الملاك الأسود / قصة قصيرة

                                                                                     الملاك الأسود

                                                                        ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قصة قصيرة

محمود يعقوب

   طفح النهر طوال أيام الشتاء ، وعلت ثغره ابتسامة غرينية عريضة ، جعلته يبدو كثيفاً ، وقويّاً ، وناضجاً أيضاً .

على جانبيه يمتلئ الليل بالطراوة ، وينزل البرد مثل حرير أسود ، سرعان ما يلتف حول أجساد المتسكعين في الجوار . إلّا أنّ هذا البرد لم يكن بوسعه أن يردع ثلاثة شبّان من الخروج إلى النهر ليلاً . كان هؤلاء ثلاثة صيادين محترفين ، وأصدقاء لبعضهم ، خبروا النهر ، وخبروا مواسمه ، وخاضوا في مياهه أياماً طويلة .

ثلاثة شبّان ، كان يقودهم الصياد ( فارس ) ، ويعمل الآخران برفقته ، على متن زورقه . كانوا جميعاً مرهوبي الجانب ، تغلب القسوة على طباعهم ، ميّالين إلى العراك والمشاجرة . جميعهم فخورون بفتوتهم ، وكان ( فارس ) من أكثرهم تبجّحاً ، وشراسة . غالباً ما تراهم يمضون إلى شاطئ النهر في عتو وخيلاء . وعلى ذلك الشاطئ كانوا يرتعون ساعات الليل .

درج الصيّادون الآخرون على الإحجام عن دخول الشواطئ التي يرتادها ( فارس ) ورفيقيه ، وعازفين أيضاً عن اللقاء معهم . لاحوا للجميع زمرة شبّان مزعجين .

عُرِفَ عنهم أنّهم يخرجون إلى الصيد في الليل فقط  ، كما تخرج الخفافيش من أوكانها .

    في ليلة رخيّة من ليالي أوّل الربيع ، وكانت الليالي لم تزل باردة ، انساب زورق أولئك الشبّان ، يذرع النهر جيئة وذهاباً . لم يكن القمر حاضراً بعد ، نزل الظلام مبكّراً على الضفتين . وراحت نسائم خجولة تهبّ من جهة الشمال .

في هذه الليلة لم يحمل هؤلاء الصيّادون معهم شباك صيد ، بل جاءوا إلى النهر بثياب النزهة القشيبة ، وهم يرشقون الليل بعبق طيوبهم

كان الصمت يلفّ جانبي النهر قبل ظهورهم . ولكنهم نتقوا من مكان ما ، في الظلام ، فجأة ، كما لو أنّهم كلاب ماء تلعب في عرض النهر، وراحوا يبدّدون الصمت بلغطهم . ثم شرعوا يقطعون النهر ، متأرجحين على أمواجه الرقيقة في خفّة ، وقد أطلقوا العنان لأنفسهم .

   في أوقات عملهم السابقة ، اعتادوا أن يخرجوا إلى موضع شاطئ بعيد عن مواضع صيد الآخرين .  وهم على دراية بشواطئ النهر قاطبة ، ويعرفون أي مواضع الماء تزخر بالسمك .

ولكنّ هذه الليلة ليست ليلة صيد كالعادة ، كانت ليلة من ليالي لهوهم ، ومجونهم ، التي يغرقون فيها بعيداً عن كل العيون .

   في فترات متضاربة ، يحدث أن يخرج فجأة عند شواطئ النهر ، ملك من ملوك الجن ، الذين انتشروا ، آنذاك ، حول المدينة وضواحيها ، لا سيّما في الأماكن المهجورة منها .، وتكرّر مشاهدة الناس لهم في العديد من المناسبات ، وبالذات في الليالي الدامسة .

كان أغلب أشباح الجن غير مؤذٍ ، ولم تلحق ضرراً بليغاً بأحد  ، في أي يوم من الأيام ؛ على الرغم من غزارة المخاوف والشائعات . أسفرت التجارب المتلاحقة لظهورهم العلني عن حقيقة أنّ أكثر ما يمكن أن يفعله الجنّ أنّهم يثيرون المتاعب ، ويضرمون الخوف والرعب في النفوس .

ولكنّ هذا الجني العربيد  شيء آخر بالتمام ، ما من جني يضارعه في إرهاب الناس ، وقتلهم وحين يشعرون بوجوده تهتزّ قلوبهم فرقاً ، وتنخلع لفرط الذعر .

اسمه ( عبد الشط )* ، مارد حالك السواد ، لا يطيق أحد أن يراه  ، يخافه الجميع ، وتهابه حتى السحرة من الرجال . ولا يتورّع هذا الملك من خطف أي شخص يرغب فيه ، وسرعان ما يغيبه في أعماق النهر إلى الأبد .

« احذروا عبد الشط ! » .

اعتاد الآباء والأمهات جميعاً في المدينة من إطلاق هذا التحذير في مسامع أبنائهم ، ومنعهم من التسكّع حول النهر أثناء الليل . كان رؤية الظلال السوداء قرب الشاطئ في الليل ، أو رؤية شبحاً يتحرّك على مسافة بعيدة ، كفيل بردع الفتيان من الإقدام إلى ضفاف النهر .

كان يخرج من دون سابق إنذار ، ويخطف ضحيته على عجل ، ونادراً ما يُعثر على تلك الضحية ، وقد لفظت أنفاسها غرقاً .

إلّا أنّه ما يلبث أن يغيب طويلاً ، محتجباً عن الأنظار أياماُ وشهوراً ، إلى حدّ ينساه جميع الفتيان خلال تلك الفترة ، ولا يعد أحد يتوقع ظهوره ثانية  . ولكن في مشهد مفاجئ ، رهيب ، يجده أحدهم واقفاً ، منتصباً ، تحت جنح الظلام ، عند ضفة النهر ..

إلّا أنّه في هذه الليلة السارحة ، اللاهية ، ظهر عند شاطئ النهر في وقت مبكّر من المساء . وراح يجلس على حافّة النهر مقرفصاً ، كما لو كان رجلاً يتنزّه وحيداً . كان لشدّة سواده ، ولظلمة الليل ، سبباً قد حال دون رؤية أي ملمح منه ، كان جالساً في موضع ، لا يشاهده أحد ، كما لو أنّه غير موجود بالمرّة . جلس مقرفصاً قرب جرف الماء كعادته ، وهو يلتهم المكان برمته ، بعينيه المرعبتين ، اللتين تلصفان مثل مرآتين ، مستطلعاً من حوله ، باحثاً ، ومتشمّماً ، لأجل أن يختار ضحيته . إنّه نوع مميّز من الجن ، ولا يرضى إلّا بأفضل الضحايا .

كان الظلام نديّاً ، والريح تحرّك ساكنها ، أخذت ترعش أديم النهر . وعلى حين غرّة ، مرّ من أمام عينيه زورق طروب في وسط النهر، كان يهتزّ راقصاً تحت جنح الظلام . مرّ سادراً  فوق الماء ، يترجرج في أعماقه صوت طفولي ، ناعم  وجميل ؛

وهو يردّد أغنية عذبة ، من الأغاني الشائعة  .

لم يحرّك الصوت برخامته ( عبد الشط ) بقدر ما أثار استياءه .

ثمة سحب تعبر السماء شاردة ، ونور النجوم كان رذاذاً شحيحاً . ليس بميسور أحد أن يبصر عبر ذلك الظلام الدامس من حوله شيئاً . كل من ينظر باتجاه ( عبد الشط ) ، عرضاً ، لا يلمح سوى كتلة سوداء ، لا يتمكن من تمييز ماهيتها .

عاين ( عبد الشط ) هذا الزورق النشوان مليّاً . سرعان ما تحسّس رائحة غريبة ، منفرة ، أثارت حفيظته ، كانوا يحتسون الخمر في زورقهم ، فنخر كما ينخر الحصان ، واشرأب عنقه ناحيتهم .

مرّوا من أمام عينيه وهم يدخنون الليل بطراوته اللذيذة .

كان هذا الملك الخطير يشاهدهم  في غاية الوضوح من دون أن يروا منه شيئاً . وقد استغرق في ذهول عميق لترنحهم ، وفقدان صوابهم ، والأدهى من ذلك اصطحابهم لغلام جميل الطلعة ، امتد بجسده في الزورق وهو يطلق عقيرته بالغناء .

مرّوا وهم يلوّثون المساء  بصخبهم وعربدتهم الماجنة .

بعينين جاحظتين ، اشتدّ بريقهما ، وهما تطلقان نوراً أحمر ، أمسى يمطرهم بنظرات شرسة ، وهو يستهجن تلك السعادة الشريرة في عرض النهر .

أن يحدث ذلك بين دفتي النهر لهو إهانة لمملكة الماء ، وأن يفسدوا الهواء بتلك الرائحة المستهجنة ، لهو إهانة أيضاً لشخصه وحضوره .

لم يكن ( عبد الشط ) بشرياً ، لكي يصرف النظر عن هذا الصخب الثائر في عرض النهر ؛ كان ملكاً من ملوك الجن ، نظر إليهم بأنفة ، واحتقار ، يغالبه نوع من الأحاسيس التي لا تحتمل ، وهم يسرفون في لهوهم الماجن ، من دون مبالاة لشيء .

كانت نوبات الضحك الهستيري تهزّ النهر ، وتمزّق حشمة الليل ، من آن لآن . بينما ( عبد الشط ) يحتدم تجهّماً وصرامة ، ليس بإمكانه أن يصبر على هذا التهتك ، والفكاهة السمجة . إنّه كائن شبحي لم يتمتع بأي حس للفكاهة . سرعان ما قال في سريرته :

« يا لهذا البلاء المبرم ! » .

في باديء أمره ، لم يزمع أن يلحق بهم الأذى ، وبزورقهم ،  أدرك ( عبد الشط ) أنّهم من زمر الصيّادين ، وهم من أصحاب النهر المقرّبين ، ولا بدّ أنّهم أمضوا جلّ أوقاتهم بين أحضانه ، وباتوا جزءً منه ؛ غير أنّ هذا التمادي الغريب ، جعله ينظر صوبهم بعين الغضب .

تطلّع إلى وجه ( فارس ) الذي كان يعتلي صدر الزورق ببدنه الممتلئ ، الفاره ، وكان يجدّف في مثابرة وخفّة . رمش ( عبد الشط ) بضع رمشات ، ثم عاد يحملق في وجهه ثانية ، بعينين تكادان تحرقان الليل بلهيبهما . وراح يرمش كرّة أخرى . كانت تلك الرؤية مشوّشة بالغموض ، وأثقلتها ذكرى غامضة . راوده إحساس مبهم ، وأخذ يحدّث نفسه في شيء من الدهشة :

« أين سبق لي رؤية هذا الوجه ؟ » .

« إنّه ليس غريباً عن نظري » .

« ربما كنت قد صادفته في إحدى المرّات ؟ » .

ثم عاد يسأل نفسه ما يشبه تلك الأسئلة مرّات أخرى ، ولكنّه حينما عجز عن تذكّره شعر بالغيظ ، ولعن كل شيء . فنهض من محل جلوسه ، وضرب جرف النهر بقدمه ضربة انثالت معها كتلة كبيرة من أطيان الجرف ، وأحدثت دوياً وهي تنهار في مياه النهر .

إنّ ذاكرة الجن لا تخطيء ، فكيف إذن لم يتسن له أن يتذكر أين ومتى شاهد هذا الشاب ، وهذا ما حيّره ، وأثار حفيظته .

خطا عند جرف النهر عدة خطوات ، وهو يحاول أن يتذكّر . بينما كان مستغرقاً ، وتائهاً في أفكاره ، وفي الحال شقّت سجف الليل أصوات متهتكة ، أطلقها ذلك الزورق بلا رويّة ..

يقال أن أمزجة الجن صفراوية . عندما اشتد الضجيج من حوله ، عاد ( عبد الشط ) ليقول :

« لم يتبق لي شيء من الصبر » .

نزل إلى ماء النهر في الحال ، حتى غمره إلى الركبتين ، ثم وقف ينظر إلى أولئك الشبّان نظرة استخفاف ، وعلى ملامحه ارتسم تأهب وحشي ضارٍ . ظلّ ينظر في غاية السخط ، وعيناه تقدحان ، وعندما ينظر ( عبد الشط ) بسخط ، فإن شيئاً عظيماً لابدّ أن يحدث ! ..

رفع ساقه اليمين ، ومضى يرجّ بها ماء النهر ، رجّاً عنيفاً ؛ جعل ماء النهر يفور ، ويثور ، وينقلب على بعضه البعض بأمواج متلاطمة . وكانت أمواج المياه المنفلتة إلى كل اتجاه قد أخذت تتلاعب بالزورق في وسط النهر .

أغاضه منظرهم ، وجلبتهم المنفرة جداً ، لا يمكن لأي بشري كان أن يمتلك النهر ، ويتسيده في حضور ملاك الماء ، وابن الشط ، المارد الذي لا يضارعه أحد .

تمايل الزورق على حين غرة ميلاناً سريعاً  ، حتى تعسّرت السيطرة عليه ، فأصاب الشبّان الهلع والاضطراب . تبلّلت ثيابهم جميعاً ، وقد وجموا حائرين . لم تنبع في أذهانهم أيّة فكرة عن أسباب هياج النهر المفاجئ . كانت هذه حالة نادرة الحدوث ، اعتقدوا أنّها ستزول سريعاً ، ويعود النهر إلى هدوئه ثانية .

 وعندما احتدم الموج من حولهم ، صرخ ( فارس ) في رفاقه محذّراً :

« تشبثوا بالزورق جيداً إنّه عارض طارئ سيزول قريباً  » .

وانتحب الغلام الصغير الذي اصطحبوه معهم . نظر ( فارس ) باتجاهه ، وصاح به :

« اخرس ، ولا تنتحب في زورقي ، سأحاول قيادتكم نحو الجرف » .

لغاية ذلك الوقت ، ظلّ كل منهم يحتفظ بشجاعته متوازنة ، ولم  يهم أي منهم بإلقاء نفسه في مياه النهر ، والعوم نحو الضفة من أجل بلوغ البر. بينما بقيت الأمواج تتقاذف الزورق بعنف يميناً وشمالاً .

كان اضطراب النهر المفاجئ قد انتزعهم من غفلتهم ، وأفسد هناء فسحتهم ، وأصابهم بالذهول والدهشة ؛ لم يحدث من قبل أن جنّ جنون النهر هكذا، كما يحدث الآن ! .

استمرّ ( عبد الشط ) يرجّ النهر بساق واحدة ، كما لو كان يرجّ قدحاً من الماء !.                     كانت الأمواج الهائجة تسرع نحوهم ، وتخض زورقهم ، لتقلب أجسادهم ، وتبعثرهم ، وهم يتصايحون فرقاً ، ويبذلون ما في وسعهم للتشبث بحواف الزورق . وقبل أن يصحون من هول صدمتهم ، يكون ( عبد الشط ) قد رجّ النهر كرّة أخرى ، وبغضب ، وحماس أشدّ ؛ فتنطلق صوبهم أسراب جديدة ،عنيفة ، من الأمواج الكاسرة ، لتتقاذف زورقهم في جيشان يشبه جيشان البحر .

لم يعد لدى أي منهم ذرّة شجاعة ليقذف نفسه في مياه النهر الغاضب ، وهو يشاهده يضطرم بجنون .

مع استمرار تفاقم الوضع في عرض النهر ، ودوي صراخ الشبّان الحائرين ، ثارت مشاعر ( عبد الشط ) ، واشتعل غيظه . تعاظم جنون الجن في رأسه الضخم ، وصارت عيناه تسكبان ناراً ونور ؛ فشرع يخبط المياه بكلتا ساقيه ويزلزلها في حركة ثأرية لا ترحم .

لاح الشبّان مذعورين غاية الذعر ، تعذّر عليهم فهم شيئاً مما حولهم . أنشأوا يصارعون الموج  كما لو كانوا في وسط بحر طامٍ ؛ باذلين أقصى جهودهم  في سبيل الإمساك بحواف الزورق المضطرب . ولكنّ التجاج النهر المتعاظم ، وموران الموج من حولهم ، أفقد الزورق ثباته في نهاية الأمر .

ما هي إلّا برهة من الوقت حتى ارتفعت مقدمة الزورق عالياً ، وانقلب في عرض النهر على باطنه ، رامياً براكبيه بين الأمواج . كان النهر عنيفاً في تلك اللحظات ، تدفّق بوحشية ، ولاحت ضفتاه ، في أتون تلك السورة ، بعيدتين عن بعض ، يصعب الوصول إليهما . كانوا يصرخون طالبين النجدة ، ولكن ما من أحد كان هناك ، وكان هدير الماء يبتلع أصواتهم  ، وربمّا قد تيسّر لهم ، في محنتهم تلك ، رؤية شبح إنسان يقف عند الجرف البعيد ؛ ولكن لم يدر بخلد أحد منهم أنّه شبح مارد من الجن .

بدا النهر كما لو أنّه يقوم بتنظيف مجراه ، ذلك لأنّ كل ما استقرّ في أعماقه ارتفع مرّة أخرى طافياً فوق الماء ، وكان الموت يحوم حولهم ، وعند الجرف كان ( عبد الشط ) يقف مثل ملك الموت .

سرعان ما ابتلع الموج غلامهم الجميل في أعماقه ، مزدرداً إيّاه كلقمة سائغة ، ولم يتبق منه سوى نعله الأسفنجي طافياً فوق الماء ! .

 تناثروا في عرض النهر ، هنا وهناك ، يصارعون بكل ما أوتوا من قوة ، في محاولات يائسة للإبقاء على أجسادهم طافية فوق سطح الماء . وكان زورقهم قد تحطّم ، وجرفته المياه بعيداً .

لأكثر من ساعة ظلّوا يتعذبون ، وهم يتقلّبون مع تقلّب الأمواج في عرض النهر .

كان يصعب التصديق بأن النهر يمكن أن يقهرهم ، وهم أسياده الذين ذلّلوه ، وأخضعوه لأرادتهم في كل الأوقات ، وما كانوا يخشونه في يوم من الأيام . ولكن ها هو يثور غضباً في وجوههم ، ممسكاً بهم بجبروته ، مسكاً ما منه خلاص . كانوا يخبطون بأذرعهم الفتية خبطاً عبثياً ، ولم تسفر جميع محاولاتهم في الفرار إلى الضفتين . بدأ اليأس يغلبهم ، وغمر لهاثهم ، وشهيقهم أرجاء النهر .

أصابت ( فارس ) نوبة إعياء وخور ، حتى كاد يغمى عليه . أحسّ بأنّ قلبه يكاد ينفجر بين ضلوعه ، فكان يرفع وجهه باستماتة ، فوق مياه النهر ، ويستنشق الهواء عنوة ، وهو يوشك على استنفاد إحساسه بما يدور حواليه .

على الشاطئ المقابل لهم كان ( عبد الشط ) ، وعلى الرغم من احتدام مزاجه ، بدا سعيداً وراضياً كل الرضا مما يفعله ، وقد زيّن لنفسه أن يؤرجحهم طويلاً قبل أن يودعهم قعر النهر .

كان يرجّ الماء ، وينظر إليهم بارتياح ، وقد أخذوا يشهقون أنفاسهم الأخيرة في وهن من يحتضر .

بينما كان يراقبهم هكذا ، تملّى انهيار ( فارس ) الذي راح يستسلم للغرق رويداً ، رويدا . وفيما كان يركّز نظره الثاقب على ملامح هذا الشاب التعيس ، خطر في ذهنه كالبرق خاطر رؤيته له سابقاً ، واستعاد في ذهنه تلك الذكرى سريعاً .

في وقت مضى ، حدث أن ظهر ( عبد الشط ) في هذا الموضع بالذات من شاطئ النهر ، ذات أمسية مظلمة أيضاً . جلس كامناً يراقب الصيّادين ، والناس الذين كانوا يتنزهون قريباً من الشاطئ . في ذلك المساء ، كان عازماً على الفوز بواحد من البشر ، وإغراقه .

تذكّر كيف استرعى نظره مشهداً بشريّاً مؤثراً ، قلّما يحدث في عالم الجن .

بينما كان يراقب شاطئ النهر ، دنا من جرف النهر رجل عجوز ، مدقع الفقر ، رث الثياب . مدّ يده ، وأخذ يشرب من ماء النهر ، ثم جلس جانباً يسد رمقه بكسرة خبز يابسة ، أخرجها من طيّات ثيابه ؛ وبينما هو كذلك إذ تقدّم منه صياد شاب ، يحمل بين يديه سمكة اصطادها للتو ، وقال للرجل العجوز سأشوي لك هذه السمكة حتى تسد بها جوعك . وشرع ذلك الشاب يجمع الحطب ، ومن ثم راح يشوي له السمكة بالفعل . بدا ذلك منظراً حلواً ، وممتعاً ، أدخل السرور المحض ، في الحال ،إلى قلب ( عبد الشط ) ، وهو جالس يراقبهم ، وأثار مشاعره ، حتى إنّه نهض تلك الليلة وانصرف من غير أن يلحق أذى بأحد . لقد أفعمت أنظاره تلك الرؤية الحسنة .

الآن ، وهو يراقب ( فارس ) الذي كان ينازع سكرات الموت  ، عرف فيه ذلك الشاب الذي سارع لمساعدة العجوز الجائع .

وآنئذٍ فقط اهتزّت أحاسيس ( عبد الشط ) ، كما لو كان بشريّاً . تلفّت من حوله سريعاً ، يروم إسعافه ، بما جاش في نفسه من قدر كبير من العاطفة . في الحال وقعت أنظاره على شبكة مهترءة ، يعلوها الطين والتراب ، ملقاة على جانب من النهر . هرع ليرفعها في الحال ، فوجد أنّها شبكة صيد طويلة ، من تلك الشباك التي تحجز مياه النهر من الضفة إلى الضفة ، لأجل أن يعلق بها السمك . حمل الشبكة بين يديه ، وأسرع ليرمي بطرفها بين يدي ( فارس ) عازماً على إنقاذه .

بينما كان ذراعا ( فارس ) يتخبّطان بوهن في الماء ، أمسك بهذه الشبكة ، وتشبّث بها تشبث غريق هالك لا محالة .

هدأ روعه قليلاً ، وأحسّ ببرودة الماء الممضة ، وهو يتوقف عن السباحة ، ويمسك بخيوط الشبكة ، وقعت أنظاره على حين غرة ، على عينين متوهجتين في الظلام ، تبعثان ببريقهما من الضفة المواجهة له ، وتساءل إن كان ثمة من يبذل يد المساعدة له في هذا الوقت .. ذلك ما خطر بباله ، فيما كانت الشبكة تنسحب نحو الضفة البعيدة وئيداً ، على الرغم من أنّ حركة الموج لم تهدأ بعد . كان ( عبد الشط ) يسحب في غاية الحذر ، خوفاً من تمزّق الشبكة ، وتهتكها .

بدأ ( فارس ) ينجذب مع الشبكة ، بشكل منفصل عن رفاقه ، ومبتعداً قليلاً عنهم . وحين وقعت عيون الشابين الآخرين عليه ، وهما يلمحان أطراف الشبكة ، صحا كل منهما صحوة الموت . قذفا بنفسيهما باتجاهه ، ولحقا به ، ليمسك كلّاً منهما بطرف من خيوط الشبكة البالية .

أمّا ( فارس ) فقد حدس في الحال أنّهما بعملهما هذا سيغرقانه ويغرقان نفسيها أيضاً ، وهو يرى إنّ بعض أطراف هذه الشبكة أخذت تتهتّك بين أصابعهم التي تمسك بها بقوة ، وفكّر أنّها سوف تنقطع لا محالة  .

خاف ( فارس ) على نفسه خوفاً فظيعاً . التفت إلى صاحبيه وصرخ بهما منذراً :

« اتركا الشبكة لي ، وعودا إلى السباحة سريعاً ، إنّها ممزقة ولا تتحمّل ثلاثة يتعلّقون بها »  .

ولكنّ أنّى للغريق أن يسمع مثل هذا الكلام ، فقد بقي كل منهما يتشبث بأطراف الشبكة بعناد . فما كان من صاحبهما ( فارس ) إلّا أن أمسك الشبكة بيد ، ورفع يده الثانية ليدفع بها صاحبيه ، محاولاً بما بقي لديه من قوة إبعادهما  عن الشبكة ، وهو يصرخ بجنون :

« اتركا شبكتي .. اتركا شبكتي ، سوف تغرقاني » .

حالما رأى ( عبد الشط ) ذلك ، وسمع كل ما بدر من ( فارس ) ، علا وجهه الامتعاض ثانية ، واستبدّ به الغضب ، فرفع طرف الشبكة الذي كان يمسك به ورماه في عرض النهر ، وعاد يرج الماء رجّاً مزلزلاً .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( عبد الشط ) : في الميثولوجيا العراقية ، مارد يرتاد الشواطئ ليلاً ، ويعمد إلى خطف الشبّان والأطفال ، وإغراقهم في النهر .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *