الليلة صافية الجمال ، والسماء تتباهى بزينتها وفتنتها العجيبة ، تسكب الألق الوهّاج من كواكبها مثلما تسكب ماء الذهب الدافق ، الرقّـراق . البدر الزاهر أدنى ما يكون ، يكاد ينطبق على وجهه الأسمر كلمّا رفع رأسه عالياً محدّقاً إلى فلك كوكبه النائي عن مدار الأفلاك جميعاً .
في غمرة أحزانه ، وكمده ، ويأسه ، أحسّ بأنّ شخصه المهان أمسى يعوم في بحر من السعادة لا تحدّه حدود ! .
من دون أي انتباه كانت قدماه المسترخيتان تقودانه إلى حيث لا يدري ، بينما أمسى نعلاه يخوضان في غدران الذهب المتساقط .
كان تفاحة خضراء ريّانة ، تشعّ من حولها هالة من المساء الأخضر .
مساء اليوم أُزيح الغطاء عن بئر الشتائم مرّة أخرى ، وغُمِرَ فجأة بأفحش كلمات التأنيب والتقريع .. كلمات تشيع منها عفونة ذلك البئر القديم ، المظلم ، والمخيف . شرعت أم زوجته تمتح بدلوها الكبير كل سوءة ومنقصة وتصبّها على رأسه بلا رويّة ولا رحمة . حتى أنّ السامع ليشك بأن البئر الفائض شارف على النضوب !.
تحاشى الرجل المسكين تلك البذاءة المدوّية بصبره الجميل وصمته الوقور ، وولج غرفته العتيقة معقود الحاجبين ، كالح الوجه. وقف في زاوية منها يستعيذ بالله . غير أنّ قرقعة الدلو ونثار مائه العكر ظلّـت تلاحقه بحماسة منقطعة النظير لتغمره من كوفية رأسه حتى نعليه غمراً لاح فيه مثل طائر أليف مبتلّ الريش ، عاجز عن الحركة .
كان زائغ النظرات ، حائراً ، قلقاً على حاله وعلى مصيره ومستقبل عياله . وقفت أم زوجته على عتبة باب الغرفة ، لتسدّ الباب بجسدها المليء ، وأطلقت العنان للسانها البتّار . ومن جوف الغرفة المعتمة تراءى له منظرهما المسائي الخانق مثـلما سجين وسجان . فكّـر أنّ صوتها يمكن له طرق مسامع الجيران ، وهذا ما فاقم من تحرّجه . التفت إليها وقال في هدوء وصوت بارد :
« اهدئي يا حماتي .. اهدئي ، لا شيء يستحق هذه الثورة » .
هزّت كلماته الباردة أعصابها المشتعلة بنيران الغضب هزّاً عنيفاً ، فانطلقت الشتائم ترنّ في حوش الدار بلا حرج ولا سدود .
كان على هذا الرجل الطيب أن يتجلّـد بالصبر وينتظر انحسار ثورتها كلّـما انصبّت في أسماعه تلك النعوت الفاحشة ، ولكنها اليوم لاحت مثل غيمة رعدية سوداء ، ما انفكت تهمي وابلاً إثر وابل ، جعلت الأرض موحلةً تحت قدميه ، وتعفّـر شخصه بهذا الوحل .
ولأجل أن يرغمها على الكف عن سبّه وشتمه ، والتوقف عن هذا التهوّر العنيف راح يرتقي سلّم الدار قاصداً السطح ، حيث اعتاد أن ينام هناك أغلب ليالي الصيف .
لم ينفعه ذلك بالمرّة ، حتى لو ارتقى إلى سابع سطح ، إذ توقّـفت المرأة على أول درجة من السلّـم وراحت تخور خوار بقرة جريحة وهي تهزّ أستار الليل بعنف فاضح ، ورعد صوتها يشق عنان السماء . لم تدع هذه المرأة جاراً ولا عابر سبيل إلّا وأسمعته قريضها .
كان بئر شتائمها مرعب ومسكون بالأرواح الشريرة ، وبين الفينة والأخرى يرتجّ تجويف رأسه مثل ثمرة يختضّ بين جوانبها العصير ، حينما يسمع رنين دلوها يتعالى من قعره . كان لسانها لسان شاعرة مُوحِل ، خفّـاق !.
ابتلّ جسد الحدّاد بالعرق ، وجعل الخجل والارتباك وجهه يَسْوَدُّ فما كان منه إلّا أن راح يدلي برأسه من حافّة سطح الدار ويناديها متوسّلاً :
« حسبك يا حماتي حسبك .. إنني خارج من هذه الدار فاستريحي » .
وبخفة جسده النحيل هبط سريعاً من غير أن يلتفت إلى المرأة الثائرة ، واجتاز باحة البيت مهرولاً إلى الشارع ، معقود اللسان ، مذهولاً ، ومصعوقاً من جراء ثورتها العارمة .
وبينما نهبت أقدامه الطريق ، وبعدت به عن المنزل ظلّ صوتها الجهير يرن في أذنيه . كان يمكن سماعه عن بعد مثل صخب أمواج من الهذيان .
مشى تائهاً يترنح من فرط التعب . أيقظ هيجانها العدائي الكثير من الجراح في صدره ، بينما تركت صفعات الشتائم آثار أصابعها على جانبي وجهه .
كان السقف الذي ينام تحته في ذلك البيت تنخره دودة عمياء . شقّ عليه تحملها .
♦♦♦♦
في بواكير الصباحات ينهض هذا الرجل المتعب كل يوم ويقصد محل عمله في طرف قصي من المدينة المقدّسة .. يقصد محلّـه وقد غرقت أسماعه بتكبيرات الفجر وتهليلاته. كان ذلك المحل دكان حدادة ، صغيراً ومتواضعاً .. محل عتيق البناء ، لا يناسب ، في أعلى تقدير ، إلّا أن يكون دكان حدادة ، وكان يقع لصق إسطبلات خيول الشرطة .
من أول النهار يبدأ كدحه المضني ، و يواظب على طرق الحديد المتوهّج كالجمر على سندان كبير يتوسط المحل ، بينما يظل الفرن المتوقّـد ، المضطرم ، في مؤخرة الدكان ، يبعث ألسنة النيران وسحب الدخان ليضحى المكان في آخر الأمر كالموقد يكاد يسلخ جلد المرء إذا ما اقترب من سعيره .
في عزّ الصيف اللافح ، و طوال النهار ، كان يواصل وقوفه بين الفرن والسندان ، بثوبه البالي ، المفتوح الأزرار عادةً ، ليوفر لزبائنه حدوات الخيول ، وبعض المستلزمات البسيطة الأخرى البخسة الأثمان .
وكان جلّ زبائنه من رجال الشرطة الخيّالة .
على أعتاب دكان الحدادة يمكن للزبائن أن يشعروا بلسع ألسنة النيران ولفح الهواء المنطلق منه ، فور اقترابهم من المحل ، ولكن من الواضح أن الرجل لم يتأثر بشيء من ذلك السعير المحتدم . كان يلوح أنه يقف في أفق آخر ، بل كان الحدّاد يقف في اللا أفق . كان موجوداً وغير موجود في الوقت نفسه ، وكل ما كانت تفعله ألسنة النيران الحامية أنها تلسع وعاءاً آدمياً لم يكن الرجل في داخله ! .
ذات مرّة كان أحد الشرطة الخيّالة يجلس أمام الدكان بانتظار أن يفرغ الحدّاد من انجاز حدواته ، وكان الشرطي زبوناً اعتاد التردّد على المحل . جلس مستسلماً إلى سكينة الانتظار الطويل ، يتأمل الرجل المستغرق في عمله تارةً ، وتارةً أخرى تنزلق نظراته عبر الطريق . كان الحدّاد المنهمك ، شارد البال ، تائه الأفكار ، مغموراً بغبار النسيان . وبغتة حانت من الشرطي التفاتة خاطفة إلى هذا الرجل الساهي وهو يمد يده إلى قلب الفرن المضطرم ويخرج الحدوة المتجمّرة منه بأصابع يده المجرّدة ويضعها فوق السندان ، من دون أن يستعمل ملقطه الحديدي .. التقطها أمام عينيه مباشرة ، كأنه يغمس أصابعه في حوض ماء لا أكثر !. في الحال أحسّ الشرطي بأن تلك الجمرة الحديدية التي توشك أن تنصهر تلسع صدره وتصيب عينيه بالغشاوة ، فهبّ هارباً من أمام الحدّاد لا يلوي على شيء . ومنذ ذلك اليوم والشرطي ما انفك يؤمن بأن هذا الرجل ليس من البشر ، وظلّ يتحاشى النظر إلى ناحيته كلما قاد مطيّـته إلى الإسطبلات .
كانت حرارة بدن الحدّاد مرتفعة على الدوام ، اعتاد أن يكثر من شرب الماء البارد صيفاً وشتاءاً ، وكثيراً ما شوهد وهو يضع شظية الثلج في قدح مائه ، ويمدّ سبابته ليمزجهما قبل أن يردّ ظمأه .
عيناه تربكان من يحدق فيهما ، في كل منها فرن يلتهب . إن نظراته الشديدة العمق لا تنسى .. نظرات تعلق في الذاكرة ، يمكن أن يحسّ بها المرء بعد خمسين عاماً على أول نظرة منها !. نظرات خارقة ، تنطلق من نجمتين مضيئتين تنفذان إلى ما وراء الأستار .
كانت نظراته تشبه نظرات الغوّاصين ! .
لمدة طويلة من الزمن عمل معه مساعد في المحل ، رجل فقير على شاكلته . لم يحدّد له راتباً أو أجراً معلوماً ، بل جرى العرف بينهما أن يأخذ هذا المساعد من أرباح الدكان مقدار ما يحتاجه كل يوم من أيام العمل . وكان الجميع يعلمون أن الحدّاد يبيع مشغولاته بسعر أقل مما يبيع به الآخرون .
كان في غاية الرحمة ، والرقّـة ، والتعطّـف ؛ لم يبخل يوماً ما بالإحسان على إنسان محتاج . وليس من الغريب إذا ما عاد إلى منزله وهو لا يحمل سوى مبلغ زهيد من المال لا يسد به رمق عائلة كثيرة الأبناء .، ولكنه امتلك قدرة على تحمل المشاق والواردات ، ولم يكن قانطاً من رحمة السماء .
♦♦♦♦
في ظلال الغسق وهدأته الرحمانية اعتاد الحدّاد أن يجلس عند جدار خارجي من جدران مزار مقدس ، عند ركن بعيد عن الزحام . كان يجلس بثوب أسود نظيف ، وقد شمّر كمّـيه عن ساعديه ؛ وأشرق وجهه مفعماً بالطيب والبراءة ، ومن تحت حاجبيه المتعبين تنبض نظراته الكوكبية الثاقبة وهي تطفح من بئري الحكمة والوقار . كان جسده يلتّـف بعباءة أرجوانية ، في العادة ، كما لو كانت قشرة رمّان تلتّـف بحرص حميم على ثمرتها .
جميع من يعرفونه كان يستهويهم مرأى جلوسه وهو يسند عرقوبيه المكشوفين على مداسه الأحمر في غاية العفوية والبساطة ، وفوق سيمائه الواثق يترقّـرق طيف ابتسامة روحه السمحة .
في كل يوم يجلس عند أبواب الكبرياء الإلهي قريباً من الجبروت ، حالماً بجذبة من جذبات نور الأنوار ، ومتنسّماً بعمق عبير السماء .
كان يبدو ملاكاً أسبل جناحيه وهو يجلس على الأرض مباشرةً ، وفي ثوبه الأسود وكوفيته البيضاء لم يكن غير طائر سنونو تشبّـث بغصن السكينة وهو ينتظر في لهفة موعد الأذان .
كان ، في كل لمحة منه ، يلوح شيء من الله .
عند كل غسق ، وفي جلسته التسبيحية البعيدة عن مشاغل الدنيا ، يظل يجلس في الركزة الأولى من حرف الشين .
كان الحدّاد مُنقاداً إلى درب السلوك ويستهويه الرحيل دائماً . كم من مرّة نشد وتحرّى عن عارف يأخذ بيديه على هذا الدرب ، ويا لحسن حظه أيام لم يعثر على سائق وهادٍ في تقصّـيه وتعقّـبه ، لتواتيه فرصة لا أجمل ولا أحلى منها .. فرصة لم تسنح للكثيرين من أمثاله ، تلك الفرصة الإلهية التي سنحت له ذات مساء ؛ حينما همّ بفرش سجادة صلاة لعارف من العرفاء ، الذي اخترق روح الحدّاد ، في الحال ، بنظرة تمحيص لا تخطيء طريقها ، وأخبره بمودّة وشوق قائلاً :
« طال انتظارك يا رجل ، فأين أنت ؟ » .
فارتعدت فرائص الحدّاد وذهل ، وأجاب الرجل طائعاً :
« عسى أن يكون فلاحي بك فلاحاً به » .
تتابعت لقاءاته مع الأستاذ ردحاً من الزمن ، حتى قطع شوطاً بعيداً في السلوك ، وأمسى يجلس ، فيما بعد ، في الركزة الثانية من حرف الشين .
♦♦♦♦
من صيف إلى شتاء ، ومن شتاء إلى صيف ، كانت تدور به الأيام العجاف ، في شظف من العيش وعسر من الحال . وقد أرغمه الفقر المدقع إلى السكن مع أبوي زوجته في ذات البيت .
كان الأبوان يعيشان في جانب وعائلة الحدّاد تعيش في الجانب الآخر ، في غرفة عفا عليها الزمن وباتت وخمة الرائحة .
في الواقع كان حموه يعطف عليه ويحبه حبّاً جمّاً ، ولم يهن عليه أن يلقى زوج ابنته مشرّداً مع عائلته من دون مأوى ، فبسط جناحيه عليه ورفق به ، وسارع لمنحه غرفة في منزله . وشغل الحدّاد تلك الغرفة مدّة طويلة أنجب فيها الكثير من الأبناء .
على العكس من زوجها لم تكن حماته تحبه ولا تطيقه البتـة ، وقد عدمت كل مشاعر العطف والحنو ، ولم تكن تتورع عن إبداء أنواع الأذى له بالقول كما بالفعل .
كانت تلك المرأة ربّان البيت وقائده .. امرأة موفورة الصحة والعافية ، قدّت من حديد ، ولكنها كانت غليظة الطباع ، بذيئة اللسان . امرأة متجهمة لا تبتسم إلّا لماماً . ثرثارة وصاخبة ، ما أن ينطلق لسانها الجارح سريعاً حتى يتعذّر صدّه ، أو الوقوف في طريقه . ومع ذلك كانت شجاعة وجريئة بشكل يفوق الحسبان . كان الرجال يهابونها ، بل لم يكن أحد منهم يتجرأ على العبور ليلاً قرب منزلهما أو الاقتراب منه .
بين براثن هذه المرأة الشرسة رمت الأقدار بذلك الرجل الملائكي الذي لم يكن أكثر من عشبة طريّـة ، فما أن يعود متعباً من عمله المضني ، حتى يجد نفسه بين مطرقتها الثقيلة وسندانها القاسي .
لم يكن يفصل بين غرفته وغرفة أبوي زوجته في الجانب الآخر سوى أكياس الرز ، الذي له رائحة العنبر، وظروف السمن الحيواني المعدنية المكدّسة على بعضها . ولكن لم تكن عائلة الحدّاد لتحصل من ذلك الخزين على شيء ، كان يمكنهم التمتع بروائحها العبقة وحسب . كانت حماته تتعمّد أن تراه في شدّة وعسر ، لكأنها كانت تسعد بذلك وتسرّ كثيراً . وإزاء تلك الخيرات المكدسة إلى جوارهم صارت مشاعر الحرمان العوز تستيقظ في أعماقهم ذابحةً ذبحاً بلا رحمة .
عانت عائلة الحداّد من العوز ما عانت ، فقد كان هو وزوجته يفتقدان حتى الفراش والغطاء ، ولطالما سحبا نصف الحصير الذي يستلقيان عليه نياماً من أسفلهما وألقياه فوقهما من شدّة البرد ! .
من الجلي أن سبب نفور تلك المرأة منه وتعسفها لم يكن إلّا بسبب الخصاصة التي ألمّت به لا غير ، فكانت ترى في ذلك الفقر قبحاً وضرباً من العار ..
لم يكن الثراء وبحبوحة العيش التي كانت تتمتع به أم زوجته يمنعها من أن تمدّ يد العون إلى عائلة ابنتها وانتشالها من حالها المزري ، ولكن ما كان يمنعها أشدّ وأمضى ؛ فقد كان صدرها المشحون بالضغينة والظلم يدفع بها إلى أن تتمنّـى لتلك العائلة مزيداً من الضيق ، والمعاناة ، والمحن ! ..
كانت تتشفّـى ، وتتلذّذ بمرآهم وهم يصارعون الموج المضطرم في بحر الفاقة والحرمان .
♦♦♦♦
منذ أن حصل اللقاء بين التلميذ وأستاذه الروحي راح الحدّاد يتدرّج في مسالك العرفان ، وأخذت تنزاح من أمام ناظريه أسدال الآفاق المبهمة .
كان لشدّة الحالات الروحية ، والفوائد الجمّة من محضر أستاذه ، غير ميّال لجمع المال والتفكير بشأنه ، كما هو حال نسبائه ؛ ولم يكن ليرد فقيراً أو محتاجاً ، على الرغم من ضيق ذات اليد . كانت حالته على هذه الشاكلة ولم يسعه تبديلها .
تجمّلت زوجة الحدّاد بالصبر على عيشهما المزري طويلاً ، ولكن أنّى لهذا الصبر أن يدوم ؟ ..إذ لاح أنه آخذ بالنفاد ؟ . وهكذا هرع ذات مرّة إلى حضرة أستاذه ، مغتمّاً ومكروباً ، ليشكو إليه نكد وظلم حماته الذي بلغ الزبى ، فبات غارقاً في أشجانه وضيقه ؛ وقد عيل صبره ، ولم يعد يمتلك الحلم والتحمّل على أذاها . وأخيراً طلب من أستاذه الأذن في طلاق زوجته ، ولكن الأستاذ الذي يخبر ذلك جيداً نظر إليه نظرة المستريح ، وسأله في غاية اللطف ، وهو يبتسم في وجهه تبسّماً مليحاً :
« بغض النظر عن هذه المنغّـصات ، هل تحب زوجتك ؟ » ..
« نعم » .
« أتحبك زوجتك ؟ » ..
« نعم » .
« لا أذن لك في الطلاق أبداً ، فاذهب واصبر ، فإن تربيتك على يد زوجتك ، ولسوف يكون تأديبك على يدها ، فعليك بالتحمّل ، والمداراة ، والحلم » .
في هزّة من رأسه أجاب الحدّاد ، ثم أطرق ساهماً . وما لبث أن عاد أدراجه كما لو أن قلبه مغسولٌ من النقوش .
عاد إلى مأوى التنغيص .. إلى منشار لسان وقح .. إلى عواصف الغبار الهوجاء .. إلى حيث يجرّد من ثياب إنسانيته ، ويرمى به فوق سندان البذاءة . حتى كانت تلك الليلة التي فاض فيها العذاب والرحمة معاً فيضاناً طاغياً .
في ليلة صيفية وغرة عاد الحدّاد إلى منزله ، وقد مرّ جزء من الليل .. عاد متعباً ، جائعاً ، وعطشانَ . ولج البيت ماشياً إلى غرفته مباشرة ، يجر أقدامه الموهنة . رأته حماته ، وهي تجلس إلى حوض الماء في وسط الفناء ؛ كاشفة عن ساقيها المكتنزتين من غير احتشام ، وهي تصبّ عليهما الماء تكراراً ..
أبصرت بجسده المترنح ، وهالها مظهر الفقر الذي كان عليه ، وأحست بالمرارة والعار بأن يكون هذا الرجل نسيبها . رفعت صوتها على الفور وصاحت به في غاية الفظاظة :
« قف ! » .
وتسمّر جسد الحدّاد النحيل في موضعه .
« إلى أين ذاهب ؟ » .
« إلى غرفتي ! » .
« غرفتك ؟ .. من يسمعك وأنت تقول هذا القول ، يحسب أنك تمتلك غرفة في منزلي ، هل تملك قوت عيالك قبل أن تمتلك غرفة يا وجه الفقر ؟ عدْ أدراجك وابتعد عن بيتي » .
« اذكري الله يا امرأة » .
« الله يعلم قبل غيره بما تفعله أنت ، حدّاد مثلك يكد من أول النهار حتى نهايته ولا يعود لعياله إلّا بغبار العمل وسخام الفرن يصبغ وجهه ، قلْ لي ما الذي تفعله بالنقود ، وأين تضيعها ؟ » ..
« ……………… » .
« الحدّادون من أمثالك يصنعون الذهب ، وأنت لا تصنع غير العار ، اخرج من بيتي وإلّا فعلت بك الأفاعيل » .
رجل حسّاس مثله ورقيق منتهى الرقّـة أمضّه وقطّـع نياط قلبه ما سمع من كلام قبيح ، ولكنه تحامل وتغافل عن الأذى ، فأولاها ظهره ، وجرّ أقدامه بفتور إلى غرفته من غير أن ينبس بحرف . يا للهراء ، قال في دخيلته ، كيف يمكن لهذه المرأة البليدة أن تأمل الكثير من كادح جلّ زبائنه من الشرطة الخيّالة .
كان حريّاً به أن لا يؤوب إلى الدار إلّا بعد أن يملأ جيوبه بالدراهم ، ولكنه كان يرفض أن يكون مجرد كيس دراهم . كانت تلك الأفكار تشعره بالخيبة ، وتزيده تجهّماً وكمداً .
وقفت المرأة في وسط الحوش ، وقد استعرت فيها نيران الغضب ، ورفعت عقيرتها بالصياح ، وبات يسمعها كل من كان في المنزل . إلّا أن الرجل لزم الصمت ، وكان أعزل حتى من الكلمات ، وراح يستغفر ربه ، وقد حار في أمره .
ولأجل أن تهدأ ثورتها ، ويقي أسماعه من التجريح الغامر ، سرعان ما عاد الحدّاد ليخرج من الغرفة ويرتقي سلالم الدرج الذي يفضي إلى سطح الدار ، حيث اعتاد أن ينام هناك معظم ليالي الصيف .
أمست المرأة أكثر تمادياً ، وارتفع صوتها عالياً كالهتافات الحماسية ، وكانت جميع حروفها متسوّسة . سرعان ما لحقت به ووقفت عند السلالم الأولى ، وهي تجأر بصوت طرق أسماع الجيران جميعاً ، ماضيةً في ذكر مثالبه ومواطن ضعفه .
ذاب الرجل من فرط الحياء .
طالما عاش تحت وطأة مطرقتها . بات تأنيبها الفج زينة الليالي ، ولسوف تبقى كذلك مادام الأمر يسعدها ويسليها كما يبدو ! .
أدلى برأسه من حافة سطح الدار وقال لها بصوت مهموس ، متوسّل ، وخجول :
« هوّني عليك يا حماتي ، هوّني عليك ، فأنا خارج من المنزل » .
لم يعد أمامه من مهرب غير أن يهبط من السطح سريعاً ، من غير أن ينتهرها ، بل كان الرجل يتحاشى النظر في وجهها ، أو المرور حيالها أيضا ً .
خرج بهيئة البائس ، وهو ينفذ خلال العاصفة الهوجاء مسرعاً ليتوارى عن أنظارها ، وكانت في ذروة استثارتها ، وما كانت تدّخر ما في وسعها للنيل منه .
حالما هوت به السلالم سريعاً إلى العراء أحسّ بأنه لم يزل يتنفّـس، بعدما أوشك على الاختناق . يمشي متخبّطاً في شوارع المدينة وأزقّـتها ، لا يدري إلى أين يذهب ، وفي أي اتجاه يسير .
طوّحت به الهموم من شارع إلى آخر، مشتّت الأفكار . كان ضائعاً بحق في أجواء المدينة الخانقة ، وكان زمامه متهتّكاً . راح يهيم مستوحشاً مثل دخان أشهب ، كئيب ، ضائعاً في طيّات الظلام .. دخان ابتلعه صدر الليل ولم يطلقه ثانيةً .
كانت ملامحه المتجهّمة تشدّ من حرارة الطرقات .
مضى عارياً من كل آمال وأمنيات ، مسلوب الإرادة والاختيار ، أشبه بقشة تدور في الهواء .
يجول الطرقات عاجزاً وضعيفاً ، وغريباً بلا دليل . كان عليه أن يسير طويلاً فقد كانت المدينة ممتدّة الأرجاء . في قلبه شيء سجين .. شيء كبير يرسف بالقيود ؟
قادته قدماه إلى كل ركن ومكان في أرجاء مدينته ، وهو ساهٍ ، وقد طافت في فكره جميع أيام حياته ، مرّت من أمام عينيه كما يمر شريط فلم ؛ وقلّبها يوماً يوماً ، ليجد أنه لم يندم على كل ما ضيعه وأنفقه . كان سعيداً ومرتاحاً في اللا شيء على الرغم من فقره وأحزانه .
كان يرى أنه من الغثارة والحماقة أن يلهي نفسه عن طريق السلوك برنين الدراهم ، إن الفكرة تفزعه ، وتزعزعه بحق ، فقد كان خائفاً من ضياع وقته وتخلّـفه عن لقاء المحبوب ! .
بعد أكثر من ساعة من الطواف لاح كما لو أنه غير آبه بشيء .. كما لو أنّه اعتاد على هذا النوع الرائع من الضياع ..
لم تطفح على قسمات وجهه أيّة لمحات من ضغينة أو أحقاد . على الرغم من تلك الدروب المتسخة بالغبار والقاذورات ، كان يشعر أنه سائراً في دروب التعالي .
قريباً من أحد المنعطفات تناهى لسمعه صوت عبرات متكسّرة ، بحّاء ، تخرج من قلب أحد الدور القديمة ، وكان ذلك بكاء طفل في جوف الليل . هزّت كيانه ، وأجفلت جميع مشاعره لوعة ذلك البكاء . وقف لحظة ينصت ، وقد سالت على خدّه دمعة ، قبل أن يعود لينطلق في مسيره . طعنه الصوت الحزين ، وأعاده إلى وعيه ، وجعله يغالب أشجانه ، بل ليرميها أرضاً ، ويسحق فوقها بنعليه ، ويمضي بعيداً بلا هموم .
تفتّحت روحه على عالم رحب ، منبسط .
مرّ قريباً من بيت حضرة الأستاذ وراح يستذكر جميع وصاياه ، ومض في الحال بريق خاطف في قلبه . وما أن بات جوار المزار المقدّس حتى اشتد ذلك الوميض وأشرقت روحه الغائمة .
أحسّ بالوجد الإلهي يسمو عالياً فوق تلعة البئر المظلم .
أمسى ذلك الليل مثل سجدة صلاة مستغرقة .
ثمة جلجلة أجراس بدأت تصلـصل في الأعماق ، أحسّ بأن جوفه مثل حرم كنيسة كبيرة .
طفق الصمت يحدّثه بلطف طوال الطريق ، بلسان عذب كماء بارد .
مشى على شاطئ بحر الليل مبهوراً بصفائه وسكونه . ثم توقّـف فجأة ، ولمعت عينا الغوّاص في وجهه لمعاناً باهراً ، ولم يلبث أن رمى بنفسه غاطساً في البحر ، من دون أي تردّد ، نحو مكمن اللؤلؤ النادر ، الثمين .
في سكون الليل مشى وئيداً ، لا شَوْبَ فيه ، وغلالة عباءته الأرجوانية ، الداكنة ، تنسدل فوق جسده عشقاً ومودّة .
في هدأة العتمة أخذ يهب على وجهه عبير سماوي مع نسائم الليل ، فكان عليه أن يعب من تلك النسائم . وشيئاً فشيئاً سطع بدر الحبيب بين جوانحه وراح يغرق في جماله ! .
بدأ الغبار ينجلي عن مرآة قلبه ، ويشعر بأنه يتفتّـح بنداوة على عالم آخر . بغتة تكشّفت عين بصيرته لتقرأ ما هو مدوّن في الغيب ، وطفت بين شفتيه جميع الحروف المنسية .. الحروف التي لم يعد يخبرها أحد .. طفت بين شفتيه مثل قطرات من ماء بارد .
فجأةً رأى ، وهو في تلك الحال ، أنه صار أثنين ، أحدهما الحدّاد الذي اعتدت عليه أم زوجته ، ومرّغت كرامته بالتراب ، وطردته من منزلها شرّ طردة ؛ والآخر هو الحدّاد المجرّد ، والمحيط ، والمتسامي ، الذي لم ينل منه السباب ولا الشتيمة .
انصهر الحدّاد فجأةً ، وارتعد بدنه ، ومادت به الأرض . وكان يسيل عبر الشوارع على غرار الماء . تلاشى العرق الذي كان يغطّـيه ، تاركاً أصداف الذهب تتلألأ على جسده .
لم يعد مبلّـلاً بالعرق ، بل كان حينها طفلاً وليداً مغموراً بماء الرحم .
غلبه الإحساس بأن حماته لم تكن تسب هذا الحدّاد الجديد على الإطلاق ، وما كانت تروم في شتائمها سوى الحدّاد القديم .. الحدّاد السراب .. الحدّاد الذي كانه ، والذي غادره للتو ، ذلك الحدّاد الجدير بكل ألوان الأذى وقبيح الكلام ، إنه ولا شك يستأهل تلك البذاءة التي لا تحتمل . أما الحدّاد الذي آل إليه الآن فلا يُستَحق أن يُشتم ويُهان . ومهما تطاولت عليه فإن ذلك لا يمسسه أبداً .
ها هو أخيراً يتخطّـى نفسه ويخرج منها كما تخرج الحيّة من جلدها القديم .
حصل ذلك مثلما يتلقى المرء الشارد الذهن لطمة مباغتة تعيده إلى وعيه الحقيقي ، أو مثلما ينتقل مباشرةً من جانب الضوء الخافت إلى جانب الضوء الشديد السطوع ، الذي ينير كل شيء ، ويكشف جميع الأستار .
انكشفت أمامه هذه الحالة المدهشة ، الرائعة ، التي حصلت له ، والتي أطارت الهم والغم من بين جنبيه ، وبعثت في قلبه السرور ، وانشرح لها صدره .. انكشفت على ما يبدو إثر تحمّله الشتائم والألفاظ الفجّـة ، القاسية ، التي لم تتورع حماته من أن تكيلها له بسخاء مفرط .
يا للعجب إن إطاعة كلام الأستاذ ، الناصح ، كم فتحت له من فتوح .
عاد إنساناً آخر انطلق ثملاً ، محلّـقاً من حبس الدنيا والبدن ، وصعد فوق آدميته وراح يصعد ويصعد ، يروم الوصول إلى المنتهى .
وفيما كان يخوض في غدران الذهب عبر هالة المساء الأخضر ، قرّ عزمه على العودة إلى المنزل ثانيةً ، فعاد كما يعود العبد الآبق .. عاد أدراجه ، وقد تاه فرحاً ، وهو يشعر بالنعاس الخدر يداعب أجفانه . وولج البيت منتشياً ، يغمره الهناء ، وتمتلئ روحه بفيوض السعادة . وانطلق صوب حماته ليرمي بنفسه بين يديها ، كما لو كانت حملاً وديعاً ، مغضياً عينيه ، وحانياً ظهره ، بهيئة الآثم الذي يطلب الغفران .
كان منتعشاً وقتذاك ، طافحاً بالبشر ، وتشيع النضارة على محيّاه ، كما لو أنه استحمّ لتوه ، وكانت تفوح من بدنه رائحة سماء .
وانكبّ على تقبيل أقدامها وكفّـيها ، وقال لها ببالغ الاعتذار :
« لا تتخيلي أنني انزعجت من كلامك ذلك ، فقولي فيّ الآن ما شئت فإنه مفيد لي » .
تحدّث عن حسنات بدت له مؤكّـدة . وأخبرها بتلقائية حيّـة ، وصدق ملؤه الثقة :
« سأبقى في شوق دائم لسماع صوتك » .
انعقد لسان المرأة ذهولاً وحيرةً ، وعجزت عن إطلاق حرف واحد . لم تصدّق ما سمعت وما رأت . انكسر لسانها فجأةً وهي تقول في غصّـة :
« ها ..؟ » .
وكان الحدّاد يحدّق فيها بقلب متسامح وعينين يفيضان بالشكران . وما لبث أن نهض معتذراً
وخجلاً ، ثم نفض الصيف من أطراف ثوبه ليتساقط في حجرها ..
توجّـه الحدّاد إلى غرفته بقلب مشرّع الأبواب ؛ وكان يطلق زفرات حارقة حبسها في أعماقه دهراً طويلاً . استروح أجواء الغرفة الساخنة التي لا تُطاق ، وسارع ليدس جسده المنهك إلى جنب زوجته ، ويغط لفوره في نوم ناعم و عميق ، جعله يشعر بالرضا في أنه صار ينام في الركزة الثالثة من حرف الشين .