ابنة القائمقام : قصة قصيرة ـ محمود يعقوب

                                 

                                  ابنة القائمقام

               ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

 

   في رواق المكتبة العامّة ، وقفت فتاة صغيرة ، تبتسم في وجه صاحبتها . وكانت ابتسامتها بالغة النعومة والوضاءة . عندما أدركت أنّني أطيل النظر إليها أسرعت ترفع كتاباً ، كانت تضمّه إلى صدرها ، وأخفت فمها بطرفه . حينذاك لاح لي ما تبقّى من وجهها أشبه بنصف قمر يطلّ من بين السحاب .

بعد لحظات أنزلت الكتاب إلى صدرها ، والتقت عيناها بعينيّ ، نظرت إليها بدهشة ، وعشقتها فجأة ! .

على غفلة من أمري اخترق سهم حبها قلبي .

حين شبّ اللهب في حشاشتي ، أسرعت خارجاً إلى حديقة المكتبة ، أقاسي الألم ، وأخفي دموعي ، هكذا يبدأ عشق الصبيان .

في ذلك اليوم لم أطل المكوث في المكتبة ، عدت ،على غير عادتي ، في وقت مبكّر إلى منزلي ، وانكفأت مختلياً في غرفتي ، ممعناً التفكير في هوى هذه الصبية الساحرة . وممتحناً نفسي بأفكار ساذجة .

لم أنم في تلك الليلة إلّا لماماً .. لم أنم إلّا بعد أن حزمت أمري على أن أكتب رسالة عشق لها . ولكنّ أوّل شيء خطر في ذهني ، وأنا أنهض من النوم في الصباح ، هو أن أمحو فكرة الرسالة تلك من بالي .. محوتها بالكامل ، وقد تهيأ لي أنّها فكرة خرقاء ، لا يلجأ إليها سوى الحمقى .

إنّ مجرد ورقة  تبث فوقها أشواقك المشبوبة ، الحيّة ، لهوَ أمر في منتهى التفاهة . ما الذي يمكن أن تنطق به هذه الورقة بشكل أرقّ ، وأصدق من لغة العيون الصريحة . وقلت في سريرتي سأدع الأمور تمضي كيفما اتفق .

كنت من روّاد المكتبة ، على الرغم من حداثة سنّي ، غير أنّ العشق قادني ، فيما بعد ، إلى ارتيادها بانتظام أكثر ، إلى حدّ أخذت أزورها كل يوم .

سرعان ما اكتشفت أنّ هذه الفتاة تزور المكتبة مرّة واحدة في كل أسبوع . كانت تأتي عصر يوم السبت بالتحديد ، حيث يكون الدوام محدوداً في مثل هذا الوقت ، وتكاد تكون المكتبة حينئذٍ خالية من روّادها .

صرت حريصاً أشدّ الحرص على رؤيتها في هذا الميعاد . أقف بانتظارها عند بوّابة المكتبة ، وما أن تهلّ طلعتها حتى أدلف إلى داخل المبنى مسرعاً  ، أسبقها ، وتدلف خلفي ، وكانت أشجار الياس ، في الحديقة ، تستقبلنا دائماً بفوح عطرها .

سمحت لنا الفرص أن تلتقي عيوننا  ، لثلاث مرّات أو أكثر ، التقت بانبهار ، وبهجة لا تسعها الأرض ؛ وقالت حدقات العيون كلاماً صافياً ، بليغاً ، يفيض حناناً ، مثل ذلك المكتوب في كتب المكتبة .

كان شعرها الفاحم ثريّاً ، ومنسدلاً بخيلاء ، وعيناها تضيئان في عتمة الرواق .

في صباح أحد الأيام المطيرة ، وكان يوم جمعة ، كنت أقف في الرواق ، على النضد المخصّص لعناوين الكتب ، ساحباً نحوي أحد أدراج النضد ، غارقاً في تصفّح تلك العناوين ، في غياب كامل عمّا يجري من حولي . في غضون ذلك الوقت ، انصبّ في سمعي صوت هامس يقول :

« صباح الخير » .

« صباح النور » .

أجفلت مرتبكاً في غفلة من أمري ، لم أتوقّع ظهورها إلى جواري في يوم كهذا . وقفت غير بعيد ، تنتظر دورها في معاينة عناوين الكتب أيضاً . كانت نظراتها تدغدغني ، وتسكب على وجهي نورها .

ارتدت ثوياً نيليّاً ، رصّعته الأقمار ، أحسسّت أنّ السماء هبطت عليّ فجأة ! .

أعدت الدرج إلى موضعه ، وهتفت في شيء من الحرج :

« تفضّلي ، قلّبي العناوين » .

تنحّيت جانباً ، أفسح لها المكان . وقفت مستثاراً وعيناي تنفحان مودة .

« لا ، أكملْ أنت ، لست في عجلة من أمري » .

عنّ في بالي أنّها لم تحضر إلى المكتبة هذا اليوم بالتحديد ، إلّا لأجل أن تراني ، أو هكذا جنحت بي أخيلة الهوى .

ألحفت عليها أن تبدأ هي أوّلاً ، وهكذا راحت تسحب الأدراج باحثة عن الكتب . لم يكن هنالك من أحد سوانا ، وذلك ما منحني الجرأة في أن أسألها قائلاً :

« ما اسمك ؟ » .

« رنا  » .

« ووالدك ؟ » .

«عبد اللطيف .. القائمقام » .

ثم ابتسمت في عينيّ ، قبل أن تعيد القول ، في تلقائية صادقة :

« أنا ابنة القائمقام » .

كانت البساطة تنبع من بين شفتيها ، وكانت أكثر جمالاً ودهشة من الأيام السابقة . عادت تنغمس في قراءة عناوين الكتب في الأدراج ، بينما سكرت وأنا أطالع ملامح وجهها الطفولي النضر .

بانت رنّة لهجتها شمالية ، باردة . تساقطت كلماتها ندفاً من الثلج في مسامعي . ولكنّني كنت أقف قريباً منها ، إلى حدّ شممت رائحة السمسم من كلماتها ، فغمرتني تلك الرائحة بألفة دافئة تلفّت من حولي ، وقلت لها بصوت مهموس :

«أنا أحبك ! » .

قلت لها ذلك بلا لفٍ ولا دوران .. قلته كما كان مكتوباً في كتب المكتبة .

تضرّج خدّاها بلون الرمّان ، ثم رفعت جيدها النحيل ، الذي كان يشبه عنق إبريق من الفضة ، وأشرق وجهها بابتسامة مشمسة ، أضاءت أعماقي ، وسألتني في الحال :

« طالما أشاهدك تطالع الكتب ؟ »  .

« نعم .. » .

« ما الكتب التي تفضلها ؟ » .

« روايات إرسين لوبين » .

« هل تجدها ممتعة ؟ » .

« أكتر متعة مما تتصوّرين » .

« إذن سأقرؤها أيضاً » .

« سوف لن تندمين على ذلك » .

« أين يمكنني أن أعثر على عناوين كتبها ؟ » .

« في الدرج الثاني » .

« هنا ؟  » .

« نعم » .

انهمكت تتفحّص تلك العناوين الكثيرة بتمعن ، حتى إذا ما أحسّت بالتعب ، التفت إلي وقالت :

« أرغب في استعارة كتابين منها ، أيهما تقترح علي البدء في مطالعتهما ؟ » .

أطرقت هنيهة ، وأنا استرجع تلك الكتب في ذاكرتي ، ثم أجبتها :

« أفضّل أن تقرئين كتاب ( اللص الظريف ) ، وكتاب ( الكوخ المهجور ) » .

« شكراً » .

« سأراك هنا في كل أسبوع » .

« أنا ارتاد المكتبة عصر كل يوم سبت » .

« أعرف ذلك » .

نظرت إلي بدهشة ، ابتسمت ولم تقل شيئاً . من الواضح أنّنا كنا نعرف بعض الأشياء عن بعضنا . كانت عيناها صافيتين ، وتلمعان ببريق جذّاب . وكانتا صادقتين في تعبيرهما ، وهي تحدّق في عينيّ ، وتسنّى لي أن أرى ، عن قرب ، السحر والوهج اللذين يضوي بهما وجهها .

كنت صغيراً ، ولكن على الرغم من ذلك أحسست بأنّ شرارة حبها كانت تحرقني .

همست في أذنها مؤكّداً :

« إذن سنلتقي هنا السبت القادم » .

وارتجفت شفتاها ، ولم تنبس بشيء . كانت كلماتي قد بلغت فؤادها ، وتركتها وأنا محلّق في عالم الأخيلة المجنّحة .

هكذا ، في غاية السلاسة أحببنا ، كما لو كنا في موعد قديم . ومثلما استعارت روايات إرسين لوبين ، وحملتها معها ، استعارت قلبي ، كذلك ، وحملته إلى بيت القائمقام ، يا لسعادة قلبي ! .

وهكذا أيضاً ، أحسست فجأة برحابة الدنيا وجمالها الفاتن ، وفاضت علي النشوة من دفتي كل كتاب من كتب المكتبة .

كانت متعة العشق تذيبني ، وأنا أبذل العناية على ثيابي ، التي كنت أرتديها سابقاً من غير أن أحفل بها . أصبحت أمشّط غرّة شعري بأقصى اهتمام ، وأرميها إلى جهة من رأسي ، بصورة تثير انتقادات زملائي في المدرسة ! .

لم يكن مستغرباً من عاشق مثلي أن أبتعد عن المشاكسات السمجة ، والعبث الصبياني الذي لا طائل منه ، والذي كان كثيراً ما يبدر عن أصحابي ؛ وأركن إلى الهدوء . أحسست أنّني أتغير كثيراً عمّا كنت عليه ، وأنّ وقاراً وسكينة باتا يخيمان على شخصي ، وحياتي .

تكرّرت لقاءاتنا كل أسبوع ، ودرجت أروي غليلي بمرآها عصر كل يوم سبت . غير أنّني ما كنت أفترق عنها حتى يشتد أوار العشق بين جوانحي ، فيتبدّد كل صبري على الانتظار ، والذي ما برحت أحسّ به طويلاً ومريراً .

لم أعد أطيق الانتظار أسبوعاً كاملاً حتى يحين لقاؤنا ، وتكتحل عيناي بمرآها ، فقد لاح لي أن السبت ينأى عني كثيراً ، أحسست كما لو أنّه يوم في نهاية السنة .

لذلك تعمّدت إلى رؤيتها في الطريق ، وتلك رؤية مختلسة ، ولكنّها تذلّل من حرقة نار العشق ، وتطمئنني فليلاً .

كان بيتها يطل على شارع النهر ، وسط المدينة ، ومدرستها لا تبعد عن البيت ؛ فكنت أجلس على جانب النهر ، منتظراً عودتها من المدرسة بإطلالتها الجميلة ، الفاتنة ، لأصطاد النظرات الشافية منها .

من بعيد كان يتناهى لسمعي قرع حذائها الجلدي على قارعة الطريق ، رتيباً وحلواً ، يتردّد صداه بين أضلعي . كانت أرنبة أنفها طفولية ، عريضة ، تلمع ضاحكة على الدوام .

تقع عيناي عليها ، بجسدها الممتلئ ، وأناقة ملابسها المدرسية ، وهي جذلة بين رفيقاتها ، فأهبّ واقفاً في موضعي ، مفتعلاً انتظار شخص ما . كانت تسرّ لرؤيتي . ما أن تقع عيناها علي حتى ترتسم على وجهها ابتسامة دلال . سرعان ما يتصاعد السرور من قلبها إلى شرائط شعرها الحمر ، التي تهتز راقصة يميناً وشمالاً .

أبقى متسمّراً في مكاني ، أرقبها وهي تبتعد عني ، وأنا أرتشف آخر قطرة من ظلّها .

ذات مرّة مرقت من أمامي ، وأسقطت عمداً وردة حمراء من يدها ، جعلت الدرب والمساء يضوعان بعطرها .

كان النهر يغني لنا ، والدرب إلى بيت القائمقام مرصوفاً بالعشق .

 

 

֍ ֍ ֍

 

 

 

من بين أصدقائي ، وزملائي في المدرسة ، كان ( يوسف ) صبيّاً متميّزاً بين الجميع .

في الواقع لم يكن متميزاً في دروسه . كان وسيماً ، تغلب الشقرة على شعره ، وتعلو بشرته الصافية حمرة متدفقة ، ولأجل ذلك درجنا نطلق عليه اسم ( يوسف الأحمر ) . له أنف وفم ساهران ، وعينان تشرقان في منتهى الأنس ، لا يستطيع الإنسان ، حينما تقع عيناه عليه غير أن يحبه في الحال ! .

كان فتى حي ، لا يتوانى ، ولا يتذمر من مساعدة الآخرين . وما تميّز به ( يوسف ) كذلك ، أنّه كان أكبر سنّاً منّا جميعاً ، وأضخم هيكلاً .، وعلى قدر من الرزانة ، وحسن التصرّف . فلا غرو أن صار يتمتّع بدور القائد بيننا ، سواء في المدرسة أو خارجها ..

في الواقع ، كنا لا نأتي بأي عمل من دون استشارته ، وكانت مقدرته في التمييز حسنة . وقد درج على مرافقتي ، في الكثير من الأوقات ، أثناء وجودنا في المدرسة ، كان الصبي يستسيغ سلوكي الهادئ ، ويميل إلى سماع المغامرات البوليسية ، التي كنت أرويها له بتشويق ، وتحبيب .

ربّما كان ( يوسف ) الصبي الوحيد الذي فطن إلى جملة التغييرات التي طرأت على حالي ، بعد أن ذبت في عشقي . ولعل فطنته تلك تضاهي فطنة رجل بالغ .

جرّب هذا الصبي بضع محاولات فاشلة ، للاختلاء بي واستدراجي للحديث عمّا يحصل لي .

بالطبع كنت حذراً ، وخائفاً من افتضاح أمري ؛ فلجأت إلى أسلوب المراوغة والكذب ، لأغلق أمامه أي منفذ كان من شأنه أن يكتشف ما رحت أضمره في أعماقي . غير إنّ ( يوسف ) كان يضيق ذرعاً بأقوالي ،  وتدليسي ، لأنّه يهجس بأن ثمّة أمر أعظم ما زلت أخفيه عنه .

سرعان ما ينسحب عني متوعداً وهو يكرّر قوله :

« إنّ ما يحصل لك ليس شيئاً هيّناً » .

كنت أردّ عليه بابتسامة مضطربة ، تزيدني غموضاً ، وتشعل في أركان هيكله الفضول الصبياني العنيد ، وأحياناً أضطرّ أشدّ الاضطرار على الرد بنفرزة واضحة ، قائلاً له :

« ليس هنالك أمراً صعباً ولا أمراً هيّناً » .

« غير معقول ؟ » .

« هذا أنا كما تراني اسمرَ ، وأكلحَ » .

كنت أثق في ( يوسف ) ثقة صديق ، على الرغم من تهرّبي من جميع أسئلته ، واستجواباته المتكرّرة لي . وليس إحجامي عنه ومصارحته بحقيقتي ، سوى حرصي المتناهي على ما كان بيني وبين الفتاة من حبّ نقي ، لا غبار عليه . كان حرصي على حفظ السرّ دفيناً ، نابعاً  من إصراري على بقاء ذلك الحب صافياً كدموع العذارى . ولكنّ بعد مرور الأيام ، الزاخرة بالعواطف ، وإزاء إلحاح ( يوسف ) ، وإزاء ما راح يثقل صدري الضعيف من سرّ عظيم ، عزمت ، ذات يوم ، على مصارحته بكل شيء ! .

اقتدت ( يوسف ) عصر ذلك اليوم إلى شارع النهر ، وجلسنا جانباً ، في نفس الموضع الذي اعتدت الجلوس فيه ، وأنا أنتظر مقدم فتاتي من مدرستها . وهناك قلت له :

« سأبوح لك سرّي ، ولكن قبل أن أنطق بأي حرف ، أطلب منك أن تحلف أمام ربنا أن تصون هذا السر ، ولا تفشيه لأحد غيرنا » .

دهش ( يوسف ) ، واتسعت حدقتاه الجميلتان  ، كأنّه أُخِذ على حين غرّة ، ثم هزّ رأسه يميناً ويساراً ، بحركة الشيطنة الصبيانية تلك .

لم يتوقّع منّي أن أكون منطوياً على أسرار ، وأكتمها عنه طوال هذا الوقت ! . شرع على عجل من أمره يردّد على مسامعي قسماً شديداً ، أشعرني بالخجل ، وأوقعني في حرج ، فسارعت أعتذر منه ، ولكنّه بدا متلهّفاً ، إذ قال لي ، وعيناه تلتهمانني :

« هات ، قل ما عندك ، أنت خير من يعرفنني ، لمَ تخبئ أسرارك عني ؟ » .

« أنا أعشق فتاة جميلة يا يوسف » .

« ماذا ؟ » .

« أعشق فتاة » .

بذلت شفتاه ما بوسعهما من أجل أن تبتسما ، ولكنهما ارتجفتا بضعة رجفات ثم تهدّلتا بوهن كما لو أنّهما ستطلقان نحيباً ، وضاقت عيناه قليلاً ، ثم قال لي بصوت لاح مثل صوت رجل عجوز :

« كم عمرها ، صغيرة هي أم كبيرة ؟ » .

« في مثل عمرنا تماماً » .

« والله لم أخطيء في التقدير ، حين رأيت غرّة شعرك وهي تبرق على جانب رأسك مثل غرّة عاهرة » .

وطفقنا نضحك معاً .

جلسنا نتجاذب أحاديثنا زهاء ساعة من الوقت ، حين أقبلت الفتاة عائدة من المدرسة ، برفقة صبيتين . رحت أشخص ببصري نحوها من بعيد ، وقلت له :

« ها هي يا يوسف قادمة » .

وطفق ينظر صوبهن ، ثم قال :

« أيهن هي ؟ » .

« الفتاة الوسطى » .

ثم عدّت أحذّره قائلاً :

« أنظر إليها جيداً ، ولكن إيّاك أن تثير شكوك رفيقتيها » .

وحين أمسين على مقربة منّا ، همس ( يوسف ) ممازحاً :

« البنت تبدو بدينة » .

في الواقع كانت الصبية ممتلئة القوام ، وليست بالفتاة البدينة ، لذلك قرصت جنبه ، وأنا أقول له :

« لا تقل بدينة ، إنّ جسدك أكثر امتلاءً منها » .

راحت ( رنا ) تنظر صوبنا ، بنظراتها الفرحة ، وهي تتأمّل صديقي تأمّلاً فائضاً . وحينما تحدّق بنا كانت الورود تتفتح حول عينيها ، وكنت أشمّ عطر نظراتها .

تفاجأت ( رنا ) إذ شاهدتني أصطحب أحدهم هذه المرّة ، بعد أن اعتادت على رؤيتي وحيداً في كل المرّات السابقة . هذا ما حدا بها إلى تفحّص وجه صديقي بإمعان ، حالما باتت على مقربة من محل جلوسنا .

كان مصباح وجهها منيراً ، وخدّاها مصبوغان بالعشق ، وكانت الحركات التي تصنعها بكتفيها ، أثناء سيرها ، تنمّ عن أنوثة متفتحة . حينما مرّت من أمامي مباشرة هزّت رأسها بإيماءة باسمة ، وكنت أعلم جيداً كيف تحييني .

سألني ( يوسف ) ، الذي كان مأخوذاً حتى تلك اللحظة :

« متى عشقتها ؟ » .

« منذ بداية هذا العام » .

« منذ بداية العام ، وأنا لا أعلم بذلك ؟ » .

وشرع يطلق أصواتاً هوائية بلسانه ، استهجاناً ، ولكنّه عاد ليسألني :

« كيف عشقتها ؟ » .

« في الواقع نحن عشقنا بعضنا فجأة » .

وفي التفاتة طفولية خرقاء ، صاح بي ، وهو يقرص ساقي :

« ألعن اليوم الذي جئت فيه إلى الدنيا ، إنّك تعشق جوهرة ، ليس ذلك وحسب ، بل تعشق ابنة قائمقام ! » .

هزّت كلماته أفرعي زهواً ، وإمعانا ، فوقفت متمايلاً إلى جانب النهر الذي كانت مياهه تنساب عشقاً .

 

 

 

֍ ֍ ֍

 

 

 

 

 

كما حدث معي بالضبط ، حين نظرت في عينيها فجأة وعشقتها ، حدث هذا مع صديقي ( يوسف ) أيضاَ . ما إن نظر الفتى في وجهها الزاهر منبهراً ، وقد مرّ من أمام عينيه كالحلم الأبيض ،

التفت ناحيتي وألم العشق والجوى يمزّق أحشاءه ! .

قال لي وقد طغت الصفرة على وجهه الأحمر :

« هل ترى ماذا فعلت بي هذه البنت ؟ » .

ونظرت إليه في حيرة ، وأنا لا أعي ما يحصل له ، وما الذي يقوله ، ولكنّه استطرد قائلاً :

« لقد عشقتني وعشقتها أيضاً ! » .

توارى شبحها مبتعداً عنّا . نهضنا وتمشينا على ضفة النهر ، ولكنّ ( يوسف ) كان صامتاً ومكلوماً .

«  قل لي ما ينبغي فعله ، أنا أحترق يا صديقي ؟  » .

واحترقت معه في نيران الشفق الذي التهب به الدرب ومياه النهر .

اهتزّزت من الأعماق بمشاعر غريبة .. بمشاعر عظيمة لم أحسّ بمثلها يوماً من الأيام .

أمسكت بصديقي ورحت أعانقه ، غارقاً بسيول المحبة ، أكاد أبكي لفرط جيشان عواطفي ، التي عجزت عن كتمانها ، وقلت له :

« سيكون أروع عشق حين تشاركني حب هذه الفتاة » .

« متى تعرّفني إليها ؟ » .

« السبت القادم » .

وسرح ببصره ، وهو يتمتم قائلاً :

« كنت أظنّك فتى مثل الفتيان الآخرين ، ولم أكن أعلم أنّك إبليس من الأبالسة ! » .

في عصر يوم السبت ، قدّت ( يوسف ) إلى المكتبة برفقتي . كنت قد ابتعت هديّة لفتاتي ، إذ انتقيت لها مجموعة أقلام رصاص ، ملوّنة ، ومزخرفة بزخارف طفولية زاهية ، حملتها في ظرف وردي اللون ، مُزيّن بالزهور ، أُعجب به ( يوسف ) ، وأقترح عليّ قائلا ً :

« لمّ لا تكتب على الظرف بعض الكلمات ؟ » .

« نحن لا نتعاطى بالكلمات والحروف » .

« لمَ ؟ » .

« الكلام فضّاح » .

بدا ( يوسف ) غشيماً ، وهو يفتح عينيه على وسعهما ، وينظر لي نظرات من لم يعي شيئاً من هذا الكلام .

في رواق المكتبة عرضت على الفتاة هديتي  ، وقدّمت لها صديقي . عرّفتهما على بعضٍ بكلمات مقتضبة ، ومهذّبة . أشرق وجهاهما معاً ، واعترتهما البهجة . أخذت  ( رنا ) تتملّى جمال صديقي وحسنه ، وسرعان ما اشتكت من سحر عينيه ، واضطرم أوار الحب في قلبيهما ، وتاهت أفكارهما ، وأخذا يتأتئان في كلامهما . كانا عاجزين عن ضبط زمامهما . بينما رحت أنا أصبّ الزيت على النار ، عندما قلت لها بحبور:

« سنكون أروع ثلاثة أصدقاء » ..

إلّا أنّها قاطعت كلامي ، وهي تقول :

« بل أنت الرائع ! إنّ اختيارك للأصدقاء يفوق اختيارك للكتب » .

وبينما تواصل الابتسام الحلو في وجهينا ، عادت لتقول :

« سنلتقي إضافة إلى عصر يوم السبت ، في يوم الثلاثاء كذلك » .

« الثلاثاء عطلة المكتبات ، لنجعل لقاءنا صباح يوم الجمعة » .

« صباح الجمعة ، لا مانع لدي » .

بيومين من العشق ، في كل أسبوع ، سنمضي نحلّق بنشوة مع جمع الأرواح الهائمة فوق صفحات الكتب  .

غادرنا المكتبة مع شمس الضحى ، مخلّفين ظلالنا تنبض بالبراءة ، في رواق المكتبة ، الذي ابتلّ بنداوة عشقنا .

« غدوت معلّماً يا صديقي ، تهندّس ، وتخطّط مثل الكبار ، يبدو أنّ العشق ألهمك ، وعلّمك الكثير مما نجهله نحن ! » .

قال ( يوسف ) ذلك ، وهو يعتصر كفي الصغير بكلتا كفيه .

بتنا نلتقي مرّتين كل أسبوع ، وهذا ما أشعل فتيل حبّنا . وذابت ( رنا ) في نار عشقها الجديد ، وراحت تغرق في بحر عيني ( يوسف ) حالما نلتقي . حتى أنّني ساورتني الشكوك ، وانتابني الخوف من أن تحبه أكثر منّي ، وتنفرد به ، ولكنّ الأيام أثبتت بطلان وساوسي .

في أحد لقاءاتنا ، تنبّهت الفتاة إلى وقوفي صامتاً ، وأنا أنظر إليهما ، وهما يتبادلان الحديث ، ويبدو أنّها استشفّت ما يجول في سريرتي ، فسارعت تقول :

« لا تصمت ، ولا تتعقّد هكذا ، أنت الحب الأول ، وأنت الحب الأخير » .

نعم ، هذا ما كنّا نقرأ مثله في كتب المكتبة ، ويبدو أنّ الفتاة صارت تقرأ جيداً ! .

كان حبّاً بريئاً ، صادقاً ، وسعيداً ، تشبّثنا به معاً ، وحرصنا عليه بالصمت والكتمان .

في إحدى مواعيدنا طرح ( يوسف ) على الفتاة فكرة غريبة ، حينما قال :

« كيف يمكننا أن نزورك في البيت ، إنّني أودّ أن أجلب لك بعض الهدايا ؟ » .

« كلا ، إنّ أمي لا تسمح لي بذلك .. » .

« حتى ولو لدقائق فقط ؟ » .

« كلا ، ولا هذا » .

« نراك عند باب البيت ، ثم نمضي ؟ » .

أطرقت الفتاة ، كأنّها تفكّر في شيء آخر ، وقالت :

« ولكن يمكنكم رؤيتي لدقيقتين فقط ، إن شئتم ، وذلك إذا جئتم البيت من باب الحديقة الخلفية ، سأكون في الحديقة عند العصر ، إنّني في عصر كل يوم ، أطالع فيها لوحدي » .

 

في عصر يوم جمعة ، ذهبنا إلى السوق ، وابتعنا أقلاماً ، وأدوات كتابة لأجلها ، ووقعت عيوننا على توت معروض في السلال ، التي كانت مطروحة على الأرض مباشرة ، أمام دكان لبيع التمر ، انشدت أبصارنا في الحال إلى منظر التوت الجميل ، قبل أن يسرقها مرأى بضعة زنابير ، كانت تحوم حول التمر برهة ، ثم تأتي لتشمم التوت برهة أخرى ، طفقنا نحلّق برفقتها بأجنحة من عشق .                                                                                               ابتعنا لفتاتنا توتاً أحمر اللون ، طازجاً ، وشهيّاً . حملنا تلك الأشياء في أكياس نظيفة ، وكان منظرنا ونحن نحمل الأكياس ، منظر عشّاق متيمين .

درنا حول بيت القائمقام في حذر .  كنّا في زيّنا المدرسي ، ونحمل كتبنا ، وفي تلك الهيئة ، لم يثر منظرنا شكوك أحد .

كانت حديقة المنزل في الخلف ، وثمة باب حديدي صغير ، من درفة واحدة صدئة ، لاحت مهملة في سياج المنزل الواطئ . تقدّمت في الحال ، ونقرت عليه ببراجم أصابعي ، نقرات خفيفة ، لأسمع صوتها الخفيض النبرات ، وهي تقول :

« من ؟ » .

« نحن  » .

وطلعت شمس الأصيل من فرجة الباب ضاحكة ، وملأ جمال ضحكتها روحينا .

ارتدت الفتاة ثوباً طويلاً ، تدلّت أذياله إلى الأرض مباشرة . طُبعت فوقه مربّعات أرجوانية اللون ، تؤطرها خطوط بنّية ، غامقة ، جعلها تبدو أكبر سنّاً ونضوجاً . فضح الثوب امتلاء جسدها ، فبانت اسطوانية المنظر . أبهجتنا هيأتها هذه كثيراً ، وقال لها ( يوسف ) :

« ما الذي تلبسينه يا بنت ؟ » .

أحسّت بشيء من الحرج ، ودارته بضحكات ناعمة ، فضحكت قلوبنا معها .

في لقائنا هذا ، الذي لم يدم أكثر من دقيقتين ، عرض عليها ( يوسف ) هدايانا . وكانت الفتاة خجولة ، ومتلكئة في تقبّلها ، أخذتها عن طيب خاطر في حرج :

« لمَ كل هذا ؟ » .

ووجدت ( يوسف ) يدس عنقه عبر الباب ، ويهمس في سمعها قائلاً :

« أحبك يا رنا » .

« أعرف ذلك » .

وزلفت بجسدي الصغير في موازاة الحائط المجاور للباب ، لأدعهما يبثّان لواعجهما للبعض ، وكانا مثل حمامتين متحابتين . وسرعان ما قالت الفتاة ، وهي تشير إلي :

« انظر .. انظر يا ( يوسف ) إلى إرسين لوبين ، هذا اللص الظريف ، ما أجمله ، وما أروعه »  وقفت تمايزنا بزهو ، ونظراتها تنزل من وجهي ، لتتسلّق وجه  صديقي . كان ثوبها الطويل يعبق بأنفاس الحديقة . ارتعشت شفتاها برقّة ، كأنّها فراشة حمراء تريد أن تهوى إلى ناري ، واستطردت في قولها :

« يا له من لص ظريف ! » .

« ما الذي سرقه منكِ ؟ » .

« قلبي .. قلبي يا يوسف ، أهناك أغلى من القلب ؟ » .

فتحت تلك الكلمات البليغة عينيّ على وسعهما ، لأرى الفتاة امرأة بالغة العقل والنضوج . لم تكن صغيرة ، أنا من كنت صغيراً إزاء منطقها الراشد .

سرعان ما غادرنا باب الحديقة . وفي الواقع لم تكن تلك زيارة بقدر ما كانت مشاهدة وحسب . وقد تكرّرت هذه الزيارات القصيرة فيما بعد . وعلى الرغم من تكرارها ، فقد حرصنا ثلاثتنا على الحيلولة من إثارة الشكوك من حولنا . كنّا صغاراً وخائفين من كل شيء ، وتنقصنا الشجاعة والجرأة ، فكانت زياراتنا أشبه باللقاءات المختلسة ، التي لا تدوم أكثر من بضعة دقائق ؛ تبدأ بالتحية ، وتنتهي بالوداع ، ولا شيء يُذكر بين التحية والوداع . غير أنّها كانت لقاءات حبّ حقيقي ، لا تشوبه شائبة .

 

 

֍ ֍ ֍

 

 

على مثل هذه الصورة الساحرة ، رحنا نقطع تلك السنة الدراسية ، من غير أن يعكّر صفو حبنا شيء  . كنّا حريصين على كتمان أسرارنا عن الجميع ، وربما جعل ظهورنا في المكتبة العامّة بين شبّان ورجال كبار السن ، سبباً في عدم التفات ، أو اهتمام أحد بأمرنا ، وهو ظهور طفولي لا يثير أيّة تساؤلات عنّا .

كانت فصول قصة حب بريئة ، ورائقة ، عشناها ثلاثتنا معاً ، وتنعّمنا بأجوائها الرائعة أياماً وشهوراً عديدة ! ..

وهذه القصة لم يكن يعلم بها سوى التوت الأحمر الشهي ، وأقلام الرصاص المزخرفة ، وصاحبنا اللص الظريف إرسين لوبين .

أحياناً أغيب ، لسبب أو آخر . وحينئذٍ يجنّ جنونها ، تعتكف في غرفتها حزينة ، وتمتنع عن الطعام . وإذا غاب ( يوسف ) عنّا نفقد معاً شهيّة النظر إلى كل شيء ، ونشعر بأنّ ثمة ستار أسدل بيننا وبين العالم .

عندما سافرت في عطلة النصف الأول من السنة الدراسية ، أمسينا أنا و ( يوسف ) أشبه باليتيمين التائهين . نجلس على ضفة النهر ، في مواجهة المكتبة بانتظار طيفها ، بينما كنّا نعلم علم اليقين بأنّها لن تعود قبل خمسة عشر يوم .

في غيابها اسودّت المدينة وأظلمت .

مع ابتداء الدوام المدرسي ، ظهرت محبوبتنا ثانية ، وكانت في أبهى صورة ، وأكثر مرحاً .

رأيناها وقد تخلّصت من تلك الملابس الشتائية الثقيلة ، التي كانت تغمر جسدها . وحلّت محلّها ملابس خفيفة . ولأول مرّة بان صدرها ناهداً . من مسافة بعيدة أشرقت ابتسامتها مثل شمس الأصيل ، يجري أمامها نسيم سكران يسبقها إلى بيتها ، وخلفها يجثم هدوء جليل على الطريق ، بينما يطلّ الربيع من جواربها القصيرة .

وكما يحدث دائماً في روايات إرسين لوبين من حماس ، وانتعاش يدبّ إثر ظهور اللص الظريف ، في الوقت المناسب ؛ عادت الحياة إلينا سريعاً ، ودارت مترنّمة في دمائنا ، أكثر عنفواناً مما مضى . رحنا نستغرق شهرين متتاليين من السعادة الغامرة والابتهاج .

وعقب هذين الشهرين حدث ما لم يكن في الحسبان ! .

اقتربت مواعيد الامتحانات النهائية لتلك السنة الدراسية ، وخيّمت أجواء التوتّر . فجأة أمسك والد ( يوسف ) بخناق ولده ، الذي كان متلكئاً في دراسته ، وأرغمه على ملازمة مدرس اختاره له خصيصاً  ، يشرف على تدريسه عصر كل يوم . ومن غير تحسّب صار ( يوسف ) يتغيب عن بعض مواعيدنا ، ليفسد علينا لذّة الحب ، وسحر لقاءاتنا . ولكنّه ما لبث أن راح يمعن في الانقطاع أياماً عديدة ، ثم انصرف بكليته إلى تلك الدروس ، وقد نسي الحب ومواعيده ! .

تبدّد من بيننا مرأى ( يوسف ) ، ليطفئ شعلة الحب بغيابه ، ويكدّر حالنا .

بهتت صورة الحب يوماً إثر يوم ، وذبلت المتعة التي كانت تظلّلنا . وأمست لقاءاتنا تفتقر إلى ذلك الحماس والانتعاش .

تهيأ لي أنّني أرى نظرات الفتاة تغيم مع مرور الأيام ، وغلب على ملامحها ألم الهجران . كنت أحسّ ببرودتها إلى الحد الذي ألغت فيه موعد يوم الجمعة ، مكتفية بيوم السبت فقط ، وحتى موعد يوم السبت هذا ، بدا موحشاً بغياب ( يوسف ) .

لم نكن أنا و ( رنا ) قد مللنا الحب ، ولا شابت عواطفنا شائبة ، ولكنّ غياب صاحبنا ( يوسف ) هدّ أركان هذا الحب ، وبعثره .

لم أعد أشغل فكري كثيراً بالفتاة ، صرت أتغيب أحياناً ، وصارت الفتاة تتغيب أحياناً أخرى ، وانتابني شعور بأنّ متعتنا نضبت ، وحين شارفنا على أبواب الامتحانات النهائية  بتّ واثقاً من انقطاع حبل ذلك الحب .

بما يشبه طيش الصبا ، واتتني فكرة زيارتها إلى بيتها . وأنا أخال بأن هذه الزيارة ستكون خاتمة لقاءاتنا ، ونهاية صداقة وحبّ عظيمين . وبالفعل ذهبت عصر يوم جمعة إليها ، وأنا  أحمل معي كتاباً أنيقاً ، رغبت أن يكون هديّة على سبيل الذكرى .

نقرت على باب الحديقة بخفّة ، ليهلّ وجهها الطلق . كانت تحمل بين يديها كتاباً مدرسياً ، وكان شعرها أشعثاً . بعد أن حيّيتها أخبرتها قائلاً :

« الامتحانات على الأبواب ، وسوف أنقطع عن زيارتك ولقائك » .

« ذلك أفضل لنا ، فأنا مشغولة في دراستي ، كما تراني » .

« تفضّلي ، وتقبّلي هذه الهدية » .

« ما هذا ؟ » .

« رواية من روايات إرسين لوبين » .

« ما عنوانها ؟ » .

« الزمرّدة » .

« عنوان جميل جداً ، أليس كذلك ؟ » .

« نعم .. » .

« شكراً ، أغدقت عليّ الكثير من الهدايا » .

مضت دقيقتان من الوقت ، وأنا أقفً إزاء الباب ، وفكّرت أن أقفل راجعاً  كما كنت أفعل من قبل ، ألا أنّ الفتاة مضت تحدّق بي صامتة . و فجأة قالت لي :

« ألا تحب أن تدخل إلى الحديقة قليلاً من الوقت ؟  » .

واعترضتني غصّة ألجمت لساني ، لاحت لي دعوتها عظيمة علي ، وأوقعتني في حيرة .

« ماذا بك ، ألا تريد أن تدخل ؟ » .

أصابني شيء من الخرس ، وعلت فمي ابتسامة تفيض خجلاً ، وخطوت داخلاً ، من دون أن آتي بأي صوت . بدوت لنفسي مثل فأرة تتسلّل خلسة عن العيون  .

« هيا أدخل » .

قالت تشجّعني .

وردّت الباب الصغير دوننا .

سرعان ما انكسفت ابتسامتي ، ووقفت خلفها كأنّني ألوذ بها .

ولكنّها تركتني وراحت إلى الجانب الآخر من الحديقة ، وأسرعت تقطف وردة جورية بيضاء . رفعتها عالياً ، وأخذت تنهل من عطرها ، بينما ومضت عيناها بوميض خلّاب .

تقدّمت نحوي مبتسمة ، ودسّت الوردة تحت أنفي ، فشبّت في صدري ، في الحال ، نيران الحب متأجّجة .

قالت :

« خذها ، هي لك » .

على نحو مفاجئ نظرت في عينيّ نظرة عميقة ، تشتجر بألوان من الأحاسيس ، وطلبت منّي قائلة :

« أغمضْ عينيك يا لوبين  » ,

وأطبقت جفني  .

أحسست بذراعها تلتف بلطف حول عنقي ، ودنت بفم ، مرتعش ،  لتطبع قبلة على وجنتي .

حينما فتحت عينيّ وجدت رمشيّ مخضلين بالدمع .

كانت قبلتها حانية ، تشبه إلى حدّ كبير قبلة الأخت الكبيرة على خد شقيقها الأصغر .

« هيا اذهبْ يا لوبين ، رافقتك السلامة » .

مرّة أخرى أدهشتني برجاحة عقلها ، وأنا أنظر إليها تتصرّف ، وتسلك كأنّها امرأة بالغة .

وفي لمح البصر تواريت خلف الباب .

على خدّي ، كان مطبوعاً كل ما قرأناه من كتب لذيذة ، وبين صفحاتها راح يضوع عبق الجورية البيضاء .

 

 

 

֍ ֍ ֍

 

 

 

 

لا يمكنني أن أتذكّر ، مهما حاولت ، كيف غادرت منزلها ، وكيف ودّعتها ،  ولكنّني دائم الاعتذار ، فمن المرجّح أنّني اعتذرت لها وغادرت .

وجدت نفسي ، في أوّل المساء ، ماشياً مع ضفة النهر الكدر ، الذي اصطبغ بالطمي ، وقد ثقلت خطاه ، وكان صدري مترعاً بأنفاس الفتاة .

مشيت أقطع الدروب لا ألوي على شيء . مشيت وحيداً وحدة لا تُصدّق ، وقد سخن جسدي ، وجفّ ريقي ، وراح الصداع يعصف في رأسي ، وصدغاي ينبضان بقوة الألم . وما فتئت أشهق أنفاسي . همت في الطرقات بائساً ، والدموع تغمر عينيّ ، وأنا أحسّ بتبدّد عشقي ، وشعور طاغٍ بأنّني فقدت زمرّدتي ..

كان ألمي لا يُحتمل ، أصيب قلبي وأنا صغير ! .

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *