أن تقرأ ( الأمريكي القبيح ) في العراق . قصة قصيرة .

أن تقرأ ( الأمريكي القبيح ) في العراق .

قصة قصيرة ــ محمود يعقوب

 

 

( قال يومونج سو : يا لأمريكا المسكينة.. لقد فقد الإنجليز هيبتهم في آسيا بعد مائة عام ،  أما أمريكا فقد فقدت هيبتها في عشر سنوات ) .

                                                                        رواية ” الأمريكي القبيح ” .

    

    أخيراً حان الموعد المرتقب في العراق ؛ فانتزعت الولايات المتحدة سفيرها السيد  ” لويس سيرس ” من العاصمة  هايدهو  في دولة سارخان وقذفت به إلى أتون بغداد . والسيد ” سيرس ” كان حصاناً من خيول السياسة الاستعمارية لبلاده ، ألمّ بتفاصيل الألاعيب الدبلوماسية وخفايا أجهزة المخابرات ، حتّى بات يمكن وصفه كثعلب ماهر الصيد ،   قادر على استباحة خم الدجاج بوثبة سريعة ، في منتهى السلاسة . وفي واقع الأمر ، إن هذا السفير أينما يوّلي بوجهه فإنه سرعان ما ينجح في نشر الطاعون السياسي الذي يسمّم أرواح الناس .
   لم يفرّط السفير في وقته الثمين ، فعلى جناح السرعة أحاط سفارته ـ في بغداد ـ بمئات الخبراء والمستشارين ، ورجال الأمن والمخابرات ؛ ذلك أن مهمته في العراق أشقّ وأكثر تعقيداً وخطورة من تلك التي تطلبتها منه دولة سارخان . ففي تلك الدولة الشرق آسيوية لم يجعل الأمريكيون نصب أعينهم سوى هدف كبح جماح الشيوعية ، وتقليم أظفار الشيوعيين . ولكن هنا في العراق يتعقّد المشهد وتتشابك الصور ، وتتعدّد الغايات ، وإن مستنقع النفط ليبدو أكثر خطورة من مستنقع الأرز . وها هو السيد ” سيرس ” يتوسّل ، كعادته ، بالمكر والخدع والدسائس ، وهو يتحصّن في سفارته ، ولا يتورّع عن إنفاق الأموال الطائلة في عته وإسراف . ويواصل ما بات يحذقه في محاربة من يقف حجر عثرة أمام مصالح بلاده وسياستها ، والسيطرة على عقول الجماهير عبر كل وسيلة متاحة .
   اعتاد السيد ” سيرس ” أن يخلد إلى الراحة بعد  الساعة الرابعة عصراً ، عقب ثماني ساعات من العمل اليومي المتواصل . ولم يكن هذا الوقت وقت راحة بحق ، فغالباً ما كانت الأنباء السيئة التي تحدث في العراق تتسابق إليه في هذا الوقت . لم يحسب ، عندما وافق على السفر إلى العراق ، أن ثمة مشاكل بهذا القدر يمكن أن تنتظر مقدمه . حتّى أنه كتب ، ذات مرّة ، إلى المسؤول الأول في الشؤون الخارجية لبلاده ، ينحى باللائمة على العراقيين ، وهو يتندّر قائلاً :
« إن أردت الحق ، إنها بلاد ما بين الجحيمين على خريطة الواقع ؛ هنا إذا تناهى لسمعك أصوات هتافات من بعيد فاعلم أن مشكلة كبيرة تحدث ، وإذا سمعت دجاجة تزعق بأعلى صوتها فاعلم بأنها باضت مصيبة ، وإذا اخترق سمعك صوت من يحلف بأغلظ الأيمان فاعلم بأن السماء توشك أن تنطبق على الأرض   » .
ولكن السيد ” سيرس ” الذي استطاع أن يحرز بعض النجاحات في إيقاف المد الشيوعي في سارخان ، أبدى إقداماً وهمّة في اقتحام السبل الشائكة في العراق ؛ في ذلك الوقت الذي استغرقت فيه القوات الأمريكية بتنفيذ مهام قتالية ومخابراتية في عموم مناطق العراق ، من الشمال وحتّى أقصى الجنوب . وغالباً ما يترتّب عن أعمالها مشاكل ومآزق ، تتطلّب في نهاية الأمر تدّخل السفارة لأجل المساعدة في معالجة تلك المشاكل ؛ وهذا ما أثقل كاهل السفارة ، وأزعج السفير بحق .
   اليوم ، هو يوم الأحد المصادف ١٢آذار ، ومنذ أول الصباح بدت الأجواء مشرقة  ودافئة حول نقطة التفتيش الأمريكية ، كانت قبّة السماء متوهّجة ، وعندما قارب النهار وقت الزوال ، شرع بعض الجنود يخلعون جزءاً من الملابس التي تغطّي أجسادهم ، بعد أن اشتدّ عليهم صهد الشمس . كانت نقطة التفتيش تلك تعترض الطريق بين العاصمة ومدينة أخرى إلى الجنوب منها . وكان ذلك الطريق قد وُصِفَ في وقت  من الأوقات بأنه طريق الموت ، لجسامة الحوادث الإرهابية التي تعرّض لها المسافرون عبر الطريق . وكانت المهمة التي تبنّاها فصيل من الجنود الأمريكيين هو تفتيش العجلات والسابلة .
   غير بعيد عن نقطة التفتيش ، تناثرت بعض المنازل الريفية الصغيرة ، بطريقة عشوائية ، وأغلبها يوحي بفقر ساكنيها . وإلى جهة اليسار من نقطة التفتيش ، كان هنالك أيضاً فصيل من الجنود العراقيين الذين يتناوبون الحراسة والتفتيش مع الأمريكيين .
   كان أقرب تلك البيوت الريفية من نقطة التفتيش ، لا يبعد أكثر من مائتي متراً عنها . وهو بيت مفتوح مباشرة على الأرض الزراعية التي تحيط به . درج أحد جنود نقطة التفتيش الأمريكية على مراقبة تلك البيوت ، ولا سيّما هذا البيت الصغير . وكان ( ستيفن غرين ) وهو اسم الجندي ، من أكثر الجنود الأمريكيين تهوّراً وسوء خلق . وقد درج على وضع المنظار على عينيه ومراقبة صبية جميلة ، اعتادت اللهو واللعب مع أختها الصغيرة قرب بيتهما ، أو مع أخويها الصغيرين ، إذا لم يكونا قد ذهبا إلى المدرسة . درج يراقبها بافتتان ، ويطيل النظر إليها كل يوم . ولربما كان لرشاقة جسدها وجماله أثره الحقيقي في الاستحواذ على اهتمام هذا الجندي وعدد من رفاقه أيضاً ، الذين كانوا يتزاحمون على استخدام المنظار لأجل الاستمتاع بمتابعة حركات الفتاة .             من تلك المسافة ، لم تكن الصبية تدرك أن الجنود يراقبون كل حركة من حركات جسدها ، لذلك دأبت تلعب مع أختها الصغيرة وأخويها خارج الدار بطريقة حرّة ، أو تساعد في بعض مشاغل والدتها ، غير عابئة لأيمّا شيء . . كان عمرها أربعة عشرة عاماً ، ولكن جسدها جسد امرأة ريفية ناضجة . كان اسمها        ( هديل ) .
   في هذا اليوم ، ربما أشعل بريق الشمس في نفس ( ستيفن غرين ) المزيد من الرغبات ، فقد تشبّث بالمنظار وراح يراقب الصبية بإمعان لوقت ليس بالقصير ، كانت الفتاة لاهية ، وفي لهو الفتاة ما يثير الهوى .. راقبها إلى حدّ الاهتياج . وفي إثر ذلك خاطب أصدقاءه الجنود يعرض عليهم أمراً ، ومن غير تردّد ، أو تمحيص ، وافقوه ، وهم يتضاحكون . وانطلق الجنود صوب البيت الصغير ، يتقدّمهم ( ستيفن غرين )  . في ذلك الوقت ، كان الولدان الصغيران لهذه العائلة في المدرسة . عندما أبصرت الصبية الجنود وهم يقتربون أسرعت وندهت على أمها قائلة :
« إن الجنود قادمون نحونا يا ماما ! »
« لا شأن لكنّ بهم ، هيا أسرعن وادخلن إلى الدار » .
وفي ريبة من الأمر ، دفعت الأم بالصبيتين إلى المنزل . ولكن في إثرها مباشرة ، فتح أحد أولئك الجنود الباب من غير حشمة أو تأني ، وهو يصرخ بأعلى صوته :
« هاي .. هاي » .
ومن داخل أحد الغرف هبّ رجل ، في توجّس وقلق ، ووقف حيال الجندي ، وقال متسائلاً :
« تفضّل ، ماذا تريد ؟ » .     
   لم يجرِ أي حديث بين الرجل وبينهم ، فقد أمسك به أحدهم ، في الحال ، وقام بثني يديه خلف ظهره ، قيّدهما في منتهى القسوة ، وقاده نحو الغرفة التي  كانت الأم وابنتاها يقبعن في داخلها ؛ في حين اكفهر وجه الرجل ، وأوشكت الشمس المتوهجة أن تغيم بين عينيه ، لم يحر جواباً ، بل كان عاجزاً عن نطق شيء إثر هذه المباغتة . وفي الحال أمر ( ستيفنس ) رفاقه بأن يوقفوا الوالدين وطفلتهما الصغيرة ووجوههم إلى الحائط . ثم أمسك بيد الصبية    ( هديل ) وسحبها معه خارجاً ، وهو يأمر رفاقه بقتل أفراد العائلة سريعاً . وبدم بارد توالت طلقات عدّة أطاحت بالأب والأم وصغيرتهما .
   في الغرفة المجاورة قام ( ستيفنس ) بطرح ( هديل ) على الأرض ، وشرع يخلع سراويله . وكانت الصبية تهتزّ مرتجفة ، وهي تعضّ على شفتيها بقوة ، وكانت قد أغرقت في التبوّل على نفسها من فرط الفزع والرعب ؟ . إلّا أن ذلك لم يثنه عن عزمه ، فقد انتزع سروالها المبتل ورمى به بعيداً عنه ، وشرع في اغتصابها على مهل ..
كانت عينا الفتاة غائمة ، وربما كانت فاقدة الوعي ، حين تناوب الجنود الثلاثة الآخرين على اغتصابها . وما أن أتموا فعلتهم حتّى دخل ( ستيفنس ) على الفتاة ثانية . ومن غير أن ينتظر شيئاَ ، وضع فوهة بندقيته على جبينها ، وفجّر رأسها في الحال . وقف إزائها متأملاً بضعة لحظات ، ثم طلب من رفاقه أن يأتوه بشيء من الكيروسين ، إذا ما عثروا عليه في المنزل . وبالفعل فقد أسرع أحدهم إلى إحدى زوايا المنزل وجاء بصفيحة ممتلئة بالكيروسين . تناولها منه ( ستيفنس ) ، وصبّ الكثير منه بين ساقي الفتاة ، وأشعل النار في جسدها الغض ، ثم أوصد الباب دونها . لقد رشف الجمال وكسر القدح ! .
   أتمّوا كل شيء ، بخفة ، ومهارة ، وسرعة ، وإتقان ؛ وعادوا إلى نقطتهم والبشاشة تغمر وجوههم ، كما لو كانوا قد انتهوا من تفتيش  مركبة عابرة للطريق . لم يشعر أي منهم بأنهم كدّروا ألق النهار بآثامهم . من أمام نقطة التفتيش ، كان البيت يلوح في غاية السكون ، لا شيء يتحرّك من أركانه ، ما عدا خيط من دخان كان يتصاعد متعثّراَ ، ويذوب خجلاً في السماء .
   بعد مرور ما يربو على الساعتين من الوقت ، عاد الولدان الصغيران من المدرسة ، وما أن وطئت أقدامها المنزل حتّى شقّ صراخهما عنان السماء ، وخرجا هلعين ، مرعوبين إلى العراء ، يلوذ أحدهما بالآخر . وظلّا يبكيان بمرارة ، يتقدّمان تارة نحو باب المنزل ، وتارة أخرى يبتعدان عنه ، حتّى تنبّه لهما بعض الجيران وسارع نحوهما . بعد ساعة من الوقت ، أمسى هناك لفيف من سكّان المنطقة ، وهم يدخلون البيت ويخرجون منه ، في حركة دؤوب . 
   في إثر تقاطر أعداد من الناس إلى البيت المنكوب ، وتجمهرهم قربه ، علا لغطهم وضجيجهم ؛ ما دفع برجال الحاجز الأمريكي إلى الإسراع صوب البيت أيضاً ، وكان من بينهم الجندي ( ستيفنس ) . وفي حركة من التمثيل المسرحي المخادع ، أبدا الأمريكيون أسفهم لما ألمّ بهذه العائلة المسالمة ، وانتشروا على الفور في أنحاء المنطقة للبحث عن الجناة . وعقب ساعة من الوقت تقريباً ، عادوا ليقولوا أن لا أثر للجناة ، وهم يعتقدون ، زيفاً ، أن من ارتكب الجريمة هم الإرهابيين حسب المعطيات الأولية التي توصّلوا إليها  ، وأنهم سوف يتابعون تحقيقاتهم وبحثهم ، وتعقّب الجناة ! .
   وعلى العكس من ذلك ، كان الفصيل العسكري العراقي غائباً عن المشهد . فقد كان موضعه بعيداً عن مكان الحادث بعض الشيء ، وليس بوسع أحد من جنوده سماع أصوات اللغط ، أو رؤية ما يحدث بوضوح . ولكن كان ثلاثة من الجنود منهمكين في معالجة خلل أصاب عجلة نقل ، على مسافة قريبة من فصيلهم ، وقد تسنًى لأحدهم أن يبصر ، على نحوٍ شبه غائم ، جمع من الجنود الأمريكيين في طريق عودتهم من المنزل ، الذي التف حوله جمع من الناس . فخاطب زميليه قائلاً :
« انظرا هناك ، يبدو أن ثمة حادث قد وقع » .                                                                                                                                                                                                    وانتصب الجنديان الآخران ، وصوّبا أنظارهما نحو ذلك المنزل ، وقال أحدهما :                                                                                                                                                         « يبدو أنه حادث خطير ، هيا بنا لنستطلع الأمر » .                                                                                                                                                                                                                                                                                                             وهبّ ثلاثتهم إلى ذلك المكان يحثّون الخطى .                                                                                                                                                                                                         فور وصولهم ، علموا من أحاديث الناس المتجمهرين أن جريمة مروعة أودت بحياة ربّ المنزل وأفراد عائلته . وكان بعض هؤلاء الناس يدخلون إلى البيت لإلقاء نظرة على الجثث .  قال أكبر هؤلاء الجنود سنّاً ، واسمه ( غني ) لصاحبيه :                                                                                                                                                                                           « دعونا ندخل إلى البيت ونشاهد ما حدث » .                                                                                                                                                                                                  وكان ( غني ) هذا شابّاً ريفياً شجاعاً وذا مروءة وحكمة . ووافقه زميله الآخر المدعو  ( فوزي ) ، بينما لم ينطق الجندي الثالث بشيء وظلّ متسمّراً في مكانه ، وكان هذا الجندي معروفاً باسم ( سلام السائق ) ، وهو سائق الفصيل . وعلى الرغم من محبة الجميع له ، وألفته ، إلّا أنه كان رعديداً ومتردّداً في أغلب المواقف ، ما أن ولج صديقاه ( غني ) و ( فوزي ) إلى داخل البيت ، حتّى أسرع  وأثنى قدميه عائداً إلى فصيله ، بعد أن أدرك أن الحادث جريمة قتل عائلة برمّتها .                                                                                                          اقتحم ( فوزي ) وصديقه الغرفة الأولى ، وشاهدا الأب والأم وطفلتهما مضرّجين بدمائهم على أرضها ، وكان واضحاً لهما أن العائلة أُعدِمت معاً ، وفي وقت واحد ، ومن موضع إطلاق نار قريب جداً . كان ( غني ) ملمّاً بتجارب السلاح ، وعارفاً  بمثل هذه الأمور . ثم عمدا إلى الغرفة الأخرى ، وصدمهما مرأى الصبية المحروقة .                                            حدّقا بها ملياً .. حدّقا بألم وخذلان . تصلّبت أجسادهما ، وارتعشت شفاههما ، ورشح كل منهما عرقاً من تحت ياقة قميصه ، وكانا أشبه بالميتين .                                                    دار ( غني ) حول جثتها بضع دورات ، وراوده الشكّ وهو يتفحّص ما فعله الطلق الناري في رأس الفتاة . ومن غير حسبان حانت التفاتة منه ليرى السروال الداخلي للفتاة مرميّاً على مبعدة منها ، فدنا منه ، والتقط عوداً سميكاً من الأرض ، ليقلّبه به ، وأخذ يتملّاه بدقّة . كان اللباس لا يزال مبتلّاً ، ورائحة البول تفوح منه ؛ حينئذٍ التفت إلى ( فوزي ) وأخبره ، بصوت خافض :                                                                                                                                                                                                                                                               « إن الفتاة ، على الأرجح ، اغتصبت  قبل قتلها ، والمجرم رمى بلباسها بعيداً ليتخلّص من رائحة البول  » .                                                                                                           بدأت شكوكهما تنمو . راحا يدوران في الغرفة ويتفحّصان كل شيء فيها ، وفجأة أسرع ( فوزي ) ليلتقط علبة ماء بلاستيكية شبه فارغة ، مرمية في إحدى الزوايا ، ورفعها ليريها إلى      ( غني ) . بهت الاثنان معاً فقد كانت تلك العلبة من النوع الذي يستعمله الأمريكيون . وهنا أمسك ( غني ) بساعد زميله وقاده إلى الغرفة الأولى ثانية ، وهو يقول له :                    « دعنا نبحث عن أثر لطلقات الرصاص ونرى » .                                                                                                                                                                                               وكان الأمر في منتهى السهولة ، فسرعان ما عثرا على بعض طلقات الرصاص غائرة في الجدار الذي قُتِلَت العائلة قربه . وحينما دقّقا النظر فيها أدركا أنها من العتاد الأمريكي .         « لقد شككت بالأمر حالما رأيت كيف تم فلق رأس الفتاة ، لا تفعل مثل ذلك سوى البنادق الأمريكية » .                                                                                                               وعادا أدراجهما ليفرّقا شكوكهما بين جنود فصيلهما ، تلك الشكوك التي ترعرعت الآن وراحت تربو إلى اليقين . ولكنهما تفاجئا أيضاً باعتراف بعض الجنود الذين شاهدوا الأمريكيين يقصدون موقع الجريمة قبل حصولها بوقت قصير ! .                                                                                                                                                                                          بعد الأخذ والرد بين الجنود العراقيين ، في تفاصيل الجريمة ، صار الأمر إلى أن تُرفع تلك الشكوك إلى أيّة لجنة من لجان التحقيق إذا ما قصدت إلى الفصيل لتحرّي الجريمة .             صدقت الظنون ، في نهار اليوم التالي ، طلّت لجنة تحقيق أمنية ، وبعد زيارتها موقع الجريمة ، وفي أعقاب ضبط شهادة بعض السكّان المحليين ، المجاورين لمحل الحادث ، توجّهت اللجنة إلى الفصيل العسكري العراقي ، والتقوا بالضابط المسؤول هناك . سرعان ما استنجد الضابط بشهادة الجنديين ( غني ) و ( فوزي ) اللذان أبديا استعدادهما للتعاون مع أفراد تلك اللجنة . وما لبث الجميع أن قصدوا موضع الحادث ، وهناك تصدّى غني لشرح شكوكه أمام أنظارهم ومسامعهم كما لو أنه رجل تحرٍّ .                                                           يبدو أن الشكوك تلك أخذت تساور الجميع ، فقد أوصت اللجنة الأمنية بضرورة استجواب الجنود الأمريكيين الذين كانوا متواجدين في الحاجز الأمريكي يوم وقوع الجريمة ، ورفعت الطلب إلى مرجعياتها لتقديم الطلب إلى الجانب الأمريكي .         
           
♦♦♦♦
 
     في صبيحة يوم الاثنين التالي ، نقرت السكرتيرة الصحافية للسفارة الأمريكية باب غرفة السفير ، ومن غير أن تنتظر حتّى يأتيها الرد ، اقتحمت الغرفة ، في وقت كان فيه السفير قد أغرق في مطالعة ملف سميك بين يديه . ومن غير مقدمات تساءلت السكرتيرة :                                                                                                                                              « هل نمى إلى سمعك أحدث المشاكل ؟ » .                                                                                                                                                                                                        « أعتقد أنه لا توجد نهاية لمشاكل العراقيين » .                                                                                                                                                                                                 قال السفير ذلك وهو منكب على الملف .                                                                                                                                                                                                             « ولكنها مشكلة الأمريكيين هذه المرّة » .                                                                                                                                                                                                         رفع السفير عينيه عن الملف ، وراح يتطلّع في وجهها ، ونظراته تنصبّ على أنفها المستقيم الذي ينسكب منه معظم كلامهاا . وشرعت تسرد تفاصيل حادثة اليوم السابق ، وكانت طريقة سردها توحي بعمق المشكلة ؛ بينما أنصت السفير إلى الحكاية في غاية البرود . وحينما انتهت منها ، لمعت عينا السيد ( سيرس ) بالخبث والمكر ، وبادر يسألها :                      « هل ثمة شيء تخشين أمره في هذه المشكلة ؟ » .                                                                                                                                                                                             « هناك شاهدان من الجيش العراقي ، يمتلكان أدلّة تدين جنودنا » .                                                                                                                                                                       « هل بحوزتنا اسمي هذين الجنديين وعنوانهما ؟ » .                                                                                                                                                                                              « بالتأكيد با سعادة السفير » .                                                                                                                                                                                                                          وعندئذٍ ابتسم بنعومة ومكر ، وقال لها :                                                                                                                                                                                                                « إذن لا توجد أيّة مشكلة ، سوف نصلح الأمر على جناح السرعة » .                                                                                                                                                                      وفي الحال سرح بأفكاره بعيداً . كانت السكرتيرة تتأمّله في وقفتها ، بدا لها عجوزاً لعيناً ، يتخاطب مع الشياطين ، ويستنبط منهم أروع الأفكار والحلول ، طبعت على شفتيها ابتسامة اطمئنان . وما لبث السفير أن التقط جهاز تلفونه ، وقبل أن يستغرق في مكالماته ، سألته :                                                                                                                                     « هل تأمر بشيء سعادة السفير ؟ » .                                                                                                                                                                                                                   « كلا ، يمكنك الانصراف ، واحرصوا على كتمان هذه المشكلة بشكل صارم » .                                                                                                                                                       « هذا ما نقوم به لغاية الآن  » .                                                                                                                                                                                                                       وفي الحال اتصل السفير بمركز قيادة جيش بلاده في العراق ، وانهمك في الحوار بشأن تلك الحادثة ، وكيفية التضليل على مشاهدها ، وإلصاقها بجهة إرهابية ، ومحق الحديث عنها . لم يُجهد السفير ( سيرس ) نفسه بالتفكير عن تلك الجريمة ، فقد كانت الحلول السريعة جاهزة في ذهنه . استمع إليه ضباط القيادة جيداً ، وعملوا بنصائحه ، لأنهم يدركون عمق الحيلة والدهاء الذي جبل عليه هذا الرجل طوال مسيرته المهنية في خدمة بلاده .
   في صبيحة اليوم الثالث ، تم استدعاء الجنديين الشاهدين إلى نقطة الحاجز الأمريكي ، للمثول أمام لجنة تحقيق أمريكية رغبت بالاستماع لشهادتيهما ، وكان هذا الطلب مخالفاً لكل القوانين والأعراف الأمنية والعسكرية . وحضر الشاهدان برفقة مأمور مكتب الفصيل . ولكن هذا المأمور لم يُسمح له بالدخول إلى النقطة ، ففضل واقفاً في الخارج لوقت طويل ، حتى طلّ عليه أحد الضباط الأمريكيين وأمره بالانصراف ، بحجة أن التحقيقات سوف تستغرق ساعات أخر .                                                                                              منذ ذلك الحين ضاع خبر الجنديين ، انتظر عودتهما ضابط الفصيل حتى المساء ، ولمّا يأس اصطحب المأمور نفسه وقصد النقطة الأمريكية ، ليستفسرا عن أسباب تأخر الجنديين ، فتم إخبارهما بأن الجنديين غادرا نقطة التفتيش فور تثبيت إفادتيهما ؛ ليس الأمر هكذا وحسب ، بل أن مصير الجنديين طُوِيَ في غاية الغموض حتّى لم يعد إي أحد من أبناء آدم الاستدلال عليهما .
   إن تلك الجريمة النكراء ، وما دار حولها من لغط ، وما أعقبها من ضياع الجندي ( غني ساجت ) والجندي ( فوزي خضر ) ، لم تمرّ على أحداثها  أكثر من أثني وسبعين ساعة فقط حتّى رُكِنَت جانباُ ، وعُدّت قضية مجهولة . والعجيب في الأمر ، أنه طوال تلك الأيام الثلاثة ، لم يسمع أحد فيها صوتاً لحكومة البلاد ، أو يرى لها أثراً ، ومردّ ذلك يعود ، بما لا يقبل الشك ، إلى قوّة ودهاء عمل السفير ( سيرس ) في العراق ونجاعة وصفاته السحرية .                                                                                                                                                      هنا ليس بوسع كل من تأثّر لسماع أحداث هذه الحكاية الأليمة واهتزّت مشاعره ، سوى أن يعود ليستأنس برأي ذلك الجندي المتردّد ، الهلوع ( سلام السائق ) ، الذي فرّ من مسرح الجريمة ناكصاً ، وعائداً على جناح السرعة إلى فصيله ، على مرأى من جميع الجنود . فحينما لامه أقرب أصدقائه قائلاً له :                                                                                        « كيف سوّلت لك نفسك أن تتنصّل عن صديقيك وتقفل عائداً بمفردك ؟  » .                                                                                                                                                    حينها ، انكفأ ( سلام ) مدافعاً عن نفسه ، وهامساً في أذن صديقه :                                                                                                                                                                         « بصراحة ، أعترف بأنني درجت أن أخاف عاقبة الأمور عادة ، فحينما طللت برأسي على ذلك البيت ، وشممت رائحة الموت ، رجعت على أعقابي من غير تأخير لأجل أن أصون نفسي من الانزلاق في ورطة خطيرة .. ورطة لا يمكن أن تمنعها وتدفعها عني الحكومة ، فأنا أعلم تمام العلم بأن الأمريكيين أينما حلّوا ، فسوف يعملون جاهدين على صنع حكومة محليّة سائلة ، تترجّرج في إنائها ، يمكنهم أن يميلوا بها إلى أية جهة بمجرد تحريك الإناء » .
ثم حدّق ( سلام السائق ) في وجه من كان ينصت إليه ، عبر نظرة عميقة انطوت على الكثير من المعاني ، ورغب في قول الكثير مّما يبطنه ، ولكن قبل أن يستطرد في كلامه ، سبقه ذلك الصديق ليقول :
« هذا صحيح ، إذا ما فكّرت في الأمر من هذا الجانب ، لا يمكن أن تسوّغ لك نفسك أن تضعها موضع الخطر ، ومن الحكمة أن تنفض يديك يأساً من الحكومة ، كما تنفض الأنامل تراب الميت عنها ؟ » .
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القصة مقتبسة من الملفات الإلكترونية لمركز جنيف الدولي للعدالة / منظمة تعنى 
 بحقوق الإنسان . ورواية ( الأمريكي القبيح )هي  رواية سياسية من تأليف يوجين بورديك و يليام يدرر صدرت عام 1958 تصوّر الفشل في السلك الدبلوماسي الأمريكي في جنوب شرق آسيا . … أثار الكتاب ضجة كبيرة في الأوساط السياسية والدبلوماسية لفترة طويلة إثر صدوره .  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *