أصابع العروس الأفغانية / قصة قصيرة

أصابع العروس الأفغانية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصة قصيرة
محمود يعقوب
« الدار قفرة ، والمزار بعيد » .
بمثل هذه الكلمات المقتضبة  ، ردّ ( نوّاف الحارس ) على سؤال  أحد الذين كانوا ينصتون له ، وهو يختتم الحكاية التي أثقلت أنفاسه ردحاً من الزمن .
في مقهى ( علّاوي ) ثمة حكاؤون من الطراز الأول . لا يباريهم أحد في أداء الحكاية . كل منهم يجلس في ركن من أركان المقهى ، وبين يديه حفنة مستمعين ، سارحين في خيالات عالم القصص المبهرة .
بين هؤلاء كلهم ، كان ( نوّاف الحارس ) فص ألماز يلمع متألّقاً في بهاء وضّاء ، وهو يجذب إليه الملأ الأكبر من روّاد المقهى ، الذين لا يطيب لهم سوى الإنصات لحكاياته ، والتلذّذ بعوالمها .
ما كان هؤلاء الرواة يُجزون بشيء عدا الشكر ، والثناء .
ولم تكن تلك الحكايات والسير مستقاة من كتب الأوّلين ، أو منقولة عنهم ، وحسب ، بل كانت من اختراعات مخيلاتهم ، واجتراح قرائحهم الموجِدة أيضاً .
« الدنيا حكاية ، ولابد لها من حكّائين » .
هكذا كانوا يردّدون . ولعلّ الله أودع في قلب ( نوّاف ) شيئاً من أسرارها .
كان يمضي الليالي حارساً ، ولكنّه يقعد من أول الصباح حتى المساء من دون عمل يذكر .
ذلك ما جعله يكرّس  مجمل ساعات يومه ، لتلك الحكايات الشيّقة ، التي ينتظر سماعها ، بفارغ الصبر ، الكثير من زبائن مقهى ( علّاوي ) . كانت قدراته من النوع الذي لا ينفع لعمل آخر غير رواية القصص .
« هؤلاء الرواة لا يوجد في أجسادهم شيء يعمل ، ما عدا ألسنتهم المرهفة » .
هذا ما كان يتهمهم به حسادهم على الدوام .
يختلف إلى المقهى منذ الصباح ، بقامته السامقة ، التي تميل إلى النحافة ، شيء ما . وهذا ما أكسب ظهره انحناءة خفيفة ، وجعل ثوبه الرمادي الداكن يخفق بصوت مسموع ، أثناء تخبّط ساقاه الطويلتان عند المسير .
لم يخلع السترة عن كاهله حتى في أيام القيظ ، بدونها سيلوح مثل جذع شجرة عالية جُرِدَت من أوراقها . ولكنّ الوجه الذي اعتلى تلك القامة العالية ، كان نحيفاً وبارداً ، وفي ذلك الوجه تكشّفت مسحة روحية واضحة ، ربما كان مبعثها شرود النظرات الساجية ، وشحوب الجبين ، والتجعيدان اللطيفان ، اللذان يقيمان عند الفم ويحرسانه بعذوبة .
اعتاد أن يجلس في ركن من المقهى ترتفع فيه ، أعلى رأسه تماماً ، ثلاث صور مؤطّرة ، متوسطة الحجم ، لفتاة قاهرة الجمال ، أطلقوا عليها اسم ( بنت المعيدي ) ، وأجمعوا على أنّها آية من آيات الجمال الطبيعي ، الأسطوري . وتلك الفتاة أشيع أنّ أحد ضبّاط الإنكليز تولّع وهام بها إلى حدّ الجنون حتى لم يجد   في النهاية مفرّاً من الزواج منها ، وهو يستنجد بأعيان البلاد ووجهائها من أجل ذلك . ثم ما لبث أن رحل بها إلى بلاده البعيدة ، مخلّفاً وراءه تصاويرها الجميلة ، وقد زيّنت جدران كل مقهى ، وبيت !.
كان يجلس عادة بميلان طفيف إلى ناحية اليسار ، وركبتاه ناتئتان تحت ثوبه ، في حين ينحني رأسه قليلاً . ولجلوسه بهذه الهيئة الوديعة ، الساكنة ، فإنما يوحي بأنّ ثمة اعتمال في أعماقه لأحاديث جمّة . كان الرجل ينصت إليها بعمق ، مطرقاً ؛ وقد يتحرّك قليلاً ، ولكن في جميع حركاته تكمن هنالك الثقة بالنفس ، والعفويّة ، بينما جبينه يتغضّن ، وينبسط ، في حركات متوانية تنم عن انشغال الفكر .
   عندما يتأهب ( نوّاف ) للروي ، يسكن لغط المقهى في الحال ، ويدنو إلى مجلسه مزيداً من الجلّاس ، وفي أثناء ذلك لا يسمع في أركان المقهى سوى صوته ، وأصوات ارتشاف الشاي من الأقداح .
الملفت للأذهان أنّ صوته لم يكن صادحاً ، كأصوات القصّاصين الجهورية . كان صوتاً خافتاً تتهدّج أوتاره حينما يستغرق طويلاً في إلقاء حكاياته ، وينطلق كما لو كان يغالبه خجل .
   برع ( نوّاف ) في مقهى ( علّاوي ) حينما واضب على رواية حكايات آسرة ، مستمدة في معظمها من حكايات ألف ليلة ، تلك الحكايات التي طبعت وجوده في المقهى .
أحياناً يلتقط في حكاياته قصصاً عن حوادث غابرة ، طواها الدهر ، والنسيان ، وقد اندثر شخوصها ، ومحي ذكرهم ؛ وفي تلك الحالة لا يلبث أن يقاطع حديثه بعض مستمعيه ، وهو يسأله قائلاً :
« ما هو عمرك بالضبط ؟ » .
« أناهز الخمسين » .
فيتلفت هذا ، ويهمس في أذن جاره قائلاً :
« ولكنّه يلوح لي قد جاء إلى الدنيا برفقة نوح » .
بالنسبة لرجل مثله مترعاً بالقصص والحكايات ، ومدعماً بمعارف شعبية متباينة ، لا بدّ وأن يلوح لروّاد المقهى أكبر سنّاً في مظهره .
في واقع الأمر كان ( نوّاف ) لا يستسيغ الإمعان في الروايات الواقعية . ظلّ الرجل يتشبث بخياله الخصب ولا يفلته . في ذلك الخيال كان يكمن عالمه الجميل  ، الذي يستنبط منه ألذّ الحكايات ، وأجملها .
طالما سأله صديقه ( عباس العجمي ) عن سبب ذلك . فكان ( نوّاف ) يجيبه بتلقائية خالية من التكلّف ، وهو يقول له :
« أنا أكره أن أستعير أشياءً جميلة ، وأعود ثانية لأقدّمها هدية للآخرين » .
غير أنّه لا يميل ، في أغلب الأحيان ، عن اعتبارات أذواق مستمعيه ، فيُسمعهم حكايات ما بين بين ، كما يقول ، نصفها واقعي ، ونصفها الآخر خيال محض . ولكنّها عموماً تورث التقطيبات ما بين عيون السامعين .. العيون التي تضيق تائهة في دهشتها ، بين دخان المقهى وعطر الشاي! .
لم تكن حكاياته جافّة ، أو مملّة . كانت حكايات نبعت في غالبيتها من تأملاته الاستبطانية ، حتى ليمكن القول ، في نهاية الأمر ، إنّ جلّ تلك الحكايات هي حكايات استبطانية ، لامست أحاسيس جلّاسه بدفء ، ونفذت إلى قلوبهم سريعاً . إنّها إبداعات من باب السحر ليس إلّا .
لا غرو أنّ ( علّاوي ) ، صاحب المقهى ، والذي نادراً ما كان يقحم نفسه في أحاديث ضيوفه ، أو مداعباتهم ، ومشاكساتهم ، والذي كان يكتفي في أغلب الأوقات بنثر ابتساماته الأنيقة ، التي تمتزج فيها كل معاني الضيافة ، والارتياح ؛ ولكنّ حين يشرع ( نوّاف ) في أحاديثه ، يسرع لينسلّ بخفة نحوه ، ويجلس شامخا على مسند تخت جانبي قريب ينصت بين يديه .
   كانت طريقته في إلقاء الحكاية طريقة شاردة ، كأنّه يتخاطب مع أرواح هائمة في الهواء ، تتمايل أمامه مباشرة . أثناء الحكاية يلوح  رجلاً حالماً ، يكتنف  نظراته  ، وشاربه النحيل الكثير من الغموض .
وعلى الرغم من أنّه لم يحض ، ولو ليوم واحد ، بالشهرة بين قصّاصي المقاهي في المدينة ، إلّا أنّه يظلّ حكّاءً لا يباريه أحد ، وفي واقع الأمر لم يسع الرجل إلى تلك الشهرة ، التي ألهبت حماس ، ومشاعر القصّاصين من أمثاله ، وإن كان أحق بها من غيره .
كانت سحابة حزن شفيف تغمر صفحة وجهه ، ولكن حضوره بين هؤلاء الأصحاب ، لساعات طويلة ، من شأنه أن ينسيه الهم ، والغم .
وفيما عدا أحاديث المقهى تلك ، فإنّ مرأى ( نوّاف ) ، بسكينته ، وصمته ، لا يشغل بال أحد. كان يمضي ، ويعود ، كما لو أنّه شخص مغمور، وكان مغموراً بالفعل .
كان يروي لهم فصلاً من حكايته ، ثم يرفع نحوهم عينيه الوديعتين ، المفعمتين بشتى الأحاسيس ، بينما تظلّ قسمات وجهه متوتّرة . ينظر سريعاً كأنّه يتحسّس ردود أفعالهم قبل أن يعود لسرد حكايته .
حين يفرغ من الرواية ، يسكن ويغور في ذاته ، فيعلو وجهه السهوم ، وتبدو صفحة وجهه مثل وجه عليل ، ويذبل كل شيء فيه . ثم يستّل سيجارة واحدة ، مخبئة في جيب سترته العلوي ، الصغير ، ويدخنها بصمت مطبق . لم يتسنّ لأحد أن يفهم مكنون صمته .
بينما يروح البعض ممن أسرتهم تلك الحكاية ، وسحرت قلوبهم ، ينظرون إليه ، محدّقين فيه بشيء من التناغم الصامت .
                                                                                                     ֍ ֍ ֍
   في طقس يومي مألوف ، لا مناص منه ، اعتاد الناس في المقاهي آنذاك ، الاستماع إلى نشرات الأخبار عبر أجهزة الراديو ، ولا سيّما نشرة أخبار الصباح . وأثناء إذاعة النشرة كانوا يطلقون العنان لأصوات الراديوات ، بينما يتسمّرون وهم ينصتون كأنّ على رؤوسهم الطير .
كانوا ينصتون بإمعان ، على الدوام ، كأنّ الدنيا في خطر داهم ! .
وهكذا كان الحال في مقهى ( علّاوي ) أيضاً ، إذ درج روّاده الاستماع إلى إذاعة ( صوت لندن بالعربية ) أثناء نشراتها الرئيسية . وما أن ينتهي المذيع من تلاوة أنبائه حتى يُغلق الجهاز في الحال ، وتسدل فوقه قطعة قماش حريرية زرقاء ، تحفظه من الغبار.
كان ذلك الطقس ذا مسحة ثقافية في جميع المقاهي ، حيث يستمع الجميع بخشوع ، وترقّب ، ولربما يسعى البعض منهم فور الفراغ من نشرة الأخبار إلى إثارة أسئلة شتّى حول ما يسمعونه ، بينما يبادر البعض الآخر إلى خوض نقاش سياسي فائض ، مبعثه موضوعات الأخبار التي أنصتوا لسماعها  .
ذات مرّة ، استغرق المذيع في تفاصيل سياسية ، عن مملكة أفغانستان ، وعن ملكها آنذاك
( محمـد ظاهر شاه ) .  وبينما ( نوّاف ) كان يصغي بكامل يقظته إلى تفاصيل الخبر ، سرعان ما ضرب فخذه بباطن كفّه ، ضربة مدوّية ، وتأوّه من قعر أحاسيسه ، وتخضّب رمشاه ببريق من الدمع ! .
مثل هذه الحركة الغريبة لابدّ أن تجذب انتباه جميع من كان يجلس في الجوار ، بينما تبسّم صديقه ( عباس العجمي ) في أسى ، وطأطأ رأسه إلى الأرض .
همس أحد الجالسين إلى جواره يسأله :
«  لمَ يتأوّه صاحبك هكذا ؟  » .
فأشار ( العجمي ) بيده إلى الراديو من غير أن يزيد على ذلك بحرف واحد ؛ ومضفياً على الجو غموضاً أكثر .
   توطّدت صداقة ( نوًاف ) مع ( عباس العجمي ) بوثاق أشدّ من أصحابه الآخرين ، ربما لأنهما كانا جارين متحابين ، عاشا طويلاً جنباً إلى جنب .
كان ( عباس العجمي ) يعمل سقّاءً ، يخدم زبائنه في محلة ( الحمّام ) . يحمل صفيحتين معدنيّتين ، تتدلّيان من خطّافين مربوطين بجذع شجرة ، متوسط السمك ، وبطول أربعة أذرع ، من الخشب الصلب ، يحمله الرجل على كاهله ، وهو ينقل الماء العذب  من بضعة آبار معروفة في هذه المحلّة ، إلى المقاهي ، والمطاعم ، وبعض البيوت . عندما يكون متفرّغاً من العمل يضع سقاءه إلى جانب المقهى ، ويجلس يحتسي الشاي ، ويثرثر مع ( نوّاف ) وصحبه ، وهو يرفع ذيل ثوبه المبلول على الدوام ، كاشفاً عن ساقين نحيفتين ، ولكنّهما كانتا صلبتين ؛ وطالما أمسك الأصدقاء ، الجالسين برفقته ، بهذين الساقين ، يروزونهما ، في نوبات من المرح ، والمزاح ، وهم يقولون :
« هاكم ، انظروا إلى العظم العجمي ، كيف قدّ من الحديد الصلب ؟ » .
ولأنّه من أقرب الناس إلى ( نوّاف ) ، وأدرى من الآخرين بشجون حياته ، إذ درج الآخرون يقولون عنهما أنّ سرّهما واحد ؛ لذا راح أصحابهم ، عندما يرومون السؤال عن ( نوّاف ) ، وعن أحواله ، أن يتوجّهوا مباشرة بهذه الأسئلة إلى صاحبه   ( العجمي ) ، الذي لم يكن يبخل بالإجابة عن تساؤلاتهم .
فلا غرو إذن أن يهمس أحد الشبّان المتحمسين ، الذي انضمّ إلى مجلسهم ، في أذن   ( عباس العجمي ) متسائلاً عن  سرّ ( نوّاف ) ، وهو يسمعه متأوهاً .
انتهت نشرة الأخبار ، وأغلق المذياع ، وعاد الجميع لينشغلوا في أحاديثهم . غير أنّ ذلك الشاب عاد ليلحف ثانية بسؤاله في أسماع ( العجمي ) ، الذي كان بكل ملامحه الفارسية الطاعنة قد انشغل يردّد ، بصوت خافت ، لحناً من ألحان ( محمـد عبد الوهاب ) ، ولم يعبأ بذلك السؤال ، الذي يمس أسرار صاحبه .
تغاضى ( العجمي ) عن سؤال الشاب ، في محاولة لصرفه عن معرفة الجواب .غير أنّ هذا الشاب اللحوح لم يهدأ له بال ، وقد هجس أنّ ثمّة سرّ كامن وراء ذلك كله ، فعاد يهمس في أذن ( عباس العجمي ) ثالثة ، ورابعة ، بفظاظة ، وهو يقول له :
« عباس ، لمَ تتهرّب من سؤالي ، هل هنالك سرّ تكتمه عني ؟ » .
لقد نجح فعلاً في تعكير مزاج ( العجمي ) ، الذي صاح به :
« يا ابني لماذا تلحّ علي هكذا ، هذا ( نوّاف ) وأسأله ، هل أنت تخجل منه ؟ » .
« ما بكما ؟ » .
سأل ( نوّاف ) على الفور ، وهو يحدّق في كليهما .
« يريد أن يعرف لمَ تأوّهت فور سماعك ذكر أفغانستان في المذياع » .
قال ( عباس العجمي ) ذلك ، وهو يهز يده هزّة دائرية ، استنكاراً لهذا السؤال . ثم ما لبث أن أمعن في استنكاره ، وهو يقول  :
« يسأل عن النغل من هو أبوه ! » .
أطلق ( نوّاف ) ضحكة حزينة .. ضحكة من بكاء مُر ، ثم صمت زامّاً شفتيه .
سارع أحد الجالسين برفقتهم ، وكان على ما يبدو ، على دراية بأشياء تتعلّق بذكر أفغانستان ، فقال يخاطب ( نوّاف ) :
« لتحكِ لنا يا نوّاف هذا اليوم حكاية الأفغان ، أنا في شوق لسماعها ، وأنت طالما تتكتّم عليها ، وتتهرّب منها » .
هبّ ( عباس العجمي ) معترضاً :
« لا تنكأ جراحه يا رجل ، دع عنك تلك الحكاية القديمة الميتة » .
« وهل نوّاف طفل تخشى عليه من بلل الكلمات ؟ » .
« والله أنتم تنبشون الميت من قبره ، ولا يرتاح لكم بال حتى تغمركم جيفته » .
في الحال تآزر الجمع الملتف حول ( نوّاف ) ، يلتمسون سماع تلك الحكاية الأفغانية ، التي لاحت لهم سرّاً من الأسرار الدفينة ، سيّما وهم يشاهدون ( العجمي ) يحاول جاهداً أن يصرف انتباههم عن هذه الحكاية . بينما حاول ( نوّاف ) أن يقلّل من شأنها ، ويسوق لهم حكاية أخرى ، فقال لهم بشيء من الإغراء :
« سأحكي لكم حكاية لم تسمعوا بمثلها من قبل ، ولم ترد في أي كتاب من كتب الحكايات القديمة ، والحديثة أيضاً » .
« ما هذه الحكاية يا نوّاف ؟ » .
سأله على الفور ( عباس العجمي ) ، في محاولة منه لمساعدته في تشتيت أذهان أصحابهم عن حكاية أفغانستان .
« حكاية الأربعين حرامي ، من هم ، ما هي أسماؤهم ، من أين جاءوا ، ما هي حكايتهم ، ولماذا هم أربعون بالضبط  ، وكيف جمعتهم الصدف ؟ » .
نهض أحد الجالسين ، في فورة من الانفعال الجامح وقال له :
« دعْ هذه الحكايات السخيفة لأطفالنا يستمتعون بها ، وهات بما عندك من حكاية الأفغان » .
« ولكنّها مجرد حكاية عابرة لا شيء مثير فيها » .
« يا أخي ، مهما كانت تلك الحكاية فلا تبخل بها علينا » .
« صدّقوني إنّها حكاية شخصية ، وليس فيها ما يمتعكم » .
« ولو ، ولو ، هل نحن غرباء عنك يا نوّاف » .
شرعوا يحاصرونه بعيون متوسّلة ، وكان يخبر جيداً كيف تتغلغل في دمائهم حرقة الرغبة العارمة في سماع الأشياء التي تتعلّق بخصوصيات الآخرين ، كان فضولهم أشرس من الدغل ، وهو ينتق من تحت الأرض ! .
لذلك سرعان ما استسلم لرغبتهم اللحوح ، ولكنّ قلبه راح يكتوي بنيران الذكرى الحارقة ، فعاد يضرب فخذه ، ويهتف :
« ويلاه .. ويلاه ! » .
أرخى جفنيه ، وشرد بنظراته ، وراح يروي :
« كان بعض الأفغانيين ينزلون إلى ضواحي مدينتنا ، في أوائل موسم الربيع ، ويستقرون هنا أياماً معدودات ، وهم يضربون أقبية صغيرة ، مصنوعة من الجوت ، يؤون فيها . في حين يكون أقرانهم يجوبون مدناً أخرى في جنوب البلاد ، ولم يكن أحد يهتمّ بالسؤال عن كيف يتسلّل هؤلاء عبر الحدود ، وهم يقطعون مسافات خيالية سيراً على الأقدام ! .
ولكنّ مّما لا شك فيه أنّ هؤلاء كانوا يعبرون الحدود بعمائمهم البيض ، وفقرهم المدقع ، من أجل كسب شيئاً من الرزق وحسب .
كانوا يحملون معهم بعض المؤن ، التي يسعون إلى مقايضتها بأخرى مع سكان المدن أو الأرياف ، والبعض منهم كان حدّاداً يعرض خبرته مقابل أجراً زهيداً ..
كانت الأمهات يحذرن أبنائهن أشدّ التحذير للحيلولة دون اقترابهم من الأفغان ،  خوفاً من اختطافهم ، ولكنّنا في واقع الأمر لم نسمع بطفل جرى اختطافه لا من الأفغان ولا من غيرهم . إنهن النساء ، كن يقولن ذلك ، بينما هنّ كن بانتظارهم ، وهن يسألنهم عن الفصوص ، والخرز الثمين ، على الرغم من أسعارها الباهظة ! .
صادف أن التقيت في أحد هذه المواسم برجل أفغاني ، من هؤلاء الوافدين .
كان رجلاً قد تخطّا عمر الشباب ، ذا لحية ناصعة البياض تشعّ في وجهه الأحمر ، وكان دائم الابتسام . كان في حوزته ثلاثة أحجار كريمة ، من حجر ( القمر ) الراقي ، ، هذا الذي ندعوه نحن بحجر العشاق . تعلّق قلبي بواحدة من هذه الأحجار ، وكانت بيضاء ، تشعّ جمالاً. لها وميضاً هادئاً ، وسحرها لا يقاوم . رغبت رغبة جارفة في اقتنائها ، وأنا أدرك أهميتها الروحية في جلب الحبيب .
غير أنّ الرجل تمسّك بسعرٍ عالٍ لأجلها ، وراح يصرّ على ذلك السعر على الرغم من توسّلاتي .
عندما استقرّ اتفاقنا في نهاية الأمر  عند سعر معين ، وعدته بأنّني سألتقي به عند العصر ؛ إذ لم أكن ساعتها أحمل معي ذلك القدر من المال .
سألته أين يمكنني أن أعثر عليه عصراً ، فأجابني بأنّه يبقى في مكان إقامته وقت العصر ولا يبرحه ، ودلّني على ذلك المكان في ضاحية قريبة من ضواحي المدينة .
كان صفاء الحجر وجماله الأخاذ قد جعلا هوسي به يحتدم ، وما أن قفلت عائداً إلى منزلي حتى فزعت إلى أحد أصدقائي الميسورين ، وأخبرته بحاجتي إلى المال .
في عصر ذلك اليوم ، كنت في ضاحية المدينة ، أبحث عن الرجل الأفغاني .، وقد تيسّر لي العثور عليه من غير مشقّة . وجدّته وقد رفع عمامته إلى أعلى رأسه ، كاشفاً عن جبين عريض ، وراح يهذّب حاجبيه بمقص صغير . بدا منظره لطيفاً ، كان يشبه حمامة بيضاء تنسل ريشها . أسرع الرجل ليستقبلني ببشاشته .
كان يعلم جيداً إنّني سأعود إليه ، وكان بانتظاري . أجلسني إلى جوار قباء ، ثم غاب في داخله ، وعاد يحمل خرقة صغيرة ، بيضاء ، فتحها أمام عينيّ لأجد فيها بعض الحلوى ، وطلب منّي أن أتناول شيئاً منها ، ارتحت لمثل هذا الكرم المتواضع . ما لبث أن جاءني بالحجر ، وأسرعت أعد له النقود .
يبدو أنّ الرجل قد خال بأنّني على سعة من حالي ، ويمكنني شراء المزيد مما كانوا يتاجرون به . فبينما نحن لم نزل في معرض حديثنا عن الأحجار الكريمة ، وأنا أدقّق نظري في تلك القباء ، التي تحيط بنا ، إذ طلب منّي أن ألقي نظرة على الملابس والأقمشة التي تعرضها للبيع زوجته ، كانت دهشتي عظيمة أن أرى امرأة  قد اصطحبت زوجها عبر تلك المسافات البعيدة .
بعد دقائق ، انشقّ قباء صغير بجوارنا عن جسد امرأة ، مجلّلة بالكثير من الملابس ، والأوشحة ، ذات الألوان الصاخبة ، ولكن على الرغم من ذلك كان بإمكاني أن أرى ملامح الجمال الذي لا تخطئه العين . شرعت تجرجر جوالاً من الجوت ، مليئاً  . ثم جلست وفتحته . أشارت إلينا أن نلقي نظرة على بضاعتها .
كانت المرأة تعرض ملابس وأقمشة نسائية ، أغلبها صنعت من التور ، والحرير الأفغاني . راحت تستعرضها قطعة ، قطعة ، ولكنّها بألوانها الفاقعة تلك ، لم تكن تلاءم سوى الأذواق الريفية ، كما تهيأ لي .
كانا يجيدان نطق الكثير من الكلمات ، والعبارات العربية . سألت الرجل :
« كيف تعلّمت الكلام العربي يا أخ ؟ »  .
« نحن نأتي في كل موسم منذ خمس سنين ، وزرنا العديد من الأماكن في جنوب العراق » .
وبينما كنت أعاين تلك الأقمشة ، وأسأل المرأة عن أسعارها ، أطلّت علينا من القباء ، صبية لم تقع عيني على مثيل لها . كانت مثل سيف نار أحمر ، شقّ القباء وأخترق صدري ! .
كان التفّاح يختال في وجنتيها ، يا لها من فتاة ، وحق العرش لا يوجد جمال بمثل جمالها في هذا الكون أبداً .
توقّف ( نوّاف ) عن الحديث هنيهة ، وقال ، وهو يشير بسبابته إلى صورة ( بنت المعيدي ) ، المثبتة على جدار المقهى ، خلفهم تماماً :
« انظروا إلى هذه ، كم يبهر جمالها الأنظار ، ولكنّها لا تساوي شيئاً حيال جمال تلك الصبية .
خرجت من القباء ، وجلست إلى جنب أمها ، ولم تلبث أن نظرت إلي نظرة جعلت التفاح يبتسم في مهجتي ، ويفوح عطره . في تلك اللحظة العابرة ، همت فيها هياماً لا حدود له . وقد أدركت الفتاة ذلك سريعاً ، من خلال ارتعاش يدي ، وتهالكي ، وذهول نظرتي .
أشرقت في وجهها الخمري عينان خضراوان بلون اليشب . أبهجني لونهما بسحره ، ورحت أرى الدنيا بأكملها ، في ذلك الأصيل ، بلون أخضر ، كأنّما صارت عيناي حديقتين . في ذلك المساء رجعت إلى منزلي مضطرباً ، محموماً .
   حينما أويت إلى فراشي ، ظلّت عيناي مشبوحتين طوال الليل . باتت وسادتي  خضراء ، وسريري تفوح منه رائحة التفاح ، وأنا لا أشتهي النوم . كنت حائراً فقط بما ينبغي علي فعله  في ذلك الوقت .
في اليوم الموالي ، سارعت لاقتراض النقود مرّة أخرى  ، وعجّلت في زيارة أولئك الأفغانيين . وأنا عازم على شراء بعض الأقمشة منهم ، لا لشيء إلّا لأجل أن ألتقي بتلك الصبية ثانية .
جلست طويلاً معها ، ومع أمها ، أقلّب الأقمشة على مهل ، وعينيّ لا تفارق عينيها ، ومن وقت لآخر أنطلق مثرثراً معها .
عندما انشغلت أمها بعمل ما ، سنحت لي فرصة الاختلاء معها ، ولم أفرّط بتلك الفرصة ، فأنا أعلم أنّ الأفغان على رحيل . أسرعت أقول لها ، وقد تسلّحت بجرأة لم أعرف مثلها من قبل :
« أنا أحبك يا صبية » .
جفلت الفتاة جراء تفاجئها ، ولكنّها عادت لتبتسم ، وتقول لي :
« ولكنّنا راحلون بعد ثلاثة أيام ؟ » .
« لا يهم ، سألحق بك إلى أفغانستان ، سأتزوج منك يا بنت » .
امتقع اللون الخمري في وجهها ، وغامت السماء فوق العشب الأخضر في عينيها .
   اقترضت النقود من كل أصدقائي ، وأنا أتردّد على مخيم الأفغان الصغير ، صباحاً ومساءً ، إلى حدّ أثرت شكوكهم جميعاً . ابتعت الكثير من تلك الخرق ، التي كنت أتخلّص منها وأرميها إلى النهر ، أثناء عودتي منهم ، غير أنّهم ما فتئوا يعرضون علي جميع ما يحملون معهم .
أرادوا بيعي حتى السكاكين التي يتسلّحون بها في دروب مسيرهم ، لعلمهم أنّني همت حبّاً بابنتهم .
أحبتني الفتاة بدورها ، ولكنّها كانت أسيرة الخوف ، والتردّد ، لم تكن راغبة في أن تبوح بذلك الحب . عرفت اسمي ، وعرفت اسمها . صارت قطعة من روحي ، وهمت بها بجنون ، ولم أعد أقوى على فراقها . مكثوا في مدينتنا وقتاً قصيراً جداً .وقبل رحيلهم بيوم واحد ، دلّني عقلي المسلوب إلى جمع متاع ، وهدايا لهم . ولم يكن سوى منزلي يمكنني أن أتزوّد منه بمثل هذه الأشياء . بدأت أجمع كل ما تطاله يداي في البيت ، وعند العصر ، تسلّلت إلى الأفغان ، وأنا أحمل على كاهلي كيساً مليئاً بأشياء لا حصر لها .
رحّب الأفغان كثيراً بتلك الهدايا ، وتناوبوا على شكري ، وأعدّوا لي شاياً لذيذاً على طريقتهم الأفغانية .
أمضيت وقتاً طويلاً برفقتهم ، وتيسّر لي أن أختلي مع الفتاة لحظات قصيرة ، فأسرعت أقول لها ، هامساً :
« الليلة سأوافيك إلى قبائك ، لأسهر معك سهرة الوداع » .
شهقت الفتاة ، وحدّقت بي بعينين جاحظتين ، وقالت بنبرة متوسّلة :
« كلا .. كلا ، إيّاك أن تفعل مثل هذه الأفاعيل » .
« ولكن ليس بيدي حيلة أخرى ، فالليلة ليلة وداع ، وقد لا نلتقي ثانية » .
أرادت أن تردّ علي ، ولكنّني ابتعدت عنها في الحال ، إذ أقبلت والدتها ، خارجة من القباء .
ودّعتهم جميعاً ، وتمنيت لهم رحلة موفّقة .
في ذلك اليوم ، أطبق علي جنون العشق ، فقدت توازني ، ولم أعد أمسك بزمام نفسي . كنت على أهبة الإقدام  على أي عمل أهوج ، طائش ، يمكنه أن يطفئ سعير مشاعري المتأجّجة .
عدت إلى المنزل زائغ النظرات ، متكدر الروح ، وأشغلت نفسي لساعات في الاستحمام ، والتزيًن المفرط ، ثم ارتديت ثوباً فاخراً ، ابتاعه لي والدي منذ بضعة أيام فقط .
فكّرت مليّاً بشأن ذهابي إلى قباء الصبية ليلاً ، واستعدت له مسبقاً ، غاية الاستعداد .
حينما جنّ الليل ، وأوى الجميع إلى منازلهم ، أسرعت لأخرج صندوقاً صغيراً ، كنت أخفيه تحت سريري . فتحته وأخرجت منه طاقية . وقفت في وسط غرفتي ، أمام المرآة مباشرة ، واعتمرت الطاقية على رأسي ، ونظرت طويلاً إلى نفسي . نظرت من الأمام ، ونظرت من الجانبين ، ثم استدرت إلى الخلف ، ولويت رقبتي متفحصاً قفاي ، وأطلقت زفرة عميقة . لم يعد باستطاعتي رؤية أي شيء من جسدي ، الذي اختفى تماماً تحت طاقية الإخفاء تلك .
في تلك اللحظات ، ارتعش أديم جسدي جراء إحساس فريد من نوعه لا أعرف كنهه بالضبط ، فهذه أوّل مرّة أنظر في المرآة ولا أرى صورتي ! .
   حينئذٍ فقط ، فزّ جميع من كان يستمع إلى ( نوّاف ) من استغراقهم الطويل وهم ينصتون إلى حكايته .. فزّوا مرعوبين من هول هذه الكذبة ، التي هالها ( نوّاف ) على رؤوسهم كما لو كان يهيل تراباً ! ..
سرت على وجوههم غمامة ، وهم يسمعون بطاقية الإخفاء ، وكان ذكرها بمثابة عاصفة هوجاء ضربت الحكاية وقذفت بها بين تخوت المقهى ! .
« ماذا اعتمرت يا نوّاف ؟ » .
« طاقية إخفاء » .
« قلْ غيرَ هذا يا رجل ! » .
« كلا ، لا أقول ، إنّها طاقية إخفاء بحق » .
وتيسر له أن يسمع رجلاً يجلس في طرف التخت ، البعيد عنه ، وهو يسأل جاره قائلاً :
« أتراه أخذ يلحن في الحديث ؟ » .
« ليست دعابة يا أخوان ، وليست لحناً ، قلت لكم بأنّني اعتمرت طاقية الإخفاء ، وهذه هي الحقيقة » .
غالباً ما كان ( نوّاف ) ، في حكاياته السابقة ، يضيف منعطفات جديدة لحكاياته ، لأجل أن تطول الحكاية أولاً ، وتكتسي بثوب الجاذبية البرّاق ثانياً .
كان ( عباس العجمي ) يدرك هذه الحقيقة أكثر من غيره ، ولهذا سرعان ما وجد نفسه يتدخّل في ما يبدر عن البعض من احتجاج ، وتبرم ، وقال ينصح ( نوّاف ) :
« دع عنك كل هذه السفاسف ، وامضِ في روايتك بواقعها الحقيقي الذي جرت فيه . احكِ لنا ما حدث بينك وبين الصبية ، وابتعد عن الشعوذة » . 
« بأي قسم تريدون أن أقسم لكم ؟ .. إنّني جاد فيما أقوله ، لماذا أثارت طاقية الإخفاء حفيظتكم سريعاً ؟ .. لقد صنعتها بنفسي ، وكل واحد منكم يستطيع أن يصنع مثلها  لو شاء ذلك » .
ضجّوا ضاحكين ، والتفت إليه ( عباس العجمي ) محذّراً :
«ألم يكن بوسعك أن تبعد ذيل الشيطان عن الحكاية ؟ » .                                                                                                                                          وتساءل أحدهم :
« أين المنطق في كلامك يا رجل ؟ » .
بينما انبرى رجل آخر ، وهو يشير عليهم بالهدوء ، ويقول :
« أرجوكم دعوه يرشدنا إلى صنعها الآن وقبل أي وقت ، هيا يا نوّاف »  .
« الأمر سهل وصعب في ذات الوقت ، فأدوات السحر متوفرة بين أيدينا دائماً ، ولكن أنّى لنا أن نخلق منها سحراً حقيقياً ، لأن عملها يتطلّب انسجاماً روحانياً خالصاً ، وإيمانا مطلق بأرباب العمل ، ومحفزاته . وأخطاء هذه الأعمال السحرية جسيمة ، ولا تغتفر ، لأنّها قد تلحق بك ضرراً بليغاً ، هذا إذا لم تردي بك إلى الجنون » .
« شوّقتنا إلى صنعها ، ولكنّك لا تستطيع أن تخيفنا يا نوّاف » .
« سأقول لكم كيف تصنع ، ولكن هيهات ، هيهات على جهلاء ، وحمقى مثلكم أن يفلحوا ، ويفوزوا بها » .
زفر ( نوّاف ) ، وتمتم بصوت خافت :
« ما أسرعكم إلى الإعابة ! » .
ثم رفع رأسه ، وهو ينظر في عيونهم ويقول :
« اسمعوا ، إذا أردتم أن تذهبوا في جميع الطرقات ، أو تدخلوا الأماكن ، والمحلات ، من غير أن يراكم أحد ، تأخذون جلود سبع حرباوات كبيرة ، تسلخونها ثم تتركوها لتجف تحت أشعة الشمس الحارقة ، من فصل الصيف ، في مطرح طاهر ، وبأيادً طاهرة ونظيفة . ثم تخيطونها إلى بعضها بخيط دقيق ومتين ، في عناية وإتقان ، حتى تبدو قطعة واحدة ، وتجعلوا منها طاقية . ثم تكتبوا في دائرتها آية ، وفي وسط الطاقية الإضمار ، على أن يتم ذلك والبخور مطلق العنان . ثم تقرؤون الدعوة إحدى وعشرين مرّة . وإذا ما انتهيتم من ذلك البسوا الطاقية ، واذهبوا أينما شئتم ، فإنّها تخفيكم عن الأنس والجن معاً . وإذا أراد أي منكم أن يعود إلى الظهور ثانية ، ما عليه سوى أن يخلع تلك الطاقية عن رأسه . ولكنّني أعود لأوكد لكم أنّ الإيمان بروح السحر شيء أساسي في العمل ، وهو مما لا يتيسر للجميع .
وهنا ثارت ثائرة البعض منهم ، وضحك آخرون باستغراق حتى كاد يغشى عليهم  ، وأسرع أحدهم يقول :
« ما هذه الترهات التي تتحدث عنها يا نوّاف ؟ » .
بينما تساءل آخر بشيء من العقلانية :
« لماذا تحدّد أرقاماً بعينها في روايتك هذه ، فتقول سبعة جلود ، وتقرأ الدعوة إحدى وعشرين مرّة  ؟ » .
استحسن ( نوّاف ) هذا السؤال ، الذي طبعه شيء من الجد ، وأسرع ليجيب قائلاً :
« كل شيء لدى الروحانيين محسوباً حساباً دقيقاً ، ومحكوماً بالتمام والكمال ، فأسرار الرقم سبعة في حياتنا لا تعد ولا تحصى ، ويكفي أن أشير إليك بأن عدد طبقات السماء سبع ، ويوم القيامة يكون في اليوم السابع من الأسبوع ، وأبواب النار سبعة ، وهكذا ..
أما الرقم إحدى وعشرون ، فهو يخص ترديد الدعوة التي لها علاقة بالنبي يعقوب ، الذي ورد ذكره إحدى وعشرون مرّة في الكتاب الحكيم » .
عند سماعهم هذا الكلام خفّ لغطهم واستهجانهم ، وسكنوا بعض الشيء ، وعادوا ينصتون إلى الرجل .
عندما كان ( نوّاف ) يتحدّث بإفاضة في تفاصيل تلك الحكاية صار بإمكان أي منهم أن يلمس قدر التعاسة التي تحيق به . ولكنّ بعضهم كانوا يقاطعون كلامه بكثير من التهكم ، بينما جلس البعض الآخر ، ولا سيّما ( عباس العجمي ) متلهفاً لسماع الحكاية حتى نهايتها . لذلك خاطبهم ( العجمي ) قائلاً :
« الآن كفى .. دعوا الرجل يكمل حكايته ، ومن لا يعجبه الحديث فليصمت » .
وعقّب ( نوّاف ) على قوله باستياء :
« لا يقنع هؤلاء الناس ، ولا يرضيهم أي شيء » .
« إكملْ ..إكملْ يا نوّاف رجاءً » .
توالت أصوات تطلب منه أن يسترسل في حديثه :
« قلت ، اعتمرت الطاقية ، ولم يعد بالإمكان رؤيتي ، وأخذتني تلك الليلة الدامسة إلى تخوم المدينة ، ماشياً إلى مخيم الأفغان ،  وهناك كنت أجوس في ظلام البريّة ، باحثاً عنهم .
كان السكون مخيّماً معهم ، وكانوا نياماً .
تقدّمت صوبهم ، بجرأة تحمل في طيّاتها نوعاً من الثقة بالفوز . حين صرت بجانب قباء الفتاة ، حدست في الحال ، أنّها لم تزل صاحية . كانت تتقلّب في فراشها ، وكنت أسمع ذلك . بالتأكيد كانت تخشى من زيارتي لها ، ولذلك جفاها النوم .
تردّدت بضعة لحظات ، وأنا أقف في الجوار ، وكنت أسمع صوت غطيط أمها ، التي تشاركها القباء .
في منتهى الاحتراز ، رفعت طرف القباء من الجهة التي كانت تتحرّك فيها الفتاة . أقحمت رأسي ، فاستنشقت عبيرها في الحال ، وألفيتها مستلقية في فراشها ، وعيناها مفتوحتان على وسعهما ، ويبرقان في الظلام . وعلى مقربة منها كانت أمها تغط في النوم .
أدنيت فمي من رأسها ، وقلت في همس شديد :
« أنا نوّاف قد جئت .. » .
ولكنّ الفتاة انتفضت من فرط خوفها ، ثم جمدت في فراشها ، وهي تغالب صرخة ظلّت حبيسة بين شفتيها .
أمسكت بيديها ، وقلت لها :
« لا تخافي من شيء ، لن أمسّك بسوء ، جئت لأودعك وأذهب » .
رفعت الصبية رأسها ، ونظرت إلي وهمست قائلة :
« لا أرى منك أي شيء » .
وطمأنتها أنّني أعتمر طاقية الإخفاء ، وما من أحد يستطيع رؤيتي ، فمدّت يدها وراحت تتحسّس رأسي ، وتتلمّس تلك الطاقية الناعمة ، كما لو كانت تتلمّس ظهر سحلية .
كانت لم تزل تنتفض ، وكل جزء من جسدها يرتعش خوفاً .
بالطبع أنا طويل القامة ، كما ترون ، لذلك مددت جسدي قربها ، فكان نصفه داخل القباء ، والنصف الآخر ظلّ مطروحاً في العراء ، بين الأشواك ، التي كانت توخز ساقيّ أشد الوخز .
سألتني بلحن طفولي :
« هل أنت متزوج ؟ » .
« كلا ، أريد الزواج منك » .
« إلحقْ بي إذن إلى بلادي ، وسوف نتزوج هناك »  .
« سألحق بك بكل تأكيد » .
وجلست الفتاة تلقن بي عنوان سكنها ، وكيف يمكنني أن أصل إلى منزلها في إحدى المدن الأفغانية النائية .
وشرعنا نبث نجوانا ، وما يعتمل في وجداننا من أحاسيس ومشاعر .
وفي كل مرّة يتوقف غطيط أمها ، نتوقف فوراً عن همسنا .
كنت أحاول أن أزحزح نفسي ، وأقترب منها ، لأحظى منها بقبلة ، ولكنّها كانت تصدّني بيديها القويتين .
قاطعه أحدهم بالقول :
« لقد ذهبت إليها كالعاشق الأعمى يا نوّاف ، يا لك من رجل شهواني » .
وهتف به آخر :
« ألم تكن تخشى من وجود الأفغان المتسلحين بسكاكينهم من حواليك ، وأنت لوحدك في ذلك المكان » .
« كلا ، كنت معمي البصيرة ، ولم أكن ساعتها أخشى أحداً ، حتى لو كان هناك ملك أفغانستان محمـد ظاهر شاه نفسه » .
ثم تابع ( نوّاف ) حكايته ، وهو يطلق الزفرة تلو الزفرة ، راح يقول :
« حين صرت ألحّ على الفتاة ، وأنا أدنو برأسي من رأسها ، أفردت كفيها ، وجعلتهما حائلاً بيني وبينها . فأخذت أناملها بفمي ورحت أمتصها حتى آخر الليل ! .
وما إن أوشك الليل على الانصرام نهضت وودعتها ، وأنا أقسم لها بأني سألحق بها قريباً .
ودعتها ، وكانت عيناي غيمتين ماطرتين . وقد أثار وداعها في قلبي همّاً لا يوصف .
رجعت صوب المدينة ، وقد أثقل برد الربيع ثيابي ، وتيبست عظامي جراء هذا البرد . بينما
راحت نجمة الصباح تزمّ شفتيها ضاحكة ! .
كان قلبي أشبه بكلب مهجور ، ظل يعوي في صدري طوال الطريق ، وعبثاً كنت أحاول تهدئته وإسكاته .
توقّف ( نوّاف ) عن الحديث لحظة ، وهو يلتقط أنفاسه ، وقد خيّم عليهم صمت مليء بالمعاني والدلالات ، ولكنّ ( عباس العجمي ) قاطعه قائلاً :
« يا نوّاف ، لقد صدق من قال إن قلب الرجل كبير السن ، مثل شجرة معمّرة ، مليء بأعشاش النساء » .
صوّب ( نوّاف ) إليه نظرة ، ولم يقل شيئاً ، بل راح يواصل كلامه :
« لم أقصد منزلي في تلك الساعة ، كنت أخشى أن يفيق والدي ويشاهدني عائداً في هذا الوقت من الليل . رحت أطوي شوارع المدينة هائماً على وجهي حتى طلوع الصبح . وحينما دبّت الحركة في أرجاء المدينة خلعت طاقيتي ، وأخفيتها في أعماق ثوبي . فور إزاحة الطاقية عن هامتي ، أحسست بزوال أثر السحر الذي كان يغشى عيوني ، بأجواء مضبّبة . وسرت إلى البيت ، وأنا أكاد أنمحق جراء الغم والتعب .
طرقت الباب في حذر ، لأجد أبي يفتحه لي ، عرفت من تعب عينيه ، أنّه ظلّ صاحياً طوال ساعات الليل ، ينتظر عودتي ، وهو مكشّر عن أسنان تصطك ، وتقاسيم وجه ترتعد . أمسك بتلابيبي في الحال ، وأوصد الباب دوني ، وقادني إلى فناء الدار ، وأنا أحاول أن أفلت من بين يديه ، وأقول له متوسلاً :
« مهلاً يا أبي مهلاً » .
« من أين تعلمت هذه السفالة يا ولد ؟ .. تسرق أمتعة البيت ، وتذهب لتسهر بها حتى الصباح . لم يخطر ببالي أن الأمور ستؤول بك إلى هذا الدرك » .
ثم نظر إلى ثوبي الجديد ، الذي كان قد ابتاعه لي للتو ، وهزّ رأسه وقال :
« هيا اخلعْ هذا الثوب ، إنّك لا تستحقه ، ولا تستحق أي شيء آخر » .
استغربت من طلبه هذا ، أردت قول كلام أحاول أن أردعه فيه ، ولكنّه عالجني بصفعة مدوّية ، أطارت شعاع عيني ، قبل أن يتحرك لساني ، وأخذ يصرخ بي :
« لا تقلْ شيئاً يا عديم الشرف » .
خلعت ثوبي ، ووقفت في فناء الدار أرتعش عارياً ، إلّا من ملابسي الداخلية . ثم أشار أبي بسبابته نحو باب الدار وقال لي :
« هيا البسْ الباب » .
وسرعان ما لبست الباب ! .
 في شارع مأهول بالسابلة لقيت نفسي أقف عارياً ، وأنا أتلفت يميناً وشمالا ، لعلّني أبصر أحد أصدقائي أو معارفي لأستعين به . ولكنّني في النهاية لم أجد أفضل من أن أهرع مسرعاً إلى بيت جاري . رحت أقرعه بخجل ، وارتباك . وفي الحال طلّت علي جارتي ، التي هالها منظري العاري ، فعادت لتخفي نفسها وراء الباب فور رؤيتها لي ، وهي تقول :
« خيراً ، ما الأمر ؟ » .
« أسرعي وآتيني  بأي ثوب من ثياب زوجك لأستر به جسدي » .
وفي غضون لحظات ناولتني المرأة ، من خلف الباب ، ثوباً أبيض من ثياب زوجها  ، ارتديته على عجل من أمري . كان الثوب قصيراً ، يكاد لا يغطّي ركبتيّ ، أسرعت به إلى المقهى ، وكان الناس في الطرقات يتوقفون عن مسيرهم ، ويطيلون النظر نحوي مندهشين .
في ذلك اليوم ، بلغ حقدي على والدي حدّاً جعلني أقسم يميناً عظيماً بأن لا أعود إلى البيت ثانية ومهما كانت ظروف حياتي .
في اليوم الثاني عملت مع ( الحاج جابر ) في سيارة الحمل ، التي كانت تتنقل بين المدينة وأريافها . اهتمّ الرجل بي خير اهتمام ، وسعى ليدبّر لي مأوى ، إثر هجراني لمنزلنا .
عملت مع ( الحاج جابر ) ثمانية شهور متواصلة ، كانت ذكراها طيبة جداً ، وأعتقد أنّني حدثتكم عن العديد من القصص العجيبة ، التي حدثت لنا في تلك الأرياف والقرى البعيدة .
كسبت ما قسمه الله لي في عملي هذا. وبعد هذه الشهور الثمانية صحّ عزمي على اللحاق بحبيبتي . قرّرت أن أصل إليها وأتزوجها ، وقد أبحت إلى ( الحاج جابر ) بمكنون سرّي ، ولهيب أشواقي ، ولم يصدق الرجل ما كان يسمعه منّي حاول أن يكبح جنوني وطيشي ، ويردعني عنهما في الحال ، فقال لي :
« هل جننت يا نوّاف ، تعبر هذه الدنيا الشاسعة ، إلى أرض مجهولة ، وأناس لا تعرف عنهم شيئاً ، لمجرد أن تبحث عن فتاة ، هل خليت أرضنا من النساء ، وفيها ما يفوق قشور الحنطة منهن ؟ » .
ولكنّني كنت أردّ عليه قائلاً :
« إذا لم أذهب فسوف أموت ، إنّ حياتي مقترنة بها » .
ولكنّه نظر في وجهي الباكي في غضب ، وقال :
« متْ هنا كما تموت الكلاب السود ، ولكن إيّاك وفكرة السفر تلك ، لأنّك إذا رحلت ستذل نفسك وتعذبها » .
وما لبث أن نظر لي نظرة أخرى لا تُطاق ، وقال :
« أيها الحمار ، أنا عشقت وأغرمت لحد الجنون ، غير أنّي لم أفقد عقلي مثلك ، تصرّف بحكمة ، ولا تقبل على هذه المخاطرة المهلكة ، ولا تنسى أنّه من المعيب جداً أن تتحكّم امرأة بقدر رجل  » .
وإزاء عنادي وإصراري على السفر ، أذعن الرجل في النهاية ! .
عزم على مساعدتي ، فقادني معه إلى مدينة البصرة ، وهناك سلّمني ، مثل مظروف أمانة ، بيد شخص ، بدا لي غريب الأطوار ، من أهل المدينة .. رجل عصبي المزاج ، قصير القامة ، يخطف كالبرق حين يهم بالمسير . كان يدخن بصورة شعواء . بعد ساعة من لقائنا ، اصطحبني هذا الشخص معه إلى بيته ، كان يمشي ، وأنا أركض لاهثاً خلفه .
كان اسمه ( عزوز ) ، أدخلني إلى حجرة منعزلة في بيته الريفي ، الذي كان أشبه ببستان نخيل كبير . وقال لي  :
« استرح الآن ونمْ ، غداً سأقودك برفقتنا إلى عبادان » .
أثنيت عليه بالغ الثناء . مثلما شكرت ربي ، ودعوته أن يتم عليّ الرحلة بمثل هذه السرعة ، والسلاسة ، التي تمتعت بها لغاية الآن ، وأنا لم أكد أبذل أي عناء يذكر .
بلغ بي الشوق إلى الصبيّة مداه ، وأنا أخطو خطواتي الأولى صوبها  . رحت أتأمل نجوم الشرق ، وهي تومض ببريق بعيد ، وطوال تأملي ذاك ، كان ينبت لي جناحان من بريقها ، فأحلّق قريباً منها في أعماق السماء ، باحثاً ، في أحرّ الأشواق ، عن منازلها .
أيقظني ( عزوز ) باكراً ، واصطحبني إلى مدينة ( السيبة ) القريبة من البصرة . وحال دخولنا إلى هذه المدينة ، ذهبنا مباشرة إلى رصيفها على شط العرب . هنالك رأيت الكثير من المراكب ، والسفن ، والتقينا بثلاثة رجال ، كانوا بانتظارنا .
من ( السيبة ) أبحرنا إلى شواطئ ( عبادان ) في مركب صغير . كانت أجمل سفرة في حياتي ، هذه أول مرّة أركب سطح الماء طافياً ، يهدهدني الموج ، وتسوقني المشاعر العذبة.
تدفقنا بهدوء ، من ( السيبة ) إلى ( عبادان ) مع نسيم الصباح الباكر ، وكل واحد فينا طروب .
جلست محشوراً في آخر المركب الصغير ، الذي غصّ بأمتعة غريبة ، حرصوا على تغطيتها أشدّ الحرص . كان المكان من الضيق أن جلست رافعاً ركبتاي عالياً ، كأنّهما شراع أحلام يمخر نحو شواطئ الفردوس ..
لم تدم سفرتنا كثيراً ، سرعان ما بلغنا شواطئ ( عبادان ) ، وهبطنا إلى أرضها بأمان . دُهِشت حقّاً حينما وجدت الناس هناك يتحدثون بلهجتنا ، كما لو كنا في مدينة البصرة . زادني ذلك اطمئناناً ، والأكثر من هذا أنّ رجلين من أبناء المدينة التقيا مع ( عزوز ) ورفاقه ، ورحبا بهم ترحيباً بالغاً .
أوينا جميعاً إلى فندق صغير ، متواضع ، في قلب المدينة . أوصى ( عزوز ) عامل الفندق ، أن يجلب لي فطوراً ، وقدح شاي . ثم توجّه لي بالقول :
« بعد أن تفطر ، وترتاح قليلاً ، سأقودك إلى رجل من الثقات يمهّد سفرك إلى مدينة ( مشهد ) التي ما أن تبلغها ، حتى تجد فيها العديد ممن يمكنهم نقلك إلى أفغانستان ، هل معك ما يكفي من النقود ؟ » .
« نعم ، نعم ، لقد حسبت حساب كل شيء » .
« حسناً » .
ثم تفرّس ( عزوز ) مليّاً في وجهي ، وقال :
« يتهيأ لي أنّ عروقك أفغانية يا أخ ؟ » .
« كلا ، أنا من أهل المنتفق » .
ولكنّ الرجل عاد ليحدّق بي ثانية ، كما لو أنّه لا يصدّق شيئاً من جوابي .
فيما كنّا نتبادل أدوار وقوفنا إزاء المغسلة الوحيدة في الفندق ، تفاجئنا بشرطة الجمارك الإيرانيين ، وهم يحيطون بنا بغتة ! .
أوقفونا ، ووجوهنا إلى الحائط ، وأخذوا يفتشون في ملابسنا ، وهم يجردوننا من كل شيء ، ثم سألنا شرطي ، بلسان عراقي :
« أين جوازات سفركم ؟ » .
« ليس في حوزتنا جوازات سفر » .
والتفت الشرطي إلى الضابط ، يقول له :
« إنّهم هوائيون جميعاً » .
سارع ( عزوز ) في الحال يرد على الشرطي بالقول :
« نحن جئنا نزور الأضرحة ، ونعود إلى بلادنا » .
شرعوا بتقييدنا ، وساقوا بنا إلى مركز شرطة قريب من الميناء . وهنالك جرى التحقيق معنا ، على انفراد . عندما حان دوري في التحقيق تبين لي أن الأمر يتعلّق بتهريب السجائر الإفرنجية . وفي الواقع ارتعدت خوفاً من هذه التهمة ، فاندلق لساني مدافعاً أمام ضابط التحقيق ، وأنا أقسم له بأنّني بريء من هذا العمل . وقلت له متوسّلاً :
« أرجو أن تقرأ بطاقة هويتي يا سيدي ، أنا من مدينة بعيدة عن البصرة ، ولم يجمعني مع هؤلاء الأشخاص غير السفر برفقتهم على نفس المركب » .
وقرأ الضابط بطاقتي بالفعل ، ثم سألني في الحال :
« إذن ما الذي أتى بك مع هؤلاء المهرّبين ؟ » .
« كانت هذه أول مرّة أسافر فيها إلى عبادان ، وقد أوصاهم أحد أصدقائي بتسهيل دخولي إلى هذه المدينة » .
حينما دقّقت في ملامح ضابط الشرطة ، خمّنت أنّه لم يقتنع بأي شيء من أقوالي ، فأخذت أتوسّله بمزيد من القول :
« أنا أصلاً لم آت لزيارة إيران ، وليس لي أي عمل فيها » .
« إذن إلى أين أنت ذاهب ؟ » .
«  إلى أفغانستان » .
« إلى أين ؟ » .
« إلى أفغانستان » .
حينئذٍ فقط تغيرت سحنة الضابط ، وحدّق عميقاً في عيوني ، وبدا حائراً في أقوالي ، فقال :
« ما الذي تفعله في أفغانستان ؟ » .
« ذاهب لأتزوج من فتاة أفغانية » .
ضحك الضابط من أعماقه ضحكاً اهتزّ له بدنه ، بعد طول انقباض ، ثم نظر في عيوني ، وقد انبسطت أساريره ، وقال :
« لم أسمع بعراقي من قبل وهو يعبر الحدود إلى أفغانستان ، وفوق ذلك ، ينوي الزواج من أفغانية وهو لا يحمل جواز سفر ، أي عريس تعيس أنت ، تدور من حدود إلى حدود كالبقرة السائبة ؟ » .
تمنيت أن يمنحني الضابط متسعاً من الوقت حتى أسرد على أسماعه حكاية الصبية الأفغانية ، ولكنّه بدا على عجلة من أمره حين أغلق ملف الأوراق الذي كان مبسوطاً على المكتب ، أمامه ، وأمرني بالانصراف .
أودعونا زنزانة المركز ثلاثة أيام .. ثلاثة أيام كان القمل ينتظرني فيها في لهفة غامرة ، وقد استقبلني في حرارة وهو يقول لي أين كنت يا عزيزي ( نوّاف ) كل هذا الزمن ..
ثلاثة أيام في الزنزانة و ( عزوز ) زائغ النظرات ، مسلوب اللب ، لا يقرّ له قرار ، وما ينفك يحذرنا جميعاً ، قائلاً :
« إيّاكم والحديث عن السجائر ، قولوا جئنا إلى زيارة الأضرحة وحسب » .
في اليوم الرابع ، قادوا بنا إلى غرفة التحقيق ثانية ، وهناك أخذ الضابط بصمات أصابعنا . ثم حذرنا قائلاً :
« سيتم تسليمكم إلى شرطة الحدود العراقية ، إيّاكم والعودة إلى عبادان ، إذا قبضنا على أحد منكم ثانية ، سنودعه في سجوننا حتى يتعفن ، وينفق فيها » .
في الصباح الباكر ، حملتنا شاحنات الشرطة بفظاظة ، وألقت بنا بين أيدي شرطة العراق . وساعتها صرخ ( عزوز ) في يأس :
« الويل لنا ، أصبح بنا الصباح بين يدي ( أبو إسماعيل *) ! » .
مرّت علينا ثلاثة ساعات ، مهينة ، وثقيلة ، قبل أن نجد أنفسنا في أحد السجون الكبيرة  ، في وسط مدينة البصرة .
في الواقع كان دخولنا إلى مدينة البصرة مثل مهربي القمل لا غير ! .
قبيل الظهر ، اقتادنا شرطي إلى غرفة آمر السجن . كانت الغرفة فسيحة ، انتصب في صدرها مكتب فخم ، جلس خلفه ضابط طويل القامة ، شديد السمرة . كان منهمكاً في حديث مع ضابط شاب ، يجلس في كرسي ، إلى جوار المكتب مباشرة ، وقد وضع أمامه على طاولة صغيرة قبعته وعصا غليظة
نظر الآمر نحونا نظرة خاطفة بعينين وامضتين ، تشبهان عينا ديك ، قبل أن يعود لينهمك في الحديث مع الضابط . ولكنّه ما لبث أن أخفض رأسه ، وراح يصوّب نظرة عميقة ، وخبيثة ، على وجه ( عزوز ) ، الذي كان يقف إلى جواري تماماً ، ثم شعّت ابتسامة ساخرة بين صفي أسنانه ، وقال كمن تفاجأ بشيء ما :
« هل هذا ابن عرس ثانية ؟ » .
وكان واضحاً أنّه يقصد ( عزوز ) في سؤاله ، فالتفت أنظر إلى ( عزوز ) لأجد ملامحه قد اصفرّت فجأة ـ وأخذ يزدرد ريقه ، وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض متظاهراً بأنّ آمر السجن لا يعنيه بكلامه .
ولكنّ الآمر لم يلبث أن صرخ في غضب ، وهو يلوّح بسبابته نحوه :
« هل هذا ابن عرس أم لا ؟ » .
ابتلع ( عزوز ) ريقه ثانية ، وأجاب بصوت ذي نبرة صبيانية مرتعشة :
« نعم سيدي » ؟
« نعّمَ الله ضلوعك وضلوع والديك ، من أين يخرج الكلام ، من الفم أم من الأسفل ، لقد تعهدّت لي أمام جمع من الرجال ، الذين جاؤوا يتوسطون لك في المرّة السابقة ، بأن لا تعود إلى أعمال التهريب ، وأمام أنظار الجميع أمسكت شاربك ، وأقسمت أن لا تتورّط بمثل هذا العمل الشيطاني ، ماذا بوسعي أن أقول أيها الحيوان ؟ » .
« لم أذهب إلى تهريب السجائر سيدي » .
« إذن ما الذي دفع بك إلى إيران » .
« نحن ذاهبون إلى زيارة الأضرحة وحسب » .
« منذ متى أصبحت ناسكاً يا عزوز ؟ » .
« والله لا أكذب عليك سيدي »  .
« عزوز ؟ » .
« ……  » .
« عزوز ؟ » .
« نعم سيدي » .
« هل تريد أن تمرّر علينا أعذارك ، ونحن الذين نغسّل الموتى ، ونكفّنهم ، وندفنهم بأيدينا ؟ ».
« ………. » .
« أتعلم يا عزوز من الذي سوف يخرجك من قبرك يوم القيامة ؟ » .
ورفع ( عزوز ) عيناه عن الأرض ، ونظر في وجه آمر السجن لأوّل مرّة بملامحه الحقيقية ، وكانت عيناه تومضان لسبب غير مفهوم .
« من يخرجك من القبر شرطي من شرطتنا بكل تأكيد، سوف يجلدك عارياً أمام محشر العالمين ، قبل أن يودع صحيفة أعمالك السوداء بين أيدي أهل الحساب » .
لم يكد ينتهي من كلامه المحتدم حتى التفت إلى الضابط الشاب ألذي كان برفقته ، وأمره قائلاً :
« خذهم إلى الغسل يا ملازم بشّار » .
لم يكن ذلك الآمر شرطياً يشبه بقية الشرطة الآخرين ، كان ينظر بعينين ربط في كل منهما  ثعلباً مستريحاً ، أسفل حاجبين رفيعين ، مقوسين تقويسة شيطانية مرعبة ! .
نهض الملازم لفوره ، وهو يتناول قبعته من الطاولة أولاً ، ثم رفع عصاه الغليظة ، المبرومة بإتقان ، والتي قدّت من خشب الجاو ، الشديد الصلابة . تقدّم وهو يأمر بصوت يرعد :
« هيا ورائي إلى ساحة السجن » .
بغريزتي ، وفطرتي ، كنت أعلم أنّ كل ما له علاقة بالغسل والغسيل في أروقة السجون والمعتقلات يعني الضرب ، والتعذيب . ولكن بتلك العصا الجاويّة يا إلهي ، كلا .. كلا ، لا يمكن أن أدعها تهوي على ظهري النحيف وأنا على يقين من أنّني إذا صرت بينهم سوف أتلقّى أشد الضرب ضراوة ، وسيكون نصيبي منه أكثر من الآخرين بالتأكيد ، بسبب طول قامتي .
خرج الملازم بشّار من الغرفة أولاً ، وكان آمر السجن يهم بالخروج هو الآخر ، بينما راح الشرطي ، الذي كان واقفاً عند الباب طوال تلك الفترة : يدفع بنا إلى الخارج . في هذه اللحظة تراجعت بجرأة نحو آمر السجن ، وصرخت متوسّلاً بصوت يشبه النحيب :
« سيدي أنا لست مع هؤلاء ، ولا علاقة لي بشأن التهريب ، سيدي أستحلفك بالله أن تسألهم إن كانت لي علاقة معهم » .
كان آمر السجن يقف غير بعيد عنّي حينما راح يتفحّصني بعمق ، وهدوء ، قبل أن يصيح قائلاً :
« عزوز ؟ » .
« نعم سيدي » .
وعاد ( عزوز ) ليطل برأسه عبر باب الغرفة .
« هل هذا شريككم في العمل ؟ » .
« كلا سيدي ، إنّه مجرد مسافر » .
« ما الذي يفعله برفقتكم ؟ » .
« أوصانا به أحد الأصدقاء ، أن نصطحبه برفقتنا إلى عبادان ، ونرشده إلى طريق سفره » .
« واضح ، واضح ، أنتم لا تستعينون بمثل هذا النوع من طوال القامة في أعمال التهريب ، أليس كذلك ؟ » .
« نعم سيدي » .
ثم التفت إلي ، وعيناه تتطايران شرراً ، وهو يسألني :
« قلْ لي صراحة ما الذي رحت تفعله في إيران ، ولكن إيّاك أن تدّعي زيارة الأضرحة ، لأن وجهك ليس وجه مؤمن » .
« والله سيدي سأروي لك كل شيء كما جرى » .
ووجدت نفسي أحكي له حكاية الأفغان وصبيتهم ، حرفاً حرفا ، وكان الرجل ينصت لي باستغراق ، وقد استهوته تلك الحكاية ، وما أن فرغت منها حتى هزّ رأسه ، وقال لي :
« ما اسمك يا ولد ؟ » .
« نوّاف سيدي » .
« نوّاف ؟ » .
« نعم سيدي » .
« أتدري لمَ سموك نوّاف ؟ » .
« كلا سيدي » .
« لأنّك فقت الجميع بطولك ، وصفاقتك ، ونفت عليهم جميعاً بجهلك ، وحماقتك أيها البعير الهائج » .
وامتدّت أصابعه لتقرص أذني قرصة رهيبة ، وهو يواصل الكلام معي :
« هل أقفرت أرض العراق من النساء البيض ، أم انقرضت فيها العيون الخضر؟ .. تعبر حدود الناس ، وكأنّك تجوب في مراعي البعران ، ما هذه السفالة ؟ » .
كان الرجل يقف عند جانبي الأيسر ، ويمسك بأذني اليسرى ، ولكن كيف امتدت يده لتصفع خدي الأيمن صفعة مدوية أطارت اللعاب من فمي ؟ .. ذلك ما لا أعلم به .
ما من شك أنّ يده امتدت كما لو كانت يد جني .
ثم قال موجهاً كلامه إلى الشرطي الواقف عند باب مكتبه :
« ليأخذه أحد رجال الشرطة ويشرف عليه ، أريده أن يتولى تنظيف حديقة السجن تنظيفاً متقناً ويجلوها كالمرآة ، وحالما ينتهي من عمله أطلقوا سراحه » .
سرّني أن أسمعه يقول ذلك ، أحسست كأنّ الرجل صبّ ماءً بارداً على نيران قلبي ساعتها ، بل وأنساني صفعته المدوية ، التي لم تزل وشوشتها تغمر أذني  .
قادني الشرطي إلى مخزن عفن ، احتوى على بعض الأدوات . وطلب مني أن أحمل سطلة ، ومجرفة ، ومكنسة أيضاً ؛ وخرج بي إلى حديقة السجن .
كان صراخ أصحابي يعلو في باحة السجن ، ومن اليسر سماع أصوات توسلاتهم ، تهيأ لي أن غسلهم يستغرق وقتاً طويلاً .
حينما عبرنا أجزاءً من السجن ، لم أرَ أيّة حديقة ، كانت أروقة السجن وممراته مفروشة ببلاط قديم . ولكنّ الشرطي قادني إلى خلف مبنى السجن ، وهناك رأيت باحة صغيرة ، ليس فيها سوى شجرة سدر واحدة .. شجرة عجفاء ، توحي بأنها شجرة سجينة أيضاً . أهذه هي الحديقة ، لا يُعقل ذلك ؟ . لا ريب أنّها موجودة في مكان آخر ، ذلك ما قلته في سرّي ونحن نتوقف إلى جوار مبنى صغير ، يشبه الكوخ ، مخلوع الباب ، وتنطلق عبره رائحة فاسدة ، لا تًطاق أبداً . قال لي الشرطي :
« ضعْ هذه الأشياء هنا ، وتقدّم لتلقي نظرة إلى الحديقة » .
قال ذلك وهو يشير إلى الكوخ المعتم .
طرحت ما كنت أحمله ، ورحت أنظر عبر باب ذلك المبنى ، الذي طاله  الإهمال .
حينما أقحمت رأسي في ظلام الكوخ ، عدت سريعاً إلى الخلف ، وأنا أطبق بسبابتي وإبهامي على طرفي أنفي . كان المشهد مهولاً حقّاً . ثمة مرحاضان طافحان في الداخل ، وأمامهما مباشرة مستنقع أسود ، راكد ، من البول والغائط ، ورائحة ثقيلة جاثمة لا يمكن احتمالها . تراجعت إلى الخلف ، وقلت للشرطي :
« هل هذه هي الحديقة ؟ » .
« وهل هنالك حديقة غيرها في السجن ؟ » .
وحينما أخذ الشرطي يلمس ملامح الاشمئزاز على وجهي ، وأنا أتردّد متراجعاً ، بمشاعر من الانقباض ، والنفور ، أسرع يقول لي :
« لو كان السيد الآمر قد أودعك السجن ثلاثة أو أربعة أيام ، لكنت قد اقتنعت كامل الاقتناع بأن هذا الملاذ هو حديقة حقّاً بالنسبة للسجين » .
ثم قال لي ، بصوت مترع بالفظاظة :
« هيا اتبعني » .
 ومضيت خلفه في الحال .
اتجه بي الشرطي نحو باب حديدي موصد بسلسلة حديدية ثقيلة ، وقفل كبير الحجم . وكان ذلك الباب يقع في السياج الخلفي للسجن . فتح القفل والسلسلة ، وجرّ إليه الباب الحديدي بكل صريره العظيم ، فوجدت نفسي أمام مجرى مائي ، آسن ، يقع في ظهر مبنى السجن ، وفي أرض خلاء .
حالما ألقينا نظرة على ذلك المجرى ، أخبرني الشرطي قائلاً :
« سترفع تلك النفايات بسطلك ، وتلقي بها في هذا المجرى ، هيا باشر العمل قبل أن يدركك الوقت » .
ومن غير أن يترك لي فرصة قول شيء ، تنحّى جانباً ، واستند واقفاً إلى جدار مجاور ،  وأطلق العنان لأصابعه وهي تعبث بشاربه .
وقفت مصدوماً ، والحيرة تعصف بي . ليس باستطاعتي الرفض ، أو المغادرة ، وليس باستطاعتي إنجاز عمل كهذا . لعنت اليوم الذي وقعت فيه في الحب ، وأنا أجد نفسي تنحدر من مأزق إلى مأزق أشدّ ، وأدهى ، وأمرّ من سابقه .
أخرجت منديلي ، وأحكمت ربطه حول أنفي ، ثم شمّرت عن ثيابي ، ورحت أعمل مقهوراً ! .
هكذا نحت الأمور معي .
 كان الأمر عسيراً ، وشاقّاً في بادئ الأمر ، ولكن  بعد ربع ساعة فقط انطلقت أعمل بهمّة ونشاط ، كما لو أنّه لا وجود لأي عنت . أردت أن لا تفتر عزيمتي .
واظبت أعمل لساعات ، وقد أرهقني التعب ، وزهقت روحي جراء الروائح النافذة ، التي لا يقوى على مواجهتها أي كائن . كنت أشعر بأنّني أختنق لحظة بعد لحظة ، وكانت روائح البول تشق مرارتي .
على الرغم من بذلي مجهوداً متواصلاً ، فقد لاح لي أنّ المرحاضين ما زالا مليئين ، كأن لم يرفع منهما شيئاً .. كان الغائط فيهما معيناً لا ينضب .
وخاطبت نفسي قائلاً :
« لو قُدر لأولئك الأفغان رؤيتي وأنا ملطخ بالغائط لما تجرّأ أحد منهم على التسلّل إلى أرض العراق مرّة أخرى » .
شرعت أبذل قصارى جهدي ، وأنا مهدور الكرامة ، ومحطّم القلب والمشاعر . كانت أطرافي تتمزق من فرط التعب والإعياء ، فيما اتشحت بالقذارة من رأسي حتى أخمص قدمي . ولم أعد أسمع صراخ أولئك المهربين ، لقد انتهت مهمة غسلهم بالتأكيد ، وهم الآن يرقدون ، والجراح تغمر أجسادهم .
عندما طالت ساعات عملي ، راح تفكيري يذهب إلى الشرطي الذي كان جالساً ، ومعتمداً بظهره إلى الجدار المواجه للمراحيض . لم يكن يفعل شيئاً . لساعات طويلة كان منهمكاً بالغناء ، أو يدخل أصبعه في أذنه تارة ، وتارة في أنفه . جلس ساعات طوال ، مثل آلة طيّعة تنتظر فقط ، يا لذلك الانتظار ! ..
لم أتم عملي إلّا بعد الساعة الثانية ظهراً ، حينما نزحت كل شيء من ذلك الكوخ ، ندهت على الشرطي ، وطلبت منه أن يلقي نظرة على عملي ، حينذاك فقط نهض من جلسته الطويلة ، وراح يمعن النظر في أرجاء الكوخ ، وسارعت لأقول له  :
« ماذا ترى ، هل هو مجلو كالمرآة ؟ » .
التفت الشرطي إليّ وقال :
« لقد أتيت عملاً رائعاً يا بطل ! » .
لمست البهجة على وجهه ، وهو يرى الحديقة على ما يرام .
عندما اغتسلت ، ووقفت أردّ علي ثيابي كما كانت ، وأصلح من هيأتي ، كان يخيم على السجن سكون شامل ، تكاد لا تسمع خلاله أيّة نأمة . كان هذا الصمت البليغ كافياً لكي يشعرني بهول تلك السحابة الثقيلة من روائح الغائط ، التي طغت على سماء السجن .
كنت ساعتها أشعر أنّ عشرة آلاف ألم مبرح تفجّر في جسدي .
هكذا أطلق سراحي .
عدّت إلى ( الحاج جابر ) مهدور الكرامة ، مثبط العزيمة . والسهام تغطّي جسدي الناحل ، الضعيف . لم أستطع كبح أنيني ، وتوجّعي لأيام متواصلة .
صدّقوني إذا قلت لكم أنّ بحر الخراء ذاك جعلني أنسى الحب ، وطعم الحب ، بل وألعنه إلى الأبد من أعماق قلبي » .
« اشكرْ الله يا نوّاف أنّهم لم يبقوا عليك بين جدران السجن طويلاً ، وإلّا لكنت بستانياً دائماً في حديقة السجن » .
قاطعه أحدهم بلغة تجمع ما بين الجد والهزل .
« وصلت إلى مدينتنا ، اغتسلت جيداً ونمت إلى اليوم الثاني ، ثم نهضت واغتسلت مرّة أخرى ، ولم تفارقني تلك الروائح . كنت لم أزل استنشقها ، وليس لي مهرب منها ، وأنا أعرف حق المعرفة أنّ رائحة السجن تبقى حبيسة في صدر السجين ، حتى لو أطلق سراحه » ! .
انتهى ( نوّاف ) من حكايته ، وقد بدا التأثر على وجهه واضحاً . شرع ينظر، في حزن مرير ، إلى الأرض ساهياً .
« ولكن يا نوّاف كان يجدر بك أن تعتمر بطاقية الإخفاء ، لكي تعبر تلك الحدود بأمان وسلام ».
« أحسنت ، هذا ما كان يعرض في بالي أينما وليت شطري ، بل إنّ حاجتي إليه في السجن كانت على أشدّها ، ولكنّكم تعلمون أنّ طاقيتي التي أخفيتها في ثوبي ، باتت لدى والدي عندما أجبرني على خلع ثوبي في باحة الدار . وطوال تلك المدّة لم يتيسر لي الوقت أو الظرف الملائم لصنع طاقية أخرى .
« تلك حكاية ممتعة يا نوّاف على الرغم من مرارتها » .
قال ( عباس العجمي ) ، وهو يرد أطراف ثوبه فوق ساقيه .
انبرى أحد الجالسين وقال :
« ممّا لا شك فيه ، أنّها حكاية ممتعة لولا تلك السحالي التي حملها على رأسه » .
كان بعض جلّاسه قد أحاطوه بنظراتهم المتشكّكة . فقال ( العجمي ) وهو يطعن بتلك الشكوك :
« مهما شاب الحكاية من خيال أو أوهام ، تبقى حكاية يلذ سماعها ، لا تنسوا أنّكم كنتم تصغرون إلى حكايات ألف ليلة ، مأخوذين بها ، وأنتم تعلمون علم اليقين بأنّها جميعاً ابنة الخيال المحض » .
كانت وطأة الأسى ظاهرة على ملامح ( نوّاف ) . استلّ سيجارة من جيب سترته الصغير ، وجعل يدخنها .
بين من كانوا ينصتون له رجل ضئيل الجسد ، وكبير السن . كان يجلس عند طرف التخت المقابل له . حينما فرغ من حكايته ، بان التأثر الحسّاس على وجه ذلك الرجل أكثر من غيره .
كان طوال الوقت يحدّق في وجه ( نوّاف ) . لم يكن الرجل مكترثاً بما دار حول الحكاية من شكوك ، ولم يحفل بتلك الملاحظات التهكمية أيضاً .
حينما فرغ ( نوّاف ) من حكايته أخيراً ، نظر الرجل إليه نظرة تآزرية صادقة ، وسأله قائلاً :
« طوال تلك السنوات التي أعقبت هذه القصة ألم يتسنّ لك التواصل مع أولئك الأفغان ، أو مع الصبية ؟ » .
رفع ( نوّاف ) نظراته عن الأرض ، ومسح بطرف منديله شيئاً مما علق بهما من غم ، وأجاب الرجل ، بنبرة بطيئة ، أتعبتها الذكريات :
« الدار قفرة ، والمزار بعيد ! » .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ( أبو إسماعيل ) كنية شعبية ، تطلق على رجل الشرطة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *