هاروكي موراكامي في روايته :
(1Q84 )
ما وراء الخير والشر .
إعداد : محمود يعقوب
في هذه الدراسة التي تدور حول الكاتب الكبير هاروكي موراكامي ، محاولة استكشاف الرابط بين الأدب والفلسفة الأخلاقية ، وتحليل رواية
على ضوء ذلك . وفي هذا الصدد يشير الباحث الأرجنتيني ( 1Q84 )ممّيزة من رواياته وهي
معد هذه الدراسة ، في الأساس ، والتي نقتبس منها GUILLERMO LARIGUET
موضوعنا هذا ، إلى وجود خاصيتين في أعمال هاروكي موراكامي . توضّح الأولى وجود حقائق يومية تتأثّر بأحداث غير عادية وقعت في عالم موازٍ . بينما تُظهر الثانية أنه بسبب الظروف غير العادية ، يتم تغيير الإدراك والحكم الأخلاقي بطريقة تتطلّب تحليلاً فلسفياً .
في هذه الدراسة محاولة استكشاف بدائل تفسيرية لما هو مفهوم الأخلاق الذي يقوم عليه عمل موراكامي ، مع التركيز بشكل خاص على مسألة ما يعنيه أن تكون أخلاقيا في عالم يسكنه أشخاص يتمتعون بسلطات غير عادية ، نظراً لأن هؤلاء الأشخاص يميلون إلى التصرّف ” خارج نطاق القانون ” ، نتساءل عمّا إذا كانت أخلاق هؤلاء الأشخاص متوافقة مع الأخلاق التي يقوم عليها حكم القانون ؟ .
هناك سوابق عديدة ومتنوّعة لاستكشاف العلاقة أو الصلة بين الأدب والفلسفة العملية . وفقاً لنيتشة ” كان أفلاطون قد مزج المكونات الفلسفية والأدبية في أعماله الفلسفية ” ، وفي الوقت نفسه أعلن أرسطو أن الشعر فلسفي أكثر من التاريخ . في هذا البيان يعترف بقيمة الأدب كمصدر للتفكير الفلسفي . بهذا المعنى ، يجب أن نضع في اعتبارنا أن المسرحيين اليونايين القدماء طرحوا معظم المشاكل الكلاسيكية للفلسفة الأخلاقية في أفكارهم وحبكات أعمالهم . وثمة أمثلة كثيرة في أدبنا الحديث كذلك .
على ضوء هذه الخلفية ، يمكن القول أن الموضوعات المتنوعة التي تناولها هاروكي موراكامي في أدبه ، تقدّم ، في الأصل ، عناصر غامضة ، تشكّك في طبيعة الواقع الذي تعيش فيه شخصياته . وهنا أود أن أشير إلى سمتين خاصتين بأدب موراكامي ، هما عمله المعقّد ، إذ أن معظم كتاباته تُلبس الواقع لبوساً آخر ، الواقع اليومي في كتب موراكامي ، أو البعض منه مرتبط بطريقة ما ، أو متأثر بواقع موازٍ ؛ حيث تبدو الكثير من ظواهر الحياة أو الأفكار ، والمشاهد غامضة ، بعبارة أخرى هناك أحداث معينة أو حالات أو أفعال بشرية في واقع ” آخر ” يؤثر على ما يحدث في ” هذا ” الواقع . هكذا مثل قيام أستاذ الرياضيات تنغو بالمشاركة في إعادة كتابة قصة ” الشرنقة الهوائية ” إلى حدّ قلبت واقع سنة ( 1984 ) ، وخلقت شيئاً آخر هو عالم
) . 1Q84(
يمكن أن نواجه مثل هذه العوالم الغريبة ، المفترضة ، في عموم رواياته . ففي رواية ” يوميات طائر الزنبرك ” ( 1994 ـ 1995 ) ، يرحل تورو للتأمّل في بئر المنزل المهجور ، الذي يقوده إلى غرفة غامضة ، فيما يبدو على هيئة فندق . القاريء يشتبه في أن كوميكو محتجزة هناك ، على الأرجح من قبل نوبورو واتايا شقيقها .
في ” كافكا على الشاطئ ” ( 2002 ) ، يدخل ناكاتا في ظروف غامضة إلى عالم يواجه فيه القسوة ( جوني ووكر ) ، وأفعاله تتشابك بطريقة معينة مع حياة المراهق كافكا تامورا ، ابن كويتشي تامورا ، النحّات الشهير الذي كانت له حياته الخاصة ، التي لا يعرف عنها الآخرين شيئاً .
في رواية ” رقص . رقص . رقص ” ( 1988 ) ، يتم وضع الشخصية الرئيسية في فندق في عالم غريب أيضاً وهو فندق قذر كان قد أقام فيه مع امرأة أحبّها ، بالرغم من أنه في الحقيقة لم يعرف اسمها أبدًا، ومنذ ذلك الوقت كانت قد اختفت بدون أثر..
في هذه العوالم ، الحقائق العادية لتجربتنا ، وفكرنا ، وأعرافنا ، يتم تغييرها بطرق غير عادية ويصعب شرحها باستخدام العقلانية أو استخدام الأدوات والتفسيرات العلمية والفلسفية . هذا التحوّل لظروف الحياة العادية على حساب العلاقة بين هذا الواقع مع الواقع الآخر البديل في عوالم موراكامي يعالج العلاقة بين الحقيقي والخادع ، بين الأصيل والظاهر ، بين اليقظة والمنام . المشاكل الميتافيزيقية وغيرها ، المتعلّقة بالهوية الشخصية ، تنشأ جراء هذه العلاقة في أعمال موراكامي .
ما هو العالم الحقيقي ؟ أي نوع من العالم نعيش فيه ؟ هل هو ما ندركه حقيقة ؟ من نحن في الحقيقة ؟ .. الخ . هذه بعض الأسئلة التي يطرحها علينا موراكامي بجرأة أدبية ولغز فلسفي . بطريقة ما ، العوالم الأخرى التي نتواصل معها قد تؤثر على حياتنا بطريقة تعرضّها للخطر ، أو وضعها في حالة انتقالية نحو تغييرات غير متوقعة ، هذا ما يحدث ! . على سبيل المثال في روايته
1Q84 ) ( ، المؤلف تنغو يرتبط بقصة حب مع أومامه ، ولكنه حب غير قائم الآن في الواقع ، وإنمّا يعود إلى أوائل شبابهما .
ما تقرّره شخصياته يؤثر على حياتهم بطريقة ما . أغلب شخصياته تمكّنت من الابتعاد عن عوالمهم الخيالية ، ومع ذلك ، فإنهم يتعرّضون لخطر الوقوع هناك إلى الأبد . على سبيل المثال ، ما يحدث لناكاتا و كافكا تامورا في رواية ” كافكا على الشاطئ ” ؛ إذ كان الأول غير قادر على إغلاق ” حجر المدخل ” الغامض ، ويحدث هذا أيضاً لبطل رواية ” بلاد العجائب القاسية ونهاية العالم ” عندما يدخل إلى المدينة المسوّرة ، والمعروفة باسم ” نهاية العالم ” ، ويتعرّض لخطر عدم الخروج منها أبداً .
هذا التحوّل في الظروف العادية لواقعنا ، يعيد إحياء الأسئلة الميتافيزيقية المذكورة أعلاه ، والتي تلخّص القضية الفلسفية القديمة لما هو الحقيقي وما هو المظهر ، وتحديد ما يجب أن تعتبره صحيحاً أو خاطئاً .
موراكامي ، يلخّص جزءً من هذه المسألة الميتافيزيقية في ” يوميات طائر الزنبرك ” في قوله ” بأن الواقع الحقيقي قد لا يكون هو الحقيقي ” ، بمعنى أن موراكامي يعتقد بأن المرء قد يظن إن كلا الواقعين ( الحقيقي والخيالي ) هو حقيقي ، يمكن أن يحدث .
ما يشهد له عمل موراكامي هو عدم اليقين فيما يتعلّق بما يحدث بالفعل ، وما هي الحقائق التي يجب ” المعاقبة ” عليها على النحو الصحيح ؛ على سبيل المثال ، عندما قتل ناكاتا جوني ووكر في رواية ” كافكا على الشاطئ ” ، دماء جريمة القتل هذه لا تلوّث قميص ناكاتا ، بل تلطّخ قميص كافكا تامورا على الرغم من أنه يبعد عدة كيلومترات عن مكان الحادث . كافكا مقيد بمأساة تنبؤ والده أنه سيقتله وينام مع أمه وشقيقته .
يسأل كافكا نفسه بوضوح عمّا إذا كان الأمر كذلك ، هل هو من قتل والده ؟ كما أنه يتساءل إن كانت السيدة ساييكي ليست في الحقيقة أمه ، وقد رويت هذه الأحداث بتشكيك .
الميزة الثانية التي تظهر بإصرار في جميع ملفات عمل موراكامي هو ارتباط عمله بالقضية الميتافيزيقية الموضحة أعلاه ، وذلك من خلال ظهور عناصر غامضة أو خارقة للطبيعة أو غير عادية في واقع تجربتنا اليومية لفحص وتقييم الأخلاقيات في الفعاليات البشرية . وهذا يعني أن المؤلف يغرس جذور أعماله في الفلسفة الأخلاقية . ومن أجل فهم ومعرفة نوع القضايا التي تهم الفلسفة الأخلاقية ، نفحص عملاً مهماً من أعماله الروائية وهي روايـــــــــــــة :
1Q84 :
هذه رواية عوالمها تُغيّر ظروف التجربة ، والفكر ، والأخلاق لعام ( 1984 ) ، وحبكتها شاسعة ومعقّدة . ولكن يمكن تلخيصها :
صبية ، في مقتبل شبابها ، تضع قصة بين يدي رجل عنوانها ” الشرنقة الهوائية ” . يتم تقديمها لمسابقة أدبية . يعتقد المحرر كوماتسو ، الذي يترأس لجنة هذه المسابقة ، أن المخطوطة تستحق المشاركة . ولكن من أجل فوزها ، يجب إعادة كتابتها بصورة احترافية ، وهكذا يُعهد بأمرها إلى تنغو ، أستاذ الرياضيات ، وكاتب روايات الشباب .
تغري هذه الفكرة تنغو ، وبعد قراءة المخطوطة ، يجد أن قصة الفتاة فوكا ـ إري غير عادية ، ولكنه من زاوية أخرى يدرك أن إعادة كتابته لهذه القصة ، ككاتب شبح ، قد تنطوي على نوع من الاحتيال ؛ حيث سوف يُنسَب العمل إلى فوكا ـ إري بينما هو من أعاد كتابته من البداية حتى النهاية . وبعد إمعانه بالتفكير ، يقدم تنغو على أداء العمل ، حيث يجد نفسه مدفوعاً من قبل ” قوة لا يمكن تفسيرها ” لأجل إعادة كتابة القصة وتحسينها . وفي النهاية تفوز قصة ” الشرنقة الهوائية ” لينطلق اسم الشابة فوكا ـ إري إلى عالم الشهرة .
تروي قصة ” الشرنقة الهوائية ” حكاية غريبة لفتاة صغيرة ، تعيش في مجتمع ديني صغير ، ومغلق ، مع والديها . والدها ، وهو أستاذ جامعي سابق ، كان يؤمن بالأفكار الماركسية ، قد تزعّم هذا المجتمع الديني المسمّى بـ ” الطليعة ” . وقد بدأ هذا المجتمع باستغلال أراض زراعية ، وصناعة ما يحتاج إليه من منتجات . وفيما بدأ منفتحاً ، راح ينغلق على نفسه ، وحصل على الوضع القانوني ليكون بمثابة مجتمع متدين . منذ تلك اللحظة ، ظهرت هالة من الغموض حوله . ما هو الدين الذي يمارسه أعضاؤها ؟ وما هي الطقوس التي يؤدونها ؟ وكيف تُمَوّل أنشطتهم ؟ .
الفتاة فوكا ـ إري كانت تعيش في هذا المجتمع ، وهي ابنة زعيمه توماتسو فوكادا . في يوم من الأيام تُعاقب الفتاة لارتكابها خطأً ما ، وتُحبَس في غرفة مع ماعز ميت . وفي لحظة ما يخرج ، أمام أنظارها ، من فم الماعز ، رجال صغار ، ويدعون الفتاة لتكوين شرنقة هوائية . ومنذ تلك اللحظة سمّت الفتاة هذه الكائنات بـ ” الرجال الصغار ” .
بعد إطلاق سراحها ، هربت الفتاة من المجتمع ، ولجأت إلى البروفيسور أيبيسونو ، وهو صديق قديم لوالدها ، وكان مهتمّاً بمتابعة مصير والدها . ومع استطراد أحداث الرواية ، يدرك القاريء كيف تعرّضت فوكا ـ إري للاغتصاب مع بعض الفتيات الأخريات من قبل والدها ، زعيم المجتمع .
وقد تم تسريب هذه المعلومات من قبل امرأة ثريّة ، مسنّة ، تستخدم امرأة شابة تُدعى أومامه كمدرّب رياضي ومدلّكة أيضاً . وتنيط إليها مهمة قتل الرجال الذين يُظهرون السلوك العنيف تجاه المرأة ، سواء بضربها بوحشية ، أو قتلها . وفي الواقع كانت هذه المرأة الثرية تدعم علناً مؤسسة للنساء .
في ظل هذه الظروف ، تقرّر أومامه قتل زعيم المجتمع الديني ، آنف الذكر . وعندما تشرع في قتله ، تكتشف : أولاً ، إن القائد يعلم بالفعل أنها ستقتله ، وثانياً ، إنه شخصياً يريدها أن تقتله .
منذ أن كان فوكادا هو القائد في مجتمعه الديني ” تلقّى ” رسائل من ” الرجال الصغار ” ، وعانى هذا الرجل من كمون جسده وتشنج أعضائه وتيبسها ، من فترة لأخرى ، وطوال فترة كمون جسده يحدث له انتصاب متواصل ، في تلك الأثناء تأتي الفتيات الصغيرات ويركبنه لكي يصبحن حاملات ، ويخلّفن أعضاءً جدد للمجتمع . لكن أمنية الفتيات تبدو مستحيلة لصغر سنهن وعدم قدرتهن على الإنجاب .
أصابت هذه الحكاية أومامه بالذعر ، وطفحت شكوكها في مدى صحتها ، واعتقدت أن الرجل منحرف جنسياً ، ويخفي مرضه هذا وراء هذه القصة المثيرة . وفوكادا يخبر أومامه بأشياء مثيرة ، مثل قصة حبها مع تنغو سابقاً ، ويبدو لها أن هذا الرجل خارق للعادة ، ويمكنه معرفة كل شيء عن أسرار الآخرين .
في بدية الأمر ، تردّدت أومامه بشأن قتله ، إذ واجهتها معضلة أخلاقية . فهي من ناحية تعتقد أن هناك أسباب وجيهة لقتله ( فقد اغتصب العديد من الفتيات الصغيرات ) ، ومن ناحية أخرى أنها تعتقد إذا ما شرعت في قتله وفق مشيئته أنها سوف تسهّل عليه ، لأنها ستحرّر جسده من فرط آلامه ، وإذا ما تركته يعيش فمعنى ذلك مزيداً من اغتصاب الفتيات .
وكان الرجل قادراً على قراءة أفكارها ،
في النهاية تقرّر أومامه قتله .
في الواقع تعهّد الزعيم إذا قتلته أومامه ، فسوف يمنع الرجال الصغار من مطاردة حبيبها تنغو ، حيث كانوا غاضبين منه لنشره كتاب ” الشرنقة الهوائية ” . تعهّد فوكادا بإنقاذ تنغو ، ولكن الاضطهاد سيلاحق أومامه حتى قتلها ، لذلك تصمّم أومامه على إنقاذ تنغو على حساب حيلتها .
من الناحية الفلسفية ، القضايا الأخلاقية المهمة تظهر مع بعض التفسيرات التي يعطيها القائد لأومامه . وكذلك بعض من الانعكاسات التي تصنعها أومامه لا حقاً ، بناءً على هذا ، عندما تتأمل أهمية ما فعلته في قتل زعيم ” الطليعة ” .
قبل موته ، أخبرها القائد بأنه : ” حيث يوجد ضوء هناك يجب أن تكون ظلمة ، وحيث تكون هناك ظلمة يجب أن يكون ضوء ” . هناك ازدواجية أخلاقية ، هالة الظل ، أو الشر تطارد نا ونحن نبحث عن الخير والفضيلة ، بمعنى معين ، هذا يبدو مشابهاً لجوهر المآسي حيث البطل الفاضل يواجه الوقوع في الشر لأسباب خارجة عن إرادته . هذه الازدواجية الأخلاقية ، يمكن تفسيرها على أنها مشكلة تكمن في الفضائل نفسها ، خلافاً لوجهة النظر الأرسطية .
يطرح زعيم الطائفة مفارقة البحث عن الخير يجتذب أيضاً قوى الشر . تصبح المشكلة أكثر حدّة مع الغموض الأخلاقي .
أعمال موراكامي ، بغض النظر عن النظرية الأخلاقية التي تؤيدها ، يمكننا القول أن جميع النظريات الأخلاقية معنية بوضع معايير معينة ، بوضوح ، للتمييز بين الخير والشر . في رواية
1Q84 ، كما في رواية ” كافكا على الشاطئ ” ، يتم تقويض القلق في تصريحات بعض
الشخصيات المهمة ، على سبيل المثال : أخبر فوكادا أنه لا يعرف ما إذا كان ” الرجال الصغار ” خير أم شر ، ويرى أن هذا الأمر يتجاوز القدرة على التعريف والفهم . ما هو أكثر من ذلك ، يضيف فوكادا ” الرجال الصغار ” كانوا على قيد الحياة منذ عهد سحيق ، أي ” قبل قيام الخير والشر ” . وأومامه نفسها ، بعد أن قتلت فوكادا ، أخذت تفكّر في ما فعلته . كانت تنظر إلى ما فعلته نظرة موضوعية ، فالأفعال التي ارتكبها هذا الرجل تهديداً للأخلاق . ومع ذلك لم يكن هذا الرجل عادياً من جوانب عدّة ، لا سيّما ما يتعلّق بحواسه ، وإن هذا الاختلاف في ” الاعتيادية ” يمكن اعتباره شيئاً يتجاوز معايير الخير والشر . ويمكن اعتبار أن هذا التعالي للخير والشر التي تتحدّث عنها شخصيات موراكامي تقودنا إلى منطقة يعيش فيها الإنسان لا يمكن ، لسبب ما ، تقييم السلوك أخلاقيا . وهكذا تكون الأخلاق غير محدّدة ، لأن معايير الخير والشر لا تنطبق في بعض الأحيان .
ويمكن أن نجد شرحاً أوفى لذلك في رواية ” كافكا على الشاطئ ” ، هناك شخصية خارقة للطبيعة في الرواية ، هو العقيد ساندرز ، االذي يصف نفسه بالنقاء ، ولكنه ليس إلهاً أو بوذا ، كما يزعم أن تدخّله في الأعمال البشرية لا يتكيّف مع المفاهيم التي نستخدمها . العقيد يصنّف نفسه بأنه ” محايد ” فيما يتعلّق بالخير والشر . وإن الغرض منه هو ” لربط عوالم متوازية ” ، وهي فكرة تظهر ، أيضاً ، في روايات أخرى له . يقول ساندرز ، بصرف النظر عن الاتصال بين العوالم ، فهو مسؤول عن جعل الأشياء تحقّق الغرض منها ؛ لكنه لا يوضّح ما إذا كان هذا الغرض أخلاقياً أم لا ، وكيفية تقييم هذا الغرض .
إن عدم تحديد المعايير الأخلاقية للخير والشر ، يتم تأكيده في رواية ” كافكا على الشاطئ ” ، في كلمات جوني ووكر ، الذي ليس سوى كويتشي تامورا ، النحّت الشهير ، ووالد كافكا تامورا .
عندما تحدّث جوني ووكر مع الغراب ، أخبره أنه قتل العديد من القطط ( في الواقع فتح جوني ووكر صدورها وأكل قلوبها ) ، من أجل الاستيلاء على أرواحها ، وصنع مزامير غامضة منها ، ومن ثم يصنع مزماراً رائعاً يأسر به النفوس البشرية . لكن بالإشارة إلى هذا المخطّط الغامض الذي سبقته صفقة قاسية مع القطط ، يقول أنه لا يعرف ما إذا كان الناي سيعمل لفعل الخير أم الشر ، ويضيف أن هذه المزامير يمكن العثور عليها وراء المبادئ المنتشرة مثل الخير والشر ، والحب والكراهية .
الخيال هو أداة إرشادية مهمة للأخلاق . تعمل تجربة الخيال هذه على طرح سؤال مهم هو ماذا يمكن أن نفعل إذا كانت لدينا قوة معينة ؟ . في هذه الحالة قوة غير عادية ، هذا السؤال يتضمّن العديد من المشاكل الفلسفية بشكل عام ، والأخلاقية على وجه الخصوص .
في الواقع ، إن الأبطال الخارقون يتمتعون بسلطات غير عادية ، ويوجهونها لفعل الخير ، على الأرجح . وهذا يعني ، بحكم التعريف ، أن البطل الخارق ليس شريراً ، لأنه يهتم دائماً بالخير والحقيقة والعدالة .
لكن هل هم متوافقون مع هذه القيم دائماً ؟ .
هل من الممكن دائماً التصرّف بهذه الطريقة لتحقيق هذه القيم الثلاث في نفس الوقت ، في عالم تحكمه قوانين الطبيعة ؟ .
في الواقع ، في الفلسفة السياسية المعاصرة ، المؤلفون مثل جون راولز ( ١٩٢١ ـ ٢٠٠٢ ) ، وهو فيلسوف وسياسي أمريكي شهير ، يدركون ذلك عندما يخصّصون الأولوية لقيمة على أخرى ، على سبيل المثال العدل على الخير . شخصية أومامه المرتدّة عن إيمان والديها ، تستعيد قرب نهاية الرواية ، الصلاة القديمة التي بدأت ” ملكوتك يأتي … ” أومامه عن طريق الصلاة ، تستحضر قوة الله للهروب من هذا العالم ، والعودة إلى عالم أخلاقي مضمون .
والآن دعونا نعود إلى القضية التي طُرحت في أعمال موراكامي ، والتي تحدّدت بالمشكلة الفلسفية القديمة ، لكيفية تصرفنا إذا كانت لدينا قوة عظيمة ، والتي تم توضيحها مع الأبطال الخارقين .
إذا تركنا العناصر الخارقة للطبيعة جانباً فمن الممكن تماماً أن الرجال الذين يكتسبون قوة تكنولوجية أو علمية أو سياسية ضخمة التأثير أحدهما يمكن أن يفعل الخير والآخر يمكن أن يفعل الشر كالعقيد ساندرز أو جوني ووكر .
المشكلة هو أن الخير والشر ليس ” قيماً مطلقة ” ، ولكنهما يغيران مكانهما باستمرار ، كما يرى موراكامي ذلك في روايته 1Q84 . قد يصبح الخير شرّاً ، وقد يصبح الشر خيّراً . وهذا يعني أن الأخلاق تعاني من الازدواجية التي أشرت إليها سابقاً .على أي حال ، حسب فوكادا : ” الشيء المهم هو الحفاظ على التوازن بين هذا الخير والشر في حركة مستمرة ” .
” قال الرجل : في هذا العالم ، لا يوجد خير مطلق ، ولا يوجد شر مطلق . الخير والشر ليس كيانين ثابتين ومستقرين ، ولكنهما يتناوبان مكانيهما باستمرار . فالخير قد يتحوّل إلى شر في الثانية التالية ، والعكس بالعكس . كانت هذه هي حال العالم التي صوّرها دوستويفسكي في الأخوة كرامازوف . الشيء الأهم هو حفظ التوازن بين الخير والشر اللذين هما في حركة دائمة . إذا ملت أكثر مّما ينبغي في أي من الاتجاهين فإنه من الصعب عليك الحفاظ على الأخلاق الفعلية . وفي الواقع فإن التوازن في حدّ ذاته هو الخير ، وهذا ما أعنيه عندما أقول إنني يجب أن أموت حفظاً للتوازن ” (2) .
إن معايير الخير والشر لا تنطبق على سلوكيات معينة ، ذلك قد تكون الأخلاق شيئاً مزدوجاً أو غامضاً أو متغيّراً أو نسبياً على الآخر . إن هناك صراعاً ـ مانوياً ـ بين الشخصيات التي تمثّل الخير بوضوح وتلك التي تمثّل الشر بوضوح ، وعلاوة على ذلك ، وراء فكرة التوازن بين الخير والشر هو الافتراض المسبق لأن الخير والشر موجودان كشيء موضوعي وليس كشيء محدّد .
في الواقع ، في كل من رواية 1Q84 ، ورواية كافكا على الشاطئ تؤدي الشخصيات أعمالاً تنتقل ” خارج نطاق الفانون ” ، ويحدث شيء مشابه جداً مع سلوك العديد من الأبطال الخارقين في ظروف متعدّدة . سنلاحظ في روايات موراكامي إن أولئك الخارجين عن القانون يتم التحقيق معهم ، وتقديمهم إلى العدالة أمام أناس مثل أومامه أو ناكاتا ، لينالوا جزاءهم بعيداً عن تدخّل الحكومة / القانون . وموراكامي حين يعمد إلى مثل هذه الأساليب له مبرّراته المعقولة . فهو يرى أن رجلاً مثل فوكادا هو زعيم مجتمع ديني ، يكاد يكون منيعاً . يقنعنا موراكامي بأنه لا يمكن للشرطة أو القضاة اكتشاف حقيقة ما يحدث بالفعل في داخل مجتمعهم المغلق . وفي الوقت نفسه ، فإن كويتشي تامورا وهو نحّات شهير في حياته العامة ، لكنه في ظلام حياته الخاصة قاتل قاسٍ لا يرحم القطط ، يسعى لصنع بعض المزامير التي قد تؤدي إلى عواقب وخيمة على الإنسانية . أو لتقديم مثال آخر ، نوبورو واتايا ، في رواية ” يوميات طائر الزنبرك ” ، شخصية مرموقة ، خبير اقتصادي ، ومفكّر مشهور في حياته ” العامة ” ، فيما بعد أصبح سياسياً ومؤثراً ، بينما في حياته ” الخاصة ” يعتدي جنسياً على شقيقته ، وهذه حقيقته . يقترح موراكامي ، أن الوصول إليه يكاد يكون متعذّراً من قبل رجال إنفاذ القانون .
في مثل هذه الحالات ، يبدو أن الأخلاق الشعبية سوف تشعر بالارتياح حين تتم معاقبتهم ، سواء بتدخل الدولة أو بدونها ؛ وهذا ما يفعله موراكامي حين يزج بشخصياته إلى العالم البديل ( الموازي ) ليقتص من المجرمين أو المنحرفين .
من وجهة نظر البعض إن هذا الفعل شكل متقدم من الأخلاق ، بينما يرى البعض الآخر بأن ذلك القصاص إذا تم خارج إطار القانون فإنه لا يستوفي المعايير الأخلاقية ، حتى وإن باركته الأخلاق الشعبية .