطاق واسع الخيال والرمزية للتعبير عن المشاعر والدوافع الغريزية المكبوتة في قلوب الشخصيات . إن استخدام نظرية التحليل النفسي لشرح العالم الداخلي للشخصيات في روايات موراكامي سيعطي فهماً أعمق لأعمال موراكامي الروائية . ويركّز هاروكي غالباً على العوامل النفسية ، حيث تدور أكثر الصراعات في أعماق شخصياته ، فيسبرها موراكامي وهو يقودنا في رحلة الأعماق تلك الشيقة ، والمثيرة ، والغامضة .
   لعلّ طريقة هاروكي موراكامي في مقارنة القصص بالأحلام جديرة بالمرح حقّاً . فمنذ أن كتب فرويد ( تحليل الأحلام ) في عام ١٩٠٠ ، ارتبط علم النفس ، وخاصة أبحاث علم النفس العميق (5) ، ارتباطا وثيقاً بالأحلام . كما قال فرويد ، الأحلام هي السبيل الوحيد إلى العقل الباطن . إذا كانت للقصة أيضاً سمات الأحلام ، فعندها في البحث النفسي ، وخاصة في العلاج النفسي ، يجب أيضاً تطبيق تفسير الأحلام والنظريات ذات الصلة على عالم القصة والأشياء الموجودة فيه . لذلك ، يركّز كل التحليل النفسي اليونغي ـ نسبة إلى الطبيب النفساني السويسري كارل يونغ ـ  تقريباً على تحليل الأحلام ، ومع ذلك من منظور علم النفس ، فإن أعمال هاروكي موراكامي سوف تسبّب العديد من المشاكل . يُعلّق علم النفس العميق ، الذي تأسّس في العصر الحديث ، أهمية كبيرة على العقل الباطن ، ولكنه دائماً ما يستخدم الذات والوعي الذاتي كمقدمة لاستكشاف العقل الباطن ضده .  على سبيل المثال : يُشير مصطلح ” المقاومة ” المهم جداً في التحليل النفسي إلى مقاومة الذات ، ورفضها ، عندما يغزو العقل الباطن الوعي . من السهل التعامل في التحليل النفسي مع هذا النوع من التنافس ، وهو أيضاً مفتاح العلاج النفسي . الشيء المهم ليس العقل الباطن نفسه ، بل التناقض ، والمقاومة المتشابكة في العقدة بين الذات واللاوعي . في هذه المرحلة ، قد تكون استعارة هاروكي موراكامي عن ” المنزل ” مفيدة .                                                           وصف هاروكي العقل البشري بأنه عبارة عن منزل يتألّف من طابقين ، مع قبو . تعليقه طويل إلى حدٍ ما ، ولكنه مثير للاهتمام ، بما يكفي لاستحقاق ذكره بالكامل هنا :
” أعتقد أن الوجود البشري هو مثل منزل يتألّف من طابقين . في الطابق الأول ، يجتمع الناس معاً لتناول وجباتهم ، ومشاهدة التلفزيون ، والتحدّث .  يحتوي الطابق الثاني على غرف خاصة ، وغرف نوم ، حيث يذهب الناس لقراءة الكتب ، والاستماع إلى الموسيقى بأنفسهم ، وما إلى ذلك . ثم هناك قبو ، هذا مكان خاص ، وهناك عدد من الأشياء المخزنّة فيه . لا نستخدم هذه الغرفة كثيراً في حياتنا اليومية ، لكن في بعض الأحيان نأتي إليها ونتسكّع في المكان بشكل غامض .  ثم ، فكرتي هي أنه يوجد تحت غرفة القبو غرفة أخرى في الطابق السفلي ، ولها باب خاص جداً ، من الصعب جداً اكتشافه ؛ وعادة لا يمكنك الدخول إليه ـ بعض الأشخاص لا يدخلون مطلقاً …. تدخل ، وتتجوّل في الظلام ، وتختبر أشياء هناك ، لن تراها في الأقسام العادية من المنزل . تتواصل مع ماضيك هناك ، لأنك دخلت إلى روحك ، ولكن بعد ذلك تعود ؛ إذا بقيت هناك لفترة طويلة ، فلن تتمكّن أبداً من العودة إلى الواقع . إحساسي هو أن الروائي هو الشخص الذي يمكنه ، بوعي ، القيام بهذا النوع من الأشياء ” (6) .                                                                                                   في هذا النموذج من الاستعارة يرى موراكامي أن الطابقين الأرضي والثاني يمثلان الوعي ، بوضوح كافٍ . والمستوى الأول من الطابق السفلي ( القبو ) هو مستوى ضحل من العالم الميتافيزيقي ، ويمكن الوصول إليه سواء كان المرء مستيقظاً ( كذاكرة ) ، أو نائماً ( كحلم ) . هذا هو المكان الذي نخزن فيه الذكريات ، ونترك تخيلاتنا ( الواعية ) تتجوّل فيه ، وبمعنى عام للكلمة ( فكر ) .                                                                                                            إذن ما هو مستوى القبو تحت الطابق السفلي الأول ؟ ربما هذا هو المكان الذي يتم فيه الاحتفاظ بـ ( السرد ) الذي يتحدّث عنه موراكامي ؛ وهو محق تماماً في قوله ” إننا لا ندخل عادة هذه الغرفة  ـ على الأقل ليس بإرادتنا … إننا على اتصال غير واعي بهذا المستوى الأعمق من الروح ” .                  أشار هاروكي موراكامي إلى أن معظم الذوات الحديثة في الروايات اليابانية الحديثة سطحية للغاية  ، وتبقى فقط في مستوى محدود تحت الأرض . يعتقد أن استخدام الوسائل الأدبية لإجراء التحليل النفسي ، حتى لو استطاع التقاط الظواهر النفسية للفرد والذات في علم النفس العميق ، فإنه سيبقى فقط في المستوى الأول تحت الأرض ولا يمكن أن يتعمّق في المستوى الثاني تحت الأرض .
” هذا يساعد القرّاء على فهم كيفية عمل هذا العالم الميتافيزيقي . هذا الموضوع يؤدي إلى بعض التحديات المثيرة للاهتمام ، كيف يفهم المرء الميتافيزيقي  . في هذا الصدد ماذا تعني كلمة ميتافيزيقي بالنسبة لنا ؟ في سياق روايات موراكامي  . لها معنيان  أساسيان :                        الأول ، والأكثر حرفية ، يشير إلى ما هو أبعد من المادي . وبهذا المعنى فإنه يغطّي الأشياء التي تشكّل جزءاً من لغتنا اليومية أيضاً ( الخوارق ) ـ التي لا يؤمن بها كثير من الناس ـ إلى ( العقل ) الذي يؤمن به معظم الناس . ما هو ميتافيزيقي هو ( حقيقي ) ، بمعنى أننا نستطيع رؤية آثاره ، والشعور بآثاره ، ومع ذلك ليس له حالة فيزيائية يمكن فهمها .                                                                                                                                                                      المعنى الثاني للميتافيزيقية ، في عالم موراكامي الخيالي ، هو ذلك الذي يبدو في الواقع أنه يحتوي على عنصر ملموس ، ولكنه داخل عالم ليس كذلك ، في هذه الحالة أشير إلى العقل الداخلي الذي يعتبر بالنسبة  لشخصيات موراكامي أكثر من مجرد صور ذهنية غامضة   . كما هو الحال في  
عالمنا الواقعي ؛ ولكنه يحتوي على أشياء ملموسة على ما يبدو ، في هذا المجال . في هذه الحالة مثلاً  : يضرب شقيق زوجته الميتافيزيقي حتى الموت ، بمضرب بيسبول ميتافيزيقي ، في رواية   ( يوميات طائر الزنبرك ) ، كما يمكن لكافكا تامورا أن يغتصب أخته المفترضة ، في رواية  ( كافكا على الشاطئ ) . تحدث هذه الأشياء حقّاً ، ومع ذلك تحدث في عالم افتراضي ، يبدو وكأنه ملموس تماماً ، مثل عالمنا الواعي واليقظي “(7) .                                                                                                                                                                                                                            قصة ( الوحش الأخضر الصغير ) ، من القصص القصيرة المشهورة لهاروكي موراكامي . في هذه القصة القصيرة ، يركّز موراكامي على استخدام أسلوب اللاوعي فيها ، وهي مثال من أمثلة قصصه النفسية . أقدّم هنا ملخّصاً لها ، وأردفها بملخص  لدراسة نفسانية تحليلية بقلم الكاتبة سارة فيريرا  .
ملخص القصة (8) :                                                                                                                                                                                                     ” غادر الزوج إلى العمل ، مخلّفاً زوجته وحيدة في المنزل . ولم يكن لديها شيء تشغل نفسها به ، سوى الجلوس أمام النافذة ، والتطلّع إلى حديقة المنزل .  ومن بين كل الأشياء الموجودة في الحديقة كانت شجرة البلوط تُلفت انتباهها . وكانت بينهما صداقة . فقد زرعتها منذ أن كانت طفلة . وكانت تتحدّث معها معظم أوقات وحدتها . يمر الوقت ، وهي جالسة تنظر إلى الحديقة ، من دون أن تشعر بذلك حتى حلّ الظلام . وفجأة سمعت صوتا يأتيها من مكان ما بعيد .. صوت غريب ، ومكتوم . في بداية الأمر ظنّت أن الصوت يأتي من داخل أعماقها . حبست أنفاسها وأنصتت ، وراح الصوت يقترب منها رويداً .    ظهر بالقرب من بقعة الأرض المحيطة بأسفل الشجرة بروز للأعلى ، وكان هناك سائل غليظ ، وثقيل ، على وشك الاندفاع إلى السطح . ثم انشقت الأرض وانهارت الربوة الصغيرة ، كاشفة عن صف من المخالب الحادّة . أخذت المخالب تحفر في التربة بقوّة ، وسرعان ما اتسع الشق في الأرض ليصبح فجوة ، زحف منها وحش أخضر صغير .  كان جسم الوحش مغطّى بحراشف خضراء لامعة ، وله أنف طويل غريب . وله عينان تفيضان بالمشاعر . تقدّم نحو المنزل ، ولامس القفل بطرف أنفه وفتحه ، وولج إلى الداخل ، متقدّماً نحو المرأة . ودار في خلدها الكثير من الأفكار والمشاعر ، حتى أنها فكّرت أن تدلف إلى المطبخ لتستعين بسكين حاد في الدفاع عن نفسها . ولكن الغريب أن الوحش كان يقرأ كل ما يجول في رأسها من أفكار وخواطر ، فأخذ يحذّرها ، ويطمئنها بأنه لا ينوي إيذاءها ، بل أنه يحبها . كان يكرّر الكلمات بصورة غريبة ، وقال لها : سيدتي ، ألا ترين جئت طالباً يدك من أعمق أعمق أعمق أعماقي ، كان علي أن أزحف طوال الطريق ، هنا للأعلى هنا للأعلى .                                                                                                                                 بعد سماع كلامه المغرم ، وتوسّلاته ، انتابتها مشاعر الغضب ، والكره له ؛ وبما أنه كان يقرأ مشاعرها فقد أحبطه ذلك ، وراح يذبل ، وتتبدّل ألوانه ، لأنه كان يخفي قلباً رقيقاً .  وسرعان ما أدركت المرأة ذلك ، فأخذت تضرم مشاعر العداء له ، في دخيلتها ، وتصرخ في داخلها بأصوات معبّرة عن كرهها له . أدى الأمر إلى انهيار المخلوق ، وبرزت عيناه ، وهما تذرفان دموعاً مثل عصير أحمر اللون . وتقدّمت منه وقيّدته إلى كرسي ثقيل ، وبالكماشة راحت تنزع حراشفه من جذورها . وترنّح الوحش من الألم وتلوّى . وبكى بدموعه الملوّنة ، ونزّ كتلاً من سائل كثيف على الأرض . ولكنها لم تستجب له . وقطّعت ، وفرّقت لحمه بكل آلة وأداة استطاعت التفكير بها .  حتى تبدّد الوحش ، وصارت هيئته ضبابية ، ثم اختفى ” .                                           
   وفقاً لربيكا سوتر ، فإن وظيفة المحلل النفسي والكاتب متشابه إلى حدّ كبير ، كلاهما يفسّر الواقع ” (9) . الكاتب والمحلل هاروكي موراكامي قادر على إعطاء معنى للقصص التي يرويها للناس لأنه قادر على منحها شكلاً سردياً . السرد الذي يخلقه موراكامي ضروري لفهم الأعمال اليومية والمشاعر التي تشعر بها كل من شخصياته من خلال تنظيمها بطريقة يجعلها في متناول قُرّائه . يوفّر الشكل السردي أيضاً بالتفصيل الكامل خلفية حياة كل شخصية من شخصيات القصص والروايات بحيث يشجّع القرّاء على تفسير حياتهم ، وسلوكياتهم اليومية وفهمها .  التحليل النفسي يمكن أن يساعدنا في فهم هذه القصص .  التحليل النفسي هو شكل من أشكال المعاينة والعلاج . يهدف إلى علاج الاضطرابات النفسية عن طريق التحقيق في العناصر الواعية واللاواعية من العقل البشري ، وكشف الدوافع وراء كل فعل وسلوك .
في هذه الأطروحة يتم التحقيق في اللاوعي من خلال التركيز على : الهو ، والأنا ، والأنا العليا ، وهي ( العناصر الثلاثة التي تتكون منها الشخصية ، بحسب سيجموند فرويد ) . هذه العناصر الثلاثة من العقل تتوسّط الصراعات بين الدوافع والأخلاق والعقل في عملية صنع القرار ، وعندما يكون هناك خلل في ما بينها سوف تظهر الاضطرابات النفسية مثل الفصام ، وثمة أمور يتم قمعها أو نقلها إلى اللاوعي ، لحماية العقل من الذكريات المؤذية ، والمشاعر الأليمة . ويعمل باحث التحليل النفسي على فهم سبب التوتر النفسي ، وتحديد تأثير التوتر على حياة الشخصية . 
   ” ( الوحش الأخضر الصغير ) : قصة يتجلّى فيها قمع الاغتصاب ، وفقاً لعالم النفس سيغموند فرويد . إحدى الطرق التي يتعامل بها البشر مع الصدمة هو قمع تفاصيلها عن الوعي ، أو نقلها من الذاكرة الواعية إلى اللاواعية . الذكريات في هذه الحالة لا تُمحى ، ولكنها لم تعد موجودة في العقل الواعي ، مّما يجعل من الصعب ، ولكن ليس من المستحيل ، تذكرها .                                                                                                                                             وفي قصة موراكامي هذه اختبار لذكريات اغتصاب مكبوتة ، لبطلة القصة ، وهي سيدة ، لم يطلق عليها المؤلف اسماً . من خلال زيارة قام بها وحش صغير في المنام ، أو الرؤيا .                                                                                                                                                                                                تبدأ القصة ، حينما كانت المرأة مستغرقة بتأمّل الشجرة ، حتى حلول الظلام ” حلّ الظلام قبل أن أعي ذلك ، لا شك أنني قضيت فترة طويلة هناك ” . وهنا ، إما خلدت المرأة إلى النوم ، ثم بدأت تحلم ، أو ربما انتابها حلم من أحلام اليقظة ، وفي مثل هذه الحالات سوف تتوفر الظروف المثالية لكي تطفح الذكريات المخزونة في اللاوعي . من الواضح أن المرأة كانت تنسحب من حواسها مع مرور الوقت من غير أن تدرك ذلك تماماً ، وفي ظرف مؤاتٍ أخذ عقلها يعدّها لمواجهة ” الصدمة النفسية ” التي واجهتها سابقاً ، من خلال وضعها في هذا الانسحاب ، واسترخاء الحالة العقلية ؛ في هذه الحالة الشبيهة بالحلم ، وهي لم تزل على استغراقها في التحديق إلى صديقتها القديمة ، الشجرة . هذه الشجرة تذكّرها بصديق لم تتحدّث معه منذ وقت طويل . بعد حلول الظلام ، شاهدت ”  ظهر بالقرب من بقعة الأرض المحيطة بأسفل الشجرة بروز للأعلى كأن هناك سائل غليظ ، وثقيل على وشك الاندفاع إلى السطح ” ، وتسمع المرأة صوت هدير الشجرة ، وهي تحاول اختراق الأرض . عندما يُنظَر إليها من منظور فرويد ، فإن الشجرة هي رمز قضيبي ، والسائل السميك ، الثقيل ، وهو يرتفع إلى السطح ، يرمز إلى القذف . عندما يتم إقران هذه الصورة القضيبية ، مع استعارة الشجرة ، التي ترمز إلى صديق قديم ، تتجلّى الصورة كاستعارة لجماع بين صديقين . يخلق الخوف الذي يحيط بالمرأة ، عندما تبدأ الشجرة في الظهور ، نبرة من الخوف والقلق ، تعكس شعور المرأة إذا تعرّضت للاغتصاب ” عيناي كانتا تنظران إليها ، ويداي صارتا قبضتين مشدودتين ، شيء ما سيحدث ، قلت في نفسي ، ولقد بدأ الآن ” . من الواضح أن الذاكرة التي تظهر على السطح ، من خلال صورة الشجرة هي ذكرى اغتصاب ، تعرّضت له المرأة ـ الراوية . وهي صدمة طفولة أيضاً . الراوية كانت في حالة نشوة ، عندما تصف الشجرة بالصديق القديم . فقد زرعتها منذ أيام طفولتها ، ورافقتها وهي تنمو وتكبر . ومن قاعدتها يخرج الآن وحش أخضر صغير . هذا المخلوق ، أشارت إليه على أنه وحش ، بمعنى شيء مخيف وشيطاني . الوحش ، هو نموذج الظل المكبوت في عقل الشخص ، والذي يتم تمثيله في الأفكار ، والأفعال الجنسية المرفوضة ، وغير المقبولة ، وهذا ما يفسّر ظهوره من العدم ، ويتصرّف من دون أن ترغب الراوية في ذلك . تصف الوحش بأنه يمتلك ذراعين ورجلين نحيلتين ، وردية اللون ، وتعلو جسده القشور الخضراء ، مع مخالب طويلة في نهاية يديه ورجليه . وهذا الوصف يدعم مخاوفها وقلقها ، بأن تجربتها الشخصية مع القضيب لم تكن لطيفة . وعندما يُنظر إلى الوحش كإنسان ، فإن مخالبه ترمز إلى السلاح الذي يسبّب الأذى ، مّما يعني أن الشخص أساء إلى الراوية وأضرّ بها بقضيبه ـ جعلها مُغتَصبة . لذلك سرعان ما أطلقت غضبها المكبوت ، في الحلم ، ورغبتها في تحطيم الوحش . وسيطرت عليه وبدأت في مهاجمته بكل طريقة تتخيلها . وبينما هي تعذّبه ، وتمزّقه ، ولا تستمع لتوسّلاته . كانت تصرخ به ، في داخلها ، قائلة : ” لا تكن سخيفاً ! أنت جئت زاحفاً من حديقتي . وفتحت باب بيتي دون إذن . تسلّلت داخله . لم أطلب أبداً حضورك ” . وتبدو هذه العبارات بمجموعها استعارات جنسية واضحة . وبهذا السلوك تكون الراوية قد تحرّرت من الضيق والألم الذي سبّبته تلك الذكرى المؤذية لها .                                                                 هنا قد يتساءل القرّاء ، هل هذا هو نهاية كل شيء ، أم أن الوحش سوف يعاود الظهور ثانية ؟ . لكن كاتبة هذه الدراسة تعتقد  أن هنالك فرص أخرى لعودته ، طالما كانت الشجرة تنتصب في الفناء الخلفي للبيت ـ والراوية ما فتئت تتأمّلها بين وقت وآخر ، وإذا ما تهيأت الظروف الملائمة للذاكرة بأن تطفو على السطح . ذلك لأن مغتصبها لم تتم ملاحقته قانونياً ، فغالباً ما تخشى الضحية عودة مغتصبها “(10) .                                                                                                                        
   يولي موراكامي أهمية كبيرة لعالم اللاوعي وصُوَره ، مدركاً أنه تأثّر في ذلك بالصداقة العميقة مع الدكتور كاواي هاياو ( ١٩٢٨ ـ ٢٠٠٧ ) أول محلّل نفسي أدخل علم النفس التحليلي في اليابان .
” العقل الباطن مهم جداً بالنسبة لي ككاتب . أنا لا أقرأ يونغ كثيراً ، لكن ما يكتبه له بعض أوجه التشابه مع كتاباتي . بالنسبة لي ، العقل الباطن هو أرض مجهولة . المحلّلون النفسانيون الآخرون دائماً ما يقومون بتحليل الأحلام ومعاني كل شيء . أنا أريد أن أفعل هذا . أنا أعتبر الحلم ببساطة ، في مجمله ، شيئاً كبيراً ” .
   في قصصه للأحلام أهمية بالغة ، وتظهر بشكل متكرّر ، وهي الوسيلة التي يمكن من خلالها للشخصيات فهم وتغيير الواقع في الداخل .  
   يسعى أبطال موراكامي إلى نشوة الحلم . ويمرّون به بخوف ، ولكن أيضاً بعزم ، مع العلم أن النزول إلى جحيم الحلم هو النموذج الأصلي الذي يسبق التحوّل . ” أحب قصة أورفيوس ، نزوله إلى عالم الموت ، الذي تدخل إليه على مسؤوليتك الخاصة ” . يتيح لنا الاتصال بعالم أحلام المرء أن نفهم في أي لحظة نحن في حياتنا ، والجوانب العلائقية التي ولدت الأزمة الحالية ، والمسار الذي يجب إتباعه لحل المأزق . 
    الكتاب الغربيون المفضلون لدى موراكامي ، مثل توماس مان ، وكافكا ، وفيتزجيرالد ، وغيرهم ، متأثرون إلى حد ما بنظرية التحليل النفسي  لفرويد ، وبعض هذه التأثيرات واضحة في إبداعاتهم الأدبية . نعم ، بعضها ضمني . على الرغم من أن كافكا كان لديه خلافات مع نظرية فرويد وحاول التعبير عن معارضته ، إلا أنه تأثر بشكل لا شعوري بنظرية فرويد في عملية البحث وانتقاد فرويد . وأخيرًا ، حتى كافكا نفسه أصبح موضوع تحليل نقاد التحليل النفسي . كان لتوماس مان علاقة وثيقة مع فرويد ، وقد تأثر بشدة بشخصية فرويد وروح الاستكشاف . قام توماس مان بالكثير من الأبحاث حول فرويد ، وكتب مقالة طويلة بعنوان “فرويد والمستقبل” و “مكان فرويد في تاريخ الفكر الحديث” ، مثمنًا بشدة الأدوار المختلفة لفرويد في الثقافة الحديثة. تحفته “الجبل السحري” هي تجسيد لنظرية فرويد . في الوقت نفسه ، ظهرت رواية “الجبل السحري” نفسها ثلاث مرات في “الغابة النرويجية” وهي إحدى الروايات المفضلة لبطل الرواية واتانابي.     
   إن عمل الكاتب والفنّان هو البحث عن طريق للوصول إلى مجال اللاوعي الخاص به وتحقيق العمق الذي يمكنه الحصول عليه ، وعليه إظهار ما يجده وتقديمه في شكل مناسب ، ليس لأجل إرضاء ذاته وحسب بل يجب أن يكون شيئاً مشتركاً بطريقة قوية وعميقة مع أولئك الذين يتلقونه على الأقل .                                                                                                      
              
 
 
                                                                                                                             
المراجـــــــــــــــــــــــع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ                                                                                                                (*) : Marcelo Veras, What psychonalysis talks about when it talks about running – Daniela Affonso ( pdf) ,uqbarwapol.com , 7, December,2019 .
(*) : J . P . Dil , Murakami Haruki And The Search For Self – Therapy , University of Canterbury , 2007 , ( pdf ) , p5 .
 (*) : المصدر السابق نفسه ، ص٦ .
(*) :  (التحليل النفسي العلائقي ) بالإنجليزية : Relational psychoanalysis)‏ هو مدرسة تحليل نفسي في الولايات المتحدة ، يؤكد دور العلاقات الواقعية والتخيلية مع الآخرين في الاضطرابات النفسية والعلاج النفسي .التحليل النفسي العلائقي هو مدرسة حديثة ومتطورة نسبيًا عن فكرة التحليل النفسي ، اعتبرها مؤسسوها “تحول نموذج فكري” في التحليل النفسي. ويكيبديا ، انترنت .                                                                                
(5) :   تاريخيا ، صاغ يوجين بلولر (علم النفس العميق (من المصطلح الألماني( Tiefenpsychologie )          للإشارة إلى مناهج التحليل النفسي للعلاج والأبحاث التي تأخذ اللاوعي في الاعتبار. تم قبول المصطلح بسرعة في عام اقتراحه (1914) من قبل سيغموند فرويد ، لتغطية وجهة نظر طبوغرافية للعقل من حيث النظم النفسية المختلفة.
علم النفس العميق يشير إلى التطور المستمر للنظريات والعلاجات التي
ابتكرها بيير جانيت وويليام جيمس وكارل يونج وكذلك فرويد ، والتي تستكشف العلاقة بين الوعي واللاوعي .                                                              
 (6)  : Matthew Carl Strecher , The Forbidden worlds of Haruki Murakami , university of Minnesota , minnepolis.london , p35 .
(7) : نفس المصدر السابق  ، ص ٣٦ .
(8) : هاروكي موراكامي ، الوحش الأخضر الصغير ، ترجمة مي أحمد ، إنترنت . 
(9) : Sara Ferreira , A Psychoanalytic Reading of Haruki Murakami ՚s “ The Little God՚s Children , Bridgewater State University , May,8,2018 , p6 – 12 .
(10) : المصدر السابق نفسه ، ص١١ .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *