ابنة القائمقام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في رواق المكتبة العامّة ، وقفت فتاة صغيرة ، تبتسم في وجه صاحبتها . وكانت ابتسامتها بالغة النعومة والوضاءة . عندما أدركت أنّني أطيل النظر إليها أسرعت ترفع كتاباً ، كانت تضمّه إلى صدرها ، وأخفت فمها بطرفه . حينذاك لاح لي ما تبقّى من وجهها أشبه بنصف قمر يطلّ من بين السحاب .
بعد لحظات أنزلت الكتاب إلى صدرها ، والتقت عيناها بعينيّ ، نظرت إليها بدهشة ، وعشقتها فجأة ! .
على غفلة من أمري اخترق سهم حبها قلبي .
حين شبّ اللهب في حشاشتي ، أسرعت خارجاً إلى حديقة المكتبة ، أقاسي الألم ، وأخفي دموعي ، هكذا يبدأ عشق الصبيان .
في ذلك اليوم لم أطل المكوث في المكتبة ، عدت ،على غير عادتي ، في وقت مبكّر إلى منزلي ، وانكفأت مختلياً في غرفتي ، ممعناً التفكير في هوى هذه الصبية الساحرة . وممتحناً نفسي بأفكار ساذجة .
لم أنم في تلك الليلة إلّا لماماً .. لم أنم إلّا بعد أن حزمت أمري على أن أكتب رسالة عشق لها . ولكنّ أوّل شيء خطر في ذهني ، وأنا أنهض من النوم في الصباح ، هو أن أمحو فكرة الرسالة تلك من بالي .. محوتها بالكامل ، وقد تهيأ لي أنّها فكرة خرقاء ، لا يلجأ إليها سوى الحمقى .
إنّ مجرد ورقة تبث فوقها أشواقك المشبوبة ، الحيّة ، لهوَ أمر في منتهى التفاهة . ما الذي يمكن أن تنطق به هذه الورقة بشكل أرقّ ، وأصدق من لغة العيون الصريحة . وقلت في سريرتي سأدع الأمور تمضي كيفما اتفق .
كنت من روّاد المكتبة ، على الرغم من حداثة سنّي ، غير أنّ العشق قادني ، فيما بعد ، إلى ارتيادها بانتظام أكثر ، إلى حدّ أخذت أزورها كل يوم .
سرعان ما اكتشفت أنّ هذه الفتاة تزور المكتبة مرّة واحدة في كل أسبوع . كانت تأتي عصر يوم السبت بالتحديد ، حيث يكون الدوام محدوداً في مثل هذا الوقت ، وتكاد تكون المكتبة حينئذٍ خالية من روّادها .
صرت حريصاً أشدّ الحرص على رؤيتها في هذا الميعاد . أقف بانتظارها عند بوّابة المكتبة ، وما أن تهلّ طلعتها حتى أدلف إلى داخل المبنى مسرعاً ، أسبقها ، وتدلف خلفي ، وكانت أشجار الياس ، في الحديقة ، تستقبلنا دائماً بفوح عطرها .
سمحت لنا الفرص أن تلتقي عيوننا ، لثلاث مرّات أو أكثر ، التقت بانبهار ، وبهجة لا تسعها الأرض ؛ وقالت حدقات العيون كلاماً صافياً ، بليغاً ، يفيض حناناً ، مثل ذلك المكتوب في كتب المكتبة .
كان شعرها الفاحم ثريّاً ، ومنسدلاً بخيلاء ، وعيناها تضيئان في عتمة الرواق .
في صباح أحد الأيام المطيرة ، وكان يوم جمعة ، كنت أقف في الرواق ، على النضد المخصّص لعناوين الكتب ، ساحباً نحوي أحد أدراج النضد ، غارقاً في تصفّح تلك العناوين ، في غياب كامل عمّا يجري من حولي . في غضون ذلك الوقت ، انصبّ في سمعي صوت هامس يقول :
« صباح الخير » .
« صباح النور » .
أجفلت مرتبكاً في غفلة من أمري ، لم أتوقّع ظهورها إلى جواري في يوم كهذا . وقفت غير بعيد ، تنتظر دورها في معاينة عناوين الكتب أيضاً . كانت نظراتها تدغدغني ، وتسكب على وجهي نورها .
ارتدت ثوياً نيليّاً ، رصّعته الأقمار ، أحسسّت أنّ السماء هبطت عليّ فجأة ! .
أعدت الدرج إلى موضعه ، وهتفت في شيء من الحرج :
« تفضّلي ، قلّبي العناوين » .
تنحّيت جانباً ، أفسح لها المكان . وقفت مستثاراً وعيناي تنفحان مودة .
« لا ، أكملْ أنت ، لست في عجلة من أمري » .
عنّ في بالي أنّها لم تحضر إلى المكتبة هذا اليوم بالتحديد ، إلّا لأجل أن تراني ، أو هكذا جنحت بي أخيلة الهوى .
ألحفت عليها أن تبدأ هي أوّلاً ، وهكذا راحت تسحب الأدراج باحثة عن الكتب . لم يكن هنالك من أحد سوانا ، وذلك ما منحني الجرأة في أن أسألها قائلاً :
« ما اسمك ؟ » .
« رنا » .
« ووالدك ؟ » .
«عبد اللطيف .. القائمقام » .
ثم ابتسمت في عينيّ ، قبل أن تعيد القول ، في تلقائية صادقة :
« أنا ابنة القائمقام » .
كانت البساطة تنبع من بين شفتيها ، وكانت أكثر جمالاً ودهشة من الأيام السابقة . عادت تنغمس في قراءة عناوين الكتب في الأدراج ، بينما سكرت وأنا أطالع ملامح وجهها الطفولي النضر .
بانت رنّة لهجتها شمالية ، باردة . تساقطت كلماتها ندفاً من الثلج في مسامعي . ولكنّني كنت أقف قريباً منها ، إلى حدّ شممت رائحة السمسم من كلماتها ، فغمرتني تلك الرائحة بألفة دافئة تلفّت من حولي ، وقلت لها بصوت مهموس :
«أنا أحبك ! » .
قلت لها ذلك بلا لفٍ ولا دوران .. قلته كما كان مكتوباً في كتب المكتبة .
تضرّج خدّاها بلون الرمّان ، ثم رفعت جيدها النحيل ، الذي كان يشبه عنق إبريق من الفضة ، وأشرق وجهها بابتسامة مشمسة ، أضاءت أعماقي ، وسألتني في الحال :
« طالما أشاهدك تطالع الكتب ؟ » .
« نعم .. » .
« ما الكتب التي تفضلها ؟ » .
« روايات إرسين لوبين » .
« هل تجدها ممتعة ؟ » .
« أكتر متعة مما تتصوّرين » .
« إذن سأقرؤها أيضاً » .
« سوف لن تندمين على ذلك » .
« أين يمكنني أن أعثر على عناوين كتبها ؟ » .
« في الدرج الثاني » .
« هنا ؟ » .
« نعم » .
انهمكت تتفحّص تلك العناوين الكثيرة بتمعن ، حتى إذا ما أحسّت بالتعب ، التفت إلي وقالت :
« أرغب في استعارة كتابين منها ، أيهما تقترح علي البدء في مطالعتهما ؟ » .
أطرقت هنيهة ، وأنا استرجع تلك الكتب في ذاكرتي ، ثم أجبتها :
« أفضّل أن تقرئين كتاب ( اللص الظريف ) ، وكتاب ( الكوخ المهجور ) » .
« شكراً » .
« سأراك هنا في كل أسبوع » .
« أنا ارتاد المكتبة عصر كل يوم سبت » .
« أعرف ذلك » .
نظرت إلي بدهشة ، ابتسمت ولم تقل شيئاً . من الواضح أنّنا كنا نعرف بعض الأشياء عن بعضنا . كانت عيناها صافيتين ، وتلمعان ببريق جذّاب . وكانتا صادقتين في تعبيرهما ، وهي تحدّق في عينيّ ، وتسنّى لي أن أرى ، عن قرب ، السحر والوهج اللذين يضوي بهما وجهها .
كنت صغيراً ، ولكن على الرغم من ذلك أحسست بأنّ شرارة حبها كانت تحرقني .
همست في أذنها مؤكّداً :
« إذن سنلتقي هنا السبت القادم » .
وارتجفت شفتاها ، ولم تنبس بشيء . كانت كلماتي قد بلغت فؤادها ، وتركتها وأنا محلّق في عالم الأخيلة المجنّحة .
هكذا ، في غاية السلاسة أحببنا ، كما لو كنا في موعد قديم . ومثلما استعارت روايات إرسين لوبين ، وحملتها معها ، استعارت قلبي ، كذلك ، وحملته إلى بيت القائمقام ، يا لسعادة قلبي ! .
وهكذا أيضاً ، أحسست فجأة برحابة الدنيا وجمالها الفاتن ، وفاضت علي النشوة من دفتي كل كتاب من كتب المكتبة .
كانت متعة العشق تذيبني ، وأنا أبذل العناية على ثيابي ، التي كنت أرتديها سابقاً من غير أن أحفل بها . أصبحت أمشّط غرّة شعري بأقصى اهتمام ، وأرميها إلى جهة من رأسي ، بصورة تثير انتقادات زملائي في المدرسة ! .
لم يكن مستغرباً من عاشق مثلي أن أبتعد عن المشاكسات السمجة ، والعبث الصبياني الذي لا طائل منه ، والذي كان كثيراً ما يبدر عن أصحابي ؛ وأركن إلى الهدوء . أحسست أنّني أتغير كثيراً عمّا كنت عليه ، وأنّ وقاراً وسكينة باتا يخيمان على شخصي ، وحياتي .
تكرّرت لقاءاتنا كل أسبوع ، ودرجت أروي غليلي بمرآها عصر كل يوم سبت . غير أنّني ما كنت أفترق عنها حتى يشتد أوار العشق بين جوانحي ، فيتبدّد كل صبري على الانتظار ، والذي ما برحت أحسّ به طويلاً ومريراً .
لم أعد أطيق الانتظار أسبوعاً كاملاً حتى يحين لقاؤنا ، وتكتحل عيناي بمرآها ، فقد لاح لي أن السبت ينأى عني كثيراً ، أحسست كما لو أنّه يوم في نهاية السنة .
لذلك تعمّدت إلى رؤيتها في الطريق ، وتلك رؤية مختلسة ، ولكنّها تذلّل من حرقة نار العشق ، وتطمئنني فليلاً .
كان بيتها يطل على شارع النهر ، وسط المدينة ، ومدرستها لا تبعد عن البيت ؛ فكنت أجلس على جانب النهر ، منتظراً عودتها من المدرسة بإطلالتها الجميلة ، الفاتنة ، لأصطاد النظرات الشافية منها .
من بعيد كان يتناهى لسمعي قرع حذائها الجلدي على قارعة الطريق ، رتيباً وحلواً ، يتردّد صداه بين أضلعي . كانت أرنبة أنفها طفولية ، عريضة ، تلمع ضاحكة على الدوام .
تقع عيناي عليها ، بجسدها الممتلئ ، وأناقة ملابسها المدرسية ، وهي جذلة بين رفيقاتها ، فأهبّ واقفاً في موضعي ، مفتعلاً انتظار شخص ما . كانت تسرّ لرؤيتي . ما أن تقع عيناها علي حتى ترتسم على وجهها ابتسامة دلال . سرعان ما يتصاعد السرور من قلبها إلى شرائط شعرها الحمر ، التي تهتز راقصة يميناً وشمالاً .
أبقى متسمّراً في مكاني ، أرقبها وهي تبتعد عني ، وأنا أرتشف آخر قطرة من ظلّها .
ذات مرّة مرقت من أمامي ، وأسقطت عمداً وردة حمراء من يدها ، جعلت الدرب والمساء يضوعان بعطرها .
كان النهر يغني لنا ، والدرب إلى بيت القائمقام مرصوفاً بالعشق .
֍ ֍ ֍
من بين أصدقائي ، وزملائي في المدرسة ، كان ( يوسف ) صبيّاً متميّزاً بين الجميع .
في الواقع لم يكن متميزاً في دروسه . كان وسيماً ، تغلب الشقرة على شعره ، وتعلو بشرته الصافية حمرة متدفقة ، ولأجل ذلك درجنا نطلق عليه اسم ( يوسف الأحمر ) . له أنف وفم ساهران ، وعينان تشرقان في منتهى الأنس ، لا يستطيع الإنسان ، حينما تقع عيناه عليه غير أن يحبه في الحال ! .
كان فتى حي ، لا يتوانى ، ولا يتذمر من مساعدة الآخرين . وما تميّز به ( يوسف ) كذلك ، أنّه كان أكبر سنّاً منّا جميعاً ، وأضخم هيكلاً .، وعلى قدر من الرزانة ، وحسن التصرّف . فلا غرو أن صار يتمتّع بدور القائد بيننا ، سواء في المدرسة أو خارجها ..
في الواقع ، كنا لا نأتي بأي عمل من دون استشارته ، وكانت مقدرته في التمييز حسنة . وقد درج على مرافقتي ، في الكثير من الأوقات ، أثناء وجودنا في المدرسة ، كان الصبي يستسيغ سلوكي الهادئ ، ويميل إلى سماع المغامرات البوليسية ، التي كنت أرويها له بتشويق ، وتحبيب .
ربّما كان ( يوسف ) الصبي الوحيد الذي فطن إلى جملة التغييرات التي طرأت على حالي ، بعد أن ذبت في عشقي . ولعل فطنته تلك تضاهي فطنة رجل بالغ .
جرّب هذا الصبي بضع محاولات فاشلة ، للاختلاء بي واستدراجي للحديث عمّا يحصل لي .
بالطبع كنت حذراً ، وخائفاً من افتضاح أمري ؛ فلجأت إلى أسلوب المراوغة والكذب ، لأغلق أمامه أي منفذ كان من شأنه أن يكتشف ما رحت أضمره في أعماقي . غير إنّ ( يوسف ) كان يضيق ذرعاً بأقوالي ، وتدليسي ، لأنّه يهجس بأن ثمّة أمر أعظم ما زلت أخفيه عنه .
سرعان ما ينسحب عني متوعداً وهو يكرّر قوله :
« إنّ ما يحصل لك ليس شيئاً هيّناً » .
كنت أردّ عليه بابتسامة مضطربة ، تزيدني غموضاً ، وتشعل في أركان هيكله الفضول الصبياني العنيد ، وأحياناً أضطرّ أشدّ الاضطرار على الرد بنفرزة واضحة ، قائلاً له :
« ليس هنالك أمراً صعباً ولا أمراً هيّناً » .
« غير معقول ؟ » .
« هذا أنا كما تراني اسمرَ ، وأكلحَ » .
كنت أثق في ( يوسف ) ثقة صديق ، على الرغم من تهرّبي من جميع أسئلته ، واستجواباته المتكرّرة لي . وليس إحجامي عنه ومصارحته بحقيقتي ، سوى حرصي المتناهي على ما كان بيني وبين الفتاة من حبّ نقي ، لا غبار عليه . كان حرصي على حفظ السرّ دفيناً ، نابعاً من إصراري على بقاء ذلك الحب صافياً كدموع العذارى . ولكنّ بعد مرور الأيام ، الزاخرة بالعواطف ، وإزاء إلحاح ( يوسف ) ، وإزاء ما راح يثقل صدري الضعيف من سرّ عظيم ، عزمت ، ذات يوم ، على مصارحته بكل شيء ! .
اقتدت ( يوسف ) عصر ذلك اليوم إلى شارع النهر ، وجلسنا جانباً ، في نفس الموضع الذي اعتدت الجلوس فيه ، وأنا أنتظر مقدم فتاتي من مدرستها . وهناك قلت له :
« سأبوح لك سرّي ، ولكن قبل أن أنطق بأي حرف ، أطلب منك أن تحلف أمام ربنا أن تصون هذا السر ، ولا تفشيه لأحد غيرنا » .
دهش ( يوسف ) ، واتسعت حدقتاه الجميلتان ، كأنّه أُخِذ على حين غرّة ، ثم هزّ رأسه يميناً ويساراً ، بحركة الشيطنة الصبيانية تلك .
لم يتوقّع منّي أن أكون منطوياً على أسرار ، وأكتمها عنه طوال هذا الوقت ! . شرع على عجل من أمره يردّد على مسامعي قسماً شديداً ، أشعرني بالخجل ، وأوقعني في حرج ، فسارعت أعتذر منه ، ولكنّه بدا متلهّفاً ، إذ قال لي ، وعيناه تلتهمانني :
« هات ، قل ما عندك ، أنت خير من يعرفنني ، لمَ تخبئ أسرارك عني ؟ » .
« أنا أعشق فتاة جميلة يا يوسف » .
« ماذا ؟ » .
« أعشق فتاة » .
بذلت شفتاه ما بوسعهما من أجل أن تبتسما ، ولكنهما ارتجفتا بضعة رجفات ثم تهدّلتا بوهن كما لو أنّهما ستطلقان نحيباً ، وضاقت عيناه قليلاً ، ثم قال لي بصوت لاح مثل صوت رجل عجوز :
« كم عمرها ، صغيرة هي أم كبيرة ؟ » .
« في مثل عمرنا تماماً » .
« والله لم أخطيء في التقدير ، حين رأيت غرّة شعرك وهي تبرق على جانب رأسك مثل غرّة عاهرة » .
وطفقنا نضحك معاً .
جلسنا نتجاذب أحاديثنا زهاء ساعة من الوقت ، حين أقبلت الفتاة عائدة من المدرسة ، برفقة صبيتين . رحت أشخص ببصري نحوها من بعيد ، وقلت له :
« ها هي يا يوسف قادمة » .
وطفق ينظر صوبهن ، ثم قال :
« أيهن هي ؟ » .
« الفتاة الوسطى » .
ثم عدّت أحذّره قائلاً :
« أنظر إليها جيداً ، ولكن إيّاك أن تثير شكوك رفيقتيها » .
وحين أمسين على مقربة منّا ، همس ( يوسف ) ممازحاً :
« البنت تبدو بدينة » .
في الواقع كانت الصبية ممتلئة القوام ، وليست بالفتاة البدينة ، لذلك قرصت جنبه ، وأنا أقول له :
« لا تقل بدينة ، إنّ جسدك أكثر امتلاءً منها » .
راحت ( رنا ) تنظر صوبنا ، بنظراتها الفرحة ، وهي تتأمّل صديقي تأمّلاً فائضاً . وحينما تحدّق بنا كانت الورود تتفتح حول عينيها ، وكنت أشمّ عطر نظراتها .
تفاجأت ( رنا ) إذ شاهدتني أصطحب أحدهم هذه المرّة ، بعد أن اعتادت على رؤيتي وحيداً في كل المرّات السابقة . هذا ما حدا بها إلى تفحّص وجه صديقي بإمعان ، حالما باتت على مقربة من محل جلوسنا .
كان مصباح وجهها منيراً ، وخدّاها مصبوغان بالعشق ، وكانت الحركات التي تصنعها بكتفيها ، أثناء سيرها ، تنمّ عن أنوثة متفتحة . حينما مرّت من أمامي مباشرة هزّت رأسها بإيماءة باسمة ، وكنت أعلم جيداً كيف تحييني .
سألني ( يوسف ) ، الذي كان مأخوذاً حتى تلك اللحظة :
« متى عشقتها ؟ » .
« منذ بداية هذا العام » .
« منذ بداية العام ، وأنا لا أعلم بذلك ؟ » .
وشرع يطلق أصواتاً هوائية بلسانه ، استهجاناً ، ولكنّه عاد ليسألني :
« كيف عشقتها ؟ » .
« في الواقع نحن عشقنا بعضنا فجأة » .
وفي التفاتة طفولية خرقاء ، صاح بي ، وهو يقرص ساقي :
« ألعن اليوم الذي جئت فيه إلى الدنيا ، إنّك تعشق جوهرة ، ليس ذلك وحسب ، بل تعشق ابنة قائمقام ! » .
هزّت كلماته أفرعي زهواً ، وإمعانا ، فوقفت متمايلاً إلى جانب النهر الذي كانت مياهه تنساب عشقاً .
֍ ֍ ֍
كما حدث معي بالضبط ، حين نظرت في عينيها فجأة وعشقتها ، حدث هذا مع صديقي ( يوسف ) أيضاَ . ما إن نظر الفتى في وجهها الزاهر منبهراً ، وقد مرّ من أمام عينيه كالحلم الأبيض ،
التفت ناحيتي وألم العشق والجوى يمزّق أحشاءه ! .
قال لي وقد طغت الصفرة على وجهه الأحمر :
« هل ترى ماذا فعلت بي هذه البنت ؟ » .
ونظرت إليه في حيرة ، وأنا لا أعي ما يحصل له ، وما الذي يقوله ، ولكنّه استطرد قائلاً :
« لقد عشقتني وعشقتها أيضاً ! » .
توارى شبحها مبتعداً عنّا . نهضنا وتمشينا على ضفة النهر ، ولكنّ ( يوسف ) كان صامتاً ومكلوماً .
« قل لي ما ينبغي فعله ، أنا أحترق يا صديقي ؟ » .
واحترقت معه في نيران الشفق الذي التهب به الدرب ومياه النهر .
اهتزّزت من الأعماق بمشاعر غريبة .. بمشاعر عظيمة لم أحسّ بمثلها يوماً من الأيام .
أمسكت بصديقي ورحت أعانقه ، غارقاً بسيول المحبة ، أكاد أبكي لفرط جيشان عواطفي ، التي عجزت عن كتمانها ، وقلت له :
« سيكون أروع عشق حين تشاركني حب هذه الفتاة » .
« متى تعرّفني إليها ؟ » .
« السبت القادم » .
وسرح ببصره ، وهو يتمتم قائلاً :
« كنت أظنّك فتى مثل الفتيان الآخرين ، ولم أكن أعلم أنّك إبليس من الأبالسة ! » .
في عصر يوم السبت ، قدّت ( يوسف ) إلى المكتبة برفقتي . كنت قد ابتعت هديّة لفتاتي ، إذ انتقيت لها مجموعة أقلام رصاص ، ملوّنة ، ومزخرفة بزخارف طفولية زاهية ، حملتها في ظرف وردي اللون ، مُزيّن بالزهور ، أُعجب به ( يوسف ) ، وأقترح عليّ قائلا ً :
« لمّ لا تكتب على الظرف بعض الكلمات ؟ » .
« نحن لا نتعاطى بالكلمات والحروف » .
« لمَ ؟ » .
« الكلام فضّاح » .
بدا ( يوسف ) غشيماً ، وهو يفتح عينيه على وسعهما ، وينظر لي نظرات من لم يعي شيئاً من هذا الكلام .
في رواق المكتبة عرضت على الفتاة هديتي ، وقدّمت لها صديقي . عرّفتهما على بعضٍ بكلمات مقتضبة ، ومهذّبة . أشرق وجهاهما معاً ، واعترتهما البهجة . أخذت ( رنا ) تتملّى جمال صديقي وحسنه ، وسرعان ما اشتكت من سحر عينيه ، واضطرم أوار الحب في قلبيهما ، وتاهت أفكارهما ، وأخذا يتأتئان في كلامهما . كانا عاجزين عن ضبط زمامهما . بينما رحت أنا أصبّ الزيت على النار ، عندما قلت لها بحبور:
« سنكون أروع ثلاثة أصدقاء » ..
إلّا أنّها قاطعت كلامي ، وهي تقول :
« بل أنت الرائع ! إنّ اختيارك للأصدقاء يفوق اختيارك للكتب » .
وبينما تواصل الابتسام الحلو في وجهينا ، عادت لتقول :
« سنلتقي إضافة إلى عصر يوم السبت ، في يوم الثلاثاء كذلك » .
« الثلاثاء عطلة المكتبات ، لنجعل لقاءنا صباح يوم الجمعة » .
« صباح الجمعة ، لا مانع لدي » .
بيومين من العشق ، في كل أسبوع ، سنمضي نحلّق بنشوة مع جمع الأرواح الهائمة فوق صفحات الكتب .
غادرنا المكتبة مع شمس الضحى ، مخلّفين ظلالنا تنبض بالبراءة ، في رواق المكتبة ، الذي ابتلّ بنداوة عشقنا .
« غدوت معلّماً يا صديقي ، تهندّس ، وتخطّط مثل الكبار ، يبدو أنّ العشق ألهمك ، وعلّمك الكثير مما نجهله نحن ! » .
قال ( يوسف ) ذلك ، وهو يعتصر كفي الصغير بكلتا كفيه .
بتنا نلتقي مرّتين كل أسبوع ، وهذا ما أشعل فتيل حبّنا . وذابت ( رنا ) في نار عشقها الجديد ، وراحت تغرق في بحر عيني ( يوسف ) حالما نلتقي . حتى أنّني ساورتني الشكوك ، وانتابني الخوف من أن تحبه أكثر منّي ، وتنفرد به ، ولكنّ الأيام أثبتت بطلان وساوسي .
في أحد لقاءاتنا ، تنبّهت الفتاة إلى وقوفي صامتاً ، وأنا أنظر إليهما ، وهما يتبادلان الحديث ، ويبدو أنّها استشفّت ما يجول في سريرتي ، فسارعت تقول :
« لا تصمت ، ولا تتعقّد هكذا ، أنت الحب الأول ، وأنت الحب الأخير » .
نعم ، هذا ما كنّا نقرأ مثله في كتب المكتبة ، ويبدو أنّ الفتاة صارت تقرأ جيداً ! .
كان حبّاً بريئاً ، صادقاً ، وسعيداً ، تشبّثنا به معاً ، وحرصنا عليه بالصمت والكتمان .
في إحدى مواعيدنا طرح ( يوسف ) على الفتاة فكرة غريبة ، حينما قال :
« كيف يمكننا أن نزورك في البيت ، إنّني أودّ أن أجلب لك بعض الهدايا ؟ » .
« كلا ، إنّ أمي لا تسمح لي بذلك .. » .
« حتى ولو لدقائق فقط ؟ » .
« كلا ، ولا هذا » .
« نراك عند باب البيت ، ثم نمضي ؟ » .
أطرقت الفتاة ، كأنّها تفكّر في شيء آخر ، وقالت :
« ولكن يمكنكم رؤيتي لدقيقتين فقط ، إن شئتم ، وذلك إذا جئتم البيت من باب الحديقة الخلفية ، سأكون في الحديقة عند العصر ، إنّني في عصر كل يوم ، أطالع فيها لوحدي » .
في عصر يوم جمعة ، ذهبنا إلى السوق ، وابتعنا أقلاماً ، وأدوات كتابة لأجلها ، ووقعت عيوننا على توت معروض في السلال ، التي كانت مطروحة على الأرض مباشرة ، أمام دكان لبيع التمر ، انشدت أبصارنا في الحال إلى منظر التوت الجميل ، قبل أن يسرقها مرأى بضعة زنابير ، كانت تحوم حول التمر برهة ، ثم تأتي لتشمم التوت برهة أخرى ، طفقنا نحلّق برفقتها بأجنحة من عشق . ابتعنا لفتاتنا توتاً أحمر اللون ، طازجاً ، وشهيّاً . حملنا تلك الأشياء في أكياس نظيفة ، وكان منظرنا ونحن نحمل الأكياس ، منظر عشّاق متيمين .
درنا حول بيت القائمقام في حذر . كنّا في زيّنا المدرسي ، ونحمل كتبنا ، وفي تلك الهيئة ، لم يثر منظرنا شكوك أحد .
كانت حديقة المنزل في الخلف ، وثمة باب حديدي صغير ، من درفة واحدة صدئة ، لاحت مهملة في سياج المنزل الواطئ . تقدّمت في الحال ، ونقرت عليه ببراجم أصابعي ، نقرات خفيفة ، لأسمع صوتها الخفيض النبرات ، وهي تقول :
« من ؟ » .
« نحن » .
وطلعت شمس الأصيل من فرجة الباب ضاحكة ، وملأ جمال ضحكتها روحينا .
ارتدت الفتاة ثوباً طويلاً ، تدلّت أذياله إلى الأرض مباشرة . طُبعت فوقه مربّعات أرجوانية اللون ، تؤطرها خطوط بنّية ، غامقة ، جعلها تبدو أكبر سنّاً ونضوجاً . فضح الثوب امتلاء جسدها ، فبانت اسطوانية المنظر . أبهجتنا هيأتها هذه كثيراً ، وقال لها ( يوسف ) :
« ما الذي تلبسينه يا بنت ؟ » .
أحسّت بشيء من الحرج ، ودارته بضحكات ناعمة ، فضحكت قلوبنا معها .
في لقائنا هذا ، الذي لم يدم أكثر من دقيقتين ، عرض عليها ( يوسف ) هدايانا . وكانت الفتاة خجولة ، ومتلكئة في تقبّلها ، أخذتها عن طيب خاطر في حرج :
« لمَ كل هذا ؟ » .
ووجدت ( يوسف ) يدس عنقه عبر الباب ، ويهمس في سمعها قائلاً :
« أحبك يا رنا » .
« أعرف ذلك » .
وزلفت بجسدي الصغير في موازاة الحائط المجاور للباب ، لأدعهما يبثّان لواعجهما للبعض ، وكانا مثل حمامتين متحابتين . وسرعان ما قالت الفتاة ، وهي تشير إلي :
« انظر .. انظر يا ( يوسف ) إلى إرسين لوبين ، هذا اللص الظريف ، ما أجمله ، وما أروعه » وقفت تمايزنا بزهو ، ونظراتها تنزل من وجهي ، لتتسلّق وجه صديقي . كان ثوبها الطويل يعبق بأنفاس الحديقة . ارتعشت شفتاها برقّة ، كأنّها فراشة حمراء تريد أن تهوى إلى ناري ، واستطردت في قولها :
« يا له من لص ظريف ! » .
« ما الذي سرقه منكِ ؟ » .
« قلبي .. قلبي يا يوسف ، أهناك أغلى من القلب ؟ » .
فتحت تلك الكلمات البليغة عينيّ على وسعهما ، لأرى الفتاة امرأة بالغة العقل والنضوج . لم تكن صغيرة ، أنا من كنت صغيراً إزاء منطقها الراشد .
سرعان ما غادرنا باب الحديقة . وفي الواقع لم تكن تلك زيارة بقدر ما كانت مشاهدة وحسب . وقد تكرّرت هذه الزيارات القصيرة فيما بعد . وعلى الرغم من تكرارها ، فقد حرصنا ثلاثتنا على الحيلولة من إثارة الشكوك من حولنا . كنّا صغاراً وخائفين من كل شيء ، وتنقصنا الشجاعة والجرأة ، فكانت زياراتنا أشبه باللقاءات المختلسة ، التي لا تدوم أكثر من بضعة دقائق ؛ تبدأ بالتحية ، وتنتهي بالوداع ، ولا شيء يُذكر بين التحية والوداع . غير أنّها كانت لقاءات حبّ حقيقي ، لا تشوبه شائبة .
֍ ֍ ֍
على مثل هذه الصورة الساحرة ، رحنا نقطع تلك السنة الدراسية ، من غير أن يعكّر صفو حبنا شيء . كنّا حريصين على كتمان أسرارنا عن الجميع ، وربما جعل ظهورنا في المكتبة العامّة بين شبّان ورجال كبار السن ، سبباً في عدم التفات ، أو اهتمام أحد بأمرنا ، وهو ظهور طفولي لا يثير أيّة تساؤلات عنّا .
كانت فصول قصة حب بريئة ، ورائقة ، عشناها ثلاثتنا معاً ، وتنعّمنا بأجوائها الرائعة أياماً وشهوراً عديدة ! ..
وهذه القصة لم يكن يعلم بها سوى التوت الأحمر الشهي ، وأقلام الرصاص المزخرفة ، وصاحبنا اللص الظريف إرسين لوبين .
أحياناً أغيب ، لسبب أو آخر . وحينئذٍ يجنّ جنونها ، تعتكف في غرفتها حزينة ، وتمتنع عن الطعام . وإذا غاب ( يوسف ) عنّا نفقد معاً شهيّة النظر إلى كل شيء ، ونشعر بأنّ ثمة ستار أسدل بيننا وبين العالم .
عندما سافرت في عطلة النصف الأول من السنة الدراسية ، أمسينا أنا و ( يوسف ) أشبه باليتيمين التائهين . نجلس على ضفة النهر ، في مواجهة المكتبة بانتظار طيفها ، بينما كنّا نعلم علم اليقين بأنّها لن تعود قبل خمسة عشر يوم .
في غيابها اسودّت المدينة وأظلمت .
مع ابتداء الدوام المدرسي ، ظهرت محبوبتنا ثانية ، وكانت في أبهى صورة ، وأكثر مرحاً .
رأيناها وقد تخلّصت من تلك الملابس الشتائية الثقيلة ، التي كانت تغمر جسدها . وحلّت محلّها ملابس خفيفة . ولأول مرّة بان صدرها ناهداً . من مسافة بعيدة أشرقت ابتسامتها مثل شمس الأصيل ، يجري أمامها نسيم سكران يسبقها إلى بيتها ، وخلفها يجثم هدوء جليل على الطريق ، بينما يطلّ الربيع من جواربها القصيرة .
وكما يحدث دائماً في روايات إرسين لوبين من حماس ، وانتعاش يدبّ إثر ظهور اللص الظريف ، في الوقت المناسب ؛ عادت الحياة إلينا سريعاً ، ودارت مترنّمة في دمائنا ، أكثر عنفواناً مما مضى . رحنا نستغرق شهرين متتاليين من السعادة الغامرة والابتهاج .
وعقب هذين الشهرين حدث ما لم يكن في الحسبان ! .
اقتربت مواعيد الامتحانات النهائية لتلك السنة الدراسية ، وخيّمت أجواء التوتّر . فجأة أمسك والد ( يوسف ) بخناق ولده ، الذي كان متلكئاً في دراسته ، وأرغمه على ملازمة مدرس اختاره له خصيصاً ، يشرف على تدريسه عصر كل يوم . ومن غير تحسّب صار ( يوسف ) يتغيب عن بعض مواعيدنا ، ليفسد علينا لذّة الحب ، وسحر لقاءاتنا . ولكنّه ما لبث أن راح يمعن في الانقطاع أياماً عديدة ، ثم انصرف بكليته إلى تلك الدروس ، وقد نسي الحب ومواعيده ! .
تبدّد من بيننا مرأى ( يوسف ) ، ليطفئ شعلة الحب بغيابه ، ويكدّر حالنا .
بهتت صورة الحب يوماً إثر يوم ، وذبلت المتعة التي كانت تظلّلنا . وأمست لقاءاتنا تفتقر إلى ذلك الحماس والانتعاش .
تهيأ لي أنّني أرى نظرات الفتاة تغيم مع مرور الأيام ، وغلب على ملامحها ألم الهجران . كنت أحسّ ببرودتها إلى الحد الذي ألغت فيه موعد يوم الجمعة ، مكتفية بيوم السبت فقط ، وحتى موعد يوم السبت هذا ، بدا موحشاً بغياب ( يوسف ) .
لم نكن أنا و ( رنا ) قد مللنا الحب ، ولا شابت عواطفنا شائبة ، ولكنّ غياب صاحبنا ( يوسف ) هدّ أركان هذا الحب ، وبعثره .
لم أعد أشغل فكري كثيراً بالفتاة ، صرت أتغيب أحياناً ، وصارت الفتاة تتغيب أحياناً أخرى ، وانتابني شعور بأنّ متعتنا نضبت ، وحين شارفنا على أبواب الامتحانات النهائية بتّ واثقاً من انقطاع حبل ذلك الحب .
بما يشبه طيش الصبا ، واتتني فكرة زيارتها إلى بيتها . وأنا أخال بأن هذه الزيارة ستكون خاتمة لقاءاتنا ، ونهاية صداقة وحبّ عظيمين . وبالفعل ذهبت عصر يوم جمعة إليها ، وأنا أحمل معي كتاباً أنيقاً ، رغبت أن يكون هديّة على سبيل الذكرى .
نقرت على باب الحديقة بخفّة ، ليهلّ وجهها الطلق . كانت تحمل بين يديها كتاباً مدرسياً ، وكان شعرها أشعثاً . بعد أن حيّيتها أخبرتها قائلاً :
« الامتحانات على الأبواب ، وسوف أنقطع عن زيارتك ولقائك » .
« ذلك أفضل لنا ، فأنا مشغولة في دراستي ، كما تراني » .
« تفضّلي ، وتقبّلي هذه الهدية » .
« ما هذا ؟ » .
« رواية من روايات إرسين لوبين » .
« ما عنوانها ؟ » .
« الزمرّدة » .
« عنوان جميل جداً ، أليس كذلك ؟ » .
« نعم .. » .
« شكراً ، أغدقت عليّ الكثير من الهدايا » .
مضت دقيقتان من الوقت ، وأنا أقفً إزاء الباب ، وفكّرت أن أقفل راجعاً كما كنت أفعل من قبل ، ألا أنّ الفتاة مضت تحدّق بي صامتة . و فجأة قالت لي :
« ألا تحب أن تدخل إلى الحديقة قليلاً من الوقت ؟ » .
واعترضتني غصّة ألجمت لساني ، لاحت لي دعوتها عظيمة علي ، وأوقعتني في حيرة .
« ماذا بك ، ألا تريد أن تدخل ؟ » .
أصابني شيء من الخرس ، وعلت فمي ابتسامة تفيض خجلاً ، وخطوت داخلاً ، من دون أن آتي بأي صوت . بدوت لنفسي مثل فأرة تتسلّل خلسة عن العيون .
« هيا أدخل » .
قالت تشجّعني .
وردّت الباب الصغير دوننا .
سرعان ما انكسفت ابتسامتي ، ووقفت خلفها كأنّني ألوذ بها .
ولكنّها تركتني وراحت إلى الجانب الآخر من الحديقة ، وأسرعت تقطف وردة جورية بيضاء . رفعتها عالياً ، وأخذت تنهل من عطرها ، بينما ومضت عيناها بوميض خلّاب .
تقدّمت نحوي مبتسمة ، ودسّت الوردة تحت أنفي ، فشبّت في صدري ، في الحال ، نيران الحب متأجّجة .
قالت :
« خذها ، هي لك » .
على نحو مفاجئ نظرت في عينيّ نظرة عميقة ، تشتجر بألوان من الأحاسيس ، وطلبت منّي قائلة :
« أغمضْ عينيك يا لوبين » ,
وأطبقت جفني .
أحسست بذراعها تلتف بلطف حول عنقي ، ودنت بفم ، مرتعش ، لتطبع قبلة على وجنتي .
حينما فتحت عينيّ وجدت رمشيّ مخضلين بالدمع .
كانت قبلتها حانية ، تشبه إلى حدّ كبير قبلة الأخت الكبيرة على خد شقيقها الأصغر .
« هيا اذهبْ يا لوبين ، رافقتك السلامة » .
مرّة أخرى أدهشتني برجاحة عقلها ، وأنا أنظر إليها تتصرّف ، وتسلك كأنّها امرأة بالغة .
وفي لمح البصر تواريت خلف الباب .
على خدّي ، كان مطبوعاً كل ما قرأناه من كتب لذيذة ، وبين صفحاتها راح يضوع عبق الجورية البيضاء .
֍ ֍ ֍
لا يمكنني أن أتذكّر ، مهما حاولت ، كيف غادرت منزلها ، وكيف ودّعتها ، ولكنّني دائم الاعتذار ، فمن المرجّح أنّني اعتذرت لها وغادرت .
وجدت نفسي ، في أوّل المساء ، ماشياً مع ضفة النهر الكدر ، الذي اصطبغ بالطمي ، وقد ثقلت خطاه ، وكان صدري مترعاً بأنفاس الفتاة .
مشيت أقطع الدروب لا ألوي على شيء . مشيت وحيداً وحدة لا تُصدّق ، وقد سخن جسدي ، وجفّ ريقي ، وراح الصداع يعصف في رأسي ، وصدغاي ينبضان بقوة الألم . وما فتئت أشهق أنفاسي . همت في الطرقات بائساً ، والدموع تغمر عينيّ ، وأنا أحسّ بتبدّد عشقي ، وشعور طاغٍ بأنّني فقدت زمرّدتي ..
كان ألمي لا يُحتمل ، أصيب قلبي وأنا صغير ! .